الخميس، 20 فبراير 2025

لماذا ينتحر شاب مصري في بث مباشر؟

 لماذا ينتحر شاب مصري في بث مباشر؟

يوسف الدموكي
صحفي وطالب بقسم التلفزيون والسينما في كلية الإعلام بجامعة مرمرة



مصطفى محمد شاب ثلاثيني بشوش الوجه، حين تراه تحبّه، تظنّه إمامًا شابًا في المسجد الذي على أوّل شارعكم، يلعب كلّ جمعة مساءً في حجز الملعب الخماسيّ على أوّل البلد، يُناديه البعض بالأستاذ والآخرون بالشيخ، وفي الملعب يناديه أبناء اللعبة بالشيخ محمد السنّ، كما جرت العادة في مصر لكلّ من له لحية تزيد بمقدار ضئيل عن ذقنه. يبدو الشاب طيّبًا بشوشًا مثل أكثر من تلقاهم في هيئته بتلك السن، في مزيج بين التديّن الشعبي والملتزم، في كثير من أرض مصر، شابٌّ لا تخطئه عينك في صلوات العيد، وفي تراويح رمضان، وفي مواسم الخير، وفي جمعيات الزكاة والصدقة، وربما للسمتِ ذاته تحديدًا اعتُقل مصطفى، المريض بالصرع، بتهمة الانتماء إلى "داعش"، كمئات الآلاف الذين اتُهموا بالانتماء إلى جماعة محظورة أو تنظيم إرهابي على مدار اثنتي عشرة سنة في عهد الحاكم بأمره.

اعتُقل مصطفى، وتفاقمت حالته المرضية، حتى أُفرج عنه بعد نحو 18 شهرًا من دون إثبات لأيّ تهمة، ولكن قبل الإفراج، أو بعد الاعتقال مباشرة أُخفي محمد قسريًا لمدّة 37 يومًا في أقبية الأمن الوطني، رأى فيها صنوف العذاب والويلات، وماذا يحدث هناك؟ 

محدّثك الآن مرّ بهذه المرحلة في اعتقاله، وقضى أشنع ليالي حياته في هذه الأقبية، وإن كنتُ لم أعذَّب كثيرًا نسبةً لما سمعته، فإنّ الفرشة التي نمت عليها وهي غارقة بالقيح والدم والعرق والبول لمختفٍ قبلي ربما استُشهد من التعذيب، تعلم جيّدًا الجحيم الذي تحت الأرض في مصر، وكم صيدنايا لا يعلم عنها أحد شيئًا، لكننا (الذين مروا بها) نعرفها جيّدًا، وإن غطوا عيوننا طوال الوقت فيها حتى وجدنا أنفسنا إما في القبور أو في صحراء سيناء نصفَّى، أو في النيابة حين يحالفنا الحظ ويلطف بنا الله ولا تحين ساعتنا، فكم ذاق مصطفى طيلة خمسة أسابيع من العذاب المتواصل، ومع تهمة مثل "داعش"!

لا يعلم أحد كيف يعيش من يخرجون من معتقلات السيسي في مصر، ولا أحد يدري بهم ولا بهمومهم

ثم خرج مصطفى، قبل شهور، متفاقمةً ديونه، يلاحقه دائنوه، والأكثر من ذلك، أن التي لاحقته هي ذكرياته السوداء، ولا يعلم أحد كيف يعيش مَن يخرجون من معتقلات السيسي في مصر، ولا أحد يدري بهم ولا بهمومهم. نحن مرضى حتى اليوم، مرضى نفسيون في أحسن الأحوال، ومرضى بكلّ أمراض الدنيا في العموم، فخرج مصطفى أكثر سقمًا مما دخل، وهو المريض بالصرع كما أسلفنا، والمعتقلات بحدّ ذاتها كفيلة أن تصرعك طوال عمرك وبقية حياتك، فتخيّل إن دخلتها كذلك أصلًا، وكلّ ذنبك لحيةٌ لا تجاوز قبضة اليد!

على الهواء، في بثّ مباشر عبر صفحته، جلس مصطفى يقول: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، ويوكل ذنب موته إلى من تسبّب فيه، ثم ابتلع حبوب غلّة سامة، اشتهرت في مصر مقترنةً بحالات الانتحار السريع، للشبان الذين ضاقت عليهم هذه الحياة، التي سرقها اللصوص الكبار، وقتلها القتلة الكبار، واختطفها قطاع الطرق الكبار، حتى أفضت روحه إلى بارئها، وحسبه أنه عند ربه، عساه يغفر له خطيئته، وهو الجبّار الذي لا يُظلم عنده أحد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق