هندسة العبودية الطوعية.. سادغور واعظًا
بلحية بيضاء كثيفة، وعمامة موحية بشخصية واثقة وعقل حكيم، ومع لباسه الفخم، يتربع المدرب الهندي سادغور يدعو الناس إلى تعاليم اليوغا، وأدبيات "التأمل"، لتجاوز قسوة الحضارة واغترابها.
وحيث يتربع بوذا على مزارع العم سام مرورًا بأبراج الرمال العالية، تتشكل "هندسة العقل" من على ألسنة معجبيه المتوافدين إلى محاضراته بالآلاف، بحثًا عن تحقيق ذواتهم وطموحاتهم في الحياة؛ فالواعظ الهندي لن يمنحك إيمانًا بقدراتك وتميزك ما لم تعتقد، أنّ تصالحنا مع الطبيعة هو بداية إيماننا بالموجودات، فالمستقبل كون لا يرغب سادغور الغوص فيه بتفاصيله وتجلياته، ولا استجلاب الماضي الذي يأسر ذواتنا ويقتلنا في صمت.
وسادغور بقدر ما يسترضي مريديه، فإنه يتغافل عن تثقيفهم وإرشادهم للمعرفة، حيث تضع الحقيقة تساؤلات كثيرة حول ما يريده سادغور من تعليم جماهيره طقوس اليوغا، وهم تقتلهم آفات الحضارة ويشهدون إبادة مجتمعات من على وجه الحقيقية؟
تتجسد "فكرة العبودية" على المجتمع بجعل الأفراد هوامش ضمن حلقة مفرغة من الإدراك لعالمهم، معتقدين أنّ ما اصطنع السيد بثوبه الإمبراطوري حقيقة مطلقة
ثالوث العبودية
سنترك سادغور جانبًا لبعض الوقت، لنقتفي كيف تهندس العبودية في زمن حفاري القبور، حيث تتحرك الحضارة نحو المزيد من التشظي والتمييع، وفرض نمط استهلاكي تتلاشى معه أدنى القيم الإنسانية والتضامنية، ولنقل إنّ الحروب البشرية والجوائح الطبيعية المهددة للخلاص الإنساني، لم تستطع بالقدر الكافي تحييد "نمط الاستغلال الإمبراطوري" لعالم الأشياء، إذ يتوقف الانعتاق والحرية على تحديد هوية من نحن، وهل بإمكان شعوبنا أن تقود القاطرة نحو خلاصها وتنمية ذواتها ومجتمعاتها.
تتجسد "فكرة العبودية" على المجتمع بجعل الأفراد هوامش ضمن حلقة مفرغة من الإدراك لعالمهم، معتقدين أنّ ما اصطنع السيد بثوبه الإمبراطوري حقيقة مطلقة، ويكمن ذلك بارتكاز الإمبراطور على نشر الجهل وبث الخوف، وهما الأساسان لتمكين الآباء التاريخيين من الحق في تقرير مصائر الهامش، وتنظيم مجتمعاتهم وفق رؤية سادية إلغائية للتنوع والاختلاف، إذ يكمن رفض الحقيقة باستعادة الخرافة سلطتها وهيمنتها على المجتمع، لينبري الأخير في قمع الأصوات الفردية المناهضة للاستغلال والتبعية.
حينما يسود الجهل، يغشى الناس الخوف من زوال نعمهم وأمنهم ومعاشهم، فينظرون إلى الخرافة على أنها حقيقة ستخلصهم من أمراضهم النفسية، وتمنحهم آمالًا نحو مستقبل مثخن بالرفاهية، وهم بذلك يجعلون الأب التاريخي قالبًا لمشاريعهم التنموية والإصلاحية، ليصعب إزاحة رؤيته الأحادية التي تتخذ من فقد الوظيفة والسكن والأمن وغيرها من "ضرورات" الحضارة مقياسًا للرفاهية، ولتسجن ذواتنا في خيبات الثورة وأسطورة الدولة وادعاءات أنبياء الحداثة.
يقترن الجهل مع الخوف بغرض إنتاج ذات مستلبة، مقموعة بالخرافة ووهم الفقد، تلك الذات يمكنها استنساخ مجاميع تصطف حينما يعود "الأخ الأكبر" من عند الإمبراطور مخزيًا يغشاه الذل والهوان، لكن الجهل والخوف لا يملكان السلطة القهرية ما لم تتخذ "الرغبة" لها ثالوثًا نحو الإذعان للسيد وتمكينه، حينها تنساق النفس نحو تأليه الإمبراطور، فالفتن تعرض كأعواد الحصير على قلوب البشر، ومن استساغها انساقت نحوه، وطلب الملك والسلطة والسعي نحو المال والتسامي المفرط والانقياد لعالم السلع، يسوغه ثالوث العبودية المختارة، حيث ترابط المجاميع طوعًا على الأرصفة منتظرة سيّدها، يشير إليها بيده الملطخة بالخيانة والتبعية.
مشكلة البشر باتت أقرب للهوس بالخرافة والاختلاقات والتلفيقات، حتى الاحتلال الصهيوني يعظ الفلسطيني بالتخلي عن المقاومة وعن حقه الإنساني، ولتصبح التقاليد الاستعمارية الجديدة شرعة القانون الدولي
رمزية سادغور السلطوية
ها نحن الآن مع سادغور الواعظ، والذي لا يتأخر في التعبير عن قدرات الإنسان الهائلة، أقصد تلك التي تتنامى داخله من حيث الإرادة والفعل والقدرة على تخطي المستحيل، وحيث ينبري خطابه الوعظي للتسامي، والتصدي لإكراهات الآخر بتفعيل إرادتها، وذلك لبلوغ التوازن والاستقرار النفسي، الذي يتمركز داخل دائرة "الرفاهية المادية" للحضارة.
تبدو الرفاهية لدى كثيرين سيارة فخمة، ومساكن تغمرها حدائق معلقة، وأموالًا مكدّسة في حسابات بنكية يرقبها أعوان كثيرون، ولنقل إنّ التسوّق في أبراج الرمال العالية، واقتناء أشياء غالية، هي الأخرى ترسم "ملمح الرفاهية" التي لا يتأخر سادغور ذاته عن الاعتناء بمتطلباتها، بينما يجلس لساعات طوال يحدث أتباعه عن السّلام النفسي والراحة الأبدية، في حين أنّ الرفاهية -وإن تلاحت أمارتها لدى الحالمين كما ذكرنا من قبل- لن تتحقق حتى تبلغ الذات منزلة الرضا، والقناعة بما لا تملك، واقترابها ممن سخّر لها الطبيعة.
نرى سادغور واعظًا مجاميعه وفق اختزالات معرفية مدجنة، يوصيهم بأكل البرتقال كونه منح "مجهولًا" شفاء عاجلًا، أو يدعوهم لحضور ليلة اكتمال القمر "بورنيما" بغرض التخلص من طاقاتهم السلبية، أو بالأحرى تحفيز القاعدين لينغمسوا في ظلمة تسوقها عيون لا تريد رؤية صور القتل والتهجير والتمييز العنصري.. سينتابك قلق عميق، وسؤال مربك مفاده: لماذا تسعى الجماهير نحو شيء تخيطه الخرافة، وتؤسطره ادعاءات مناقضة للعلم؟
حين تقتفي خطاب سادغور ستجده يرمز للسيّد الناعم، والذي له القدرة على إنتاج عبودية تخدمه وتنساق إلى توصياته، فخطابات الدكتاتور وهو يحاضر مجاميع نظامه، ترتكز على رغبة الهامش لتحقيق مكاسب مادية، وعلى اغترابه الموحش، والناجم عن سطوة الحضارة المادية، وغزوها لكل ما هو إنساني.
يعيش سادغور على الجماهير ساجنًا ذاته في هرمية وهم الرفاهية، إمبراطورًا بمؤسسته "إيشا"، تخدمه القينات، غير أنّ أوامره تأخذ "ملمح الخلاص" في قرابينها حين تتغشى الجماهير بركاته، وقد شابهت جلساته الوعظية أولئك الذين يتربعون على كرسي السلطة يحاضرون قومهم عن القوة والوطنية، واستعدادهم للحرب ليس ضد عدو قد احتل أرضهم، بل ضد الحرية والعدالة التي لطالما انبرت أصواتها في الميادين، أنى لها أن تحيا بكرامة وإنسانية، وما يتقوّله سادغور ضمن هندسة النفس البشرية لأتباعه، لا يخرج عن "اللاديني" الذي صنعت منه الحضارة الغربية المادية إنسانًا مستهلكًا، وفاقدًا لأدنى التزام أخلاقي تجاه الحرب والإبادة والتهجير، فسادغور لم يتحلَّ بالشجاعة لقول الحقيقة أمام جور الإمبراطورية وسطوة الاستعمارية وتفشي أوبئة الحضارة الموحشة.
سادغور، وهو العنوان الأكبر للسيد المهيمن على آمالنا وأحلامنا ومستقبلنا، وبالمعنى الذي تتمكن من خلاله تحرير طاقة إيجابية، لا يسعى لإسقاط فساد الإمبراطور، بل للانسياق طوعًا نحو إعادة تصنيف الدكتاتورية، وتمكينها مرة أخرى بتسميات متناقضة، وبالعودة إلى ما لا يريده سادغور، فإنّ "الحكمة" لا تحتاج إلى وعّاظ وسياسيين، فيكفي أن ينظر مريدو سادغور إلى "حقيقة الرفاه" كيف يحشر في المادية، من دون تحقيق البدائل القيمية للحضارة، وتوأمة الخرافة بالمعرفة المجتزأة، واتخاذ المغيبين أتباعًا، وعدم النظر إلى مرآة الحقيقة، بداية عملية هندسة العبودية الطوعية في صورتها الحضارية، وضمن استخداماتها الناعمة للإمبراطور، تحت عنوانَي التأمل والعلاج النفسي.
فمشكلة البشر باتت أقرب للهوس بالخرافة والاختلاقات والتلفيقات، حتى الاحتلال الصهيوني يعظ الفلسطيني بالتخلي عن المقاومة وعن حقه الإنساني، ولتصبح التقاليد الاستعمارية الجديدة شرعة القانون الدولي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق