الاثنين، 17 فبراير 2025

نور الدين العلوي استاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية

 

هل تغيِّر سوريا نظرة الغرب إلى الإسلام الكفاحي؟!

نستعمل هنا مصطلح الإسلام الكفاحي الذي يقترحه المفكر التونسي زهير إسماعيل بديلا عن مصطلح الإسلام السياسي الوافد من الأكاديميا الغربية




شيء ما يتغير في الشرق العربي منطلقا من سوريا. نتحسس تغيرات في طبيعة الخطاب والممارسة السياسية للزعامات الإسلامية التي تقود الثورة السورية نحو دولة حديثة قد تتجاوز التجارب والنماذج السياسية العربية المعروفة، ونستعمل هنا مصطلح الإسلام الكفاحي الذي يقترحه المفكر التونسي زهير إسماعيل بديلا عن مصطلح الإسلام السياسي الوافد من الأكاديميا الغربية.

تكرر علينا الساحة السياسية السورية نفس المشهد السياسي الذي عرفناه في بلدان الربيع العربي، مشهد به نخب فكرية عاجزة عن التنظم في صورة سياسية، وبه حضور قوي لقوى إسلامية لا تقف في مقابلها أحزاب غير إسلامية أو منظمات فاعلة.

ونعاين من حول سوريا نفس المشهد الدولي الغربي بالخصوص الذي ينصح ببناء الديمقراطية ويكفر بنتائج صناديق الاقتراع التي توصل الإسلاميين إلى الحكم. لذلك نرجح أن سوريا ستعايش نفس العوائق التي عانتها تونس ومصر قبلها في الخروج إلى وضع سياسي مقبول شعبيا ومرضي عنه غربيا إلا إذا أحسنت القيادة السورية الاستفادة من أخطاء من سبقها. ونظنها تفعل.

كأن إسلاميي سوريا المنتصرين مختلفون عمن عرفنا من القيادات الإسلامية أو كأن الغرب الذي يرحب بالرئيس الشرع بدأ يغير اقتناعاته وخططه السياسية اتجاه الإسلاميين. هذه المحبة المفرطة للشرع وفريقه تريب كل لبيب.

كانت سوريا تشبه بقية البلدان العربية

التاريخ السياسي السوري الحديث، خضوع لاحتلال غربي فثورة تحرير فمشروع دولة وطنية وبناء تجربة ديمقراطية ثم انقلاب عسكري وتجريف سياسي لأكثر من نصف قرن. هذا نفس وضع مصر وتونس والعراق قبل الاستقلال وقبل الانقلابات العسكرية (مع فوارق طفيفة).

مرحلة الدولة الوطنية بشعاراتها القومية خاصة دمرت شعوبها، معتمدة دوما على حزب واحد يشتغل كجهاز رقابة أمنية. التجربة ذات الطبيعية الستالينية شيّأت النخب وأعدمت الطموحات الشعبية فتخلت مكرهة عن المشاركة السياسية والعمل العام فكانت الاستقالة الجماعية التي تركت فقرا سياسيا عميقا في كل الأقطار. لقد جرفت كل الأنظمة العربية كل ساحاتها السياسية تجريفا تاما نطل عليه الآن في سوريا وقد عرفناه في غيرها. ولم تملأ الحزيبات المصطنعة الفراغ الذي خلقت من أجله.

ظهرت نخب حداثية متنوعة الخلفيات أو بالأدق غير إسلامية ونظّرت للديمقراطية والحريات ونشرت ثقافة حقوق الإنسان في الوعي العام، ولكنها لم تبن قوى سياسية فعالة ولم تقترب من شعوبها. فلما بلغنا تجربة الربيع العربي انكشفت لنا طبيعة النخب الناجية من التجريف السياسي وأسلوب عملها. هذه النخب عاجزة بذاتها قادرة بغيرها، وقد كشفت استعدادات للاستعانة بكل قوة خارجية تمكنها من السلطة من خارج الصندوق الانتخابي. ونرى سوريا على الطريق فالعلامات تتوالى، بما يجعلها تكرارا لحالة تونس ومصر وقبلهما حالة الجزائر.

في كل هذا المشهد العربي المتشابه لم تنج من التجريف إلا القوى الإسلامية، ولكنها واجهت الفيتو الغربي على حكمها؛ فقد قال الغرب نعم للديمقراطية دون إسلاميين؛ فقالت النخب القاصرة مرحى، وقدمت نفسها بديلا ولو أسقطها الصندوق أمام الإسلاميين، وهذا ما جرى في الجزائر بالتسعينيات وفي تونس ومصر، هذا المسار الإقصائي انتهى بعودة الأنظمة مع تغيير طفيف في القشرة الظاهرة.

لماذا لا يريد الغرب حكم الإسلاميين في بلدانهم؟ سؤال عرفنا إجابته، لكن السؤال بذمة النخب الحداثية: لماذا تقبل هذه النخب أن يهيئ لها الغرب الطريق فترحب وتتقدم للسلطة بلا حياء بل تصدر المواقف والتبريرات بأن الديمقراطية لا تكون إلا بإقصاء الإسلاميين تماما كما قالت الأنظمة بدءًا من عسكر الجزائر إلى نظام البعث مرورا ببن علي والقذافي وعباس التنسيق الأمني المقدس؟

ووصلت سوريا في لحظتها الثورية إلى ما كان في غيرها (مصر وتونس)، مشهد سياسي متحرك تقف على جانب منه حركات الإسلام الكفاحي تقابلها فلول أنظمة فاشلة ونخب عاجزة وغرب معادٍ لكل احتمال ديمقراطي.

علامات اختلاف في الحالة السورية

نتبين بعض الاختلاف في الحالة السورية من جهتين:

الأولى في موقف القيادة من النخب الحداثية. هذه النخب تتحدث الآن من جنيف وباريس ولندن وتقسم الوزارات السورية بينها، فتقدم باسم الديمقراطية حقوق الأقليات على حقوق الأكثرية تماما كما نطق بذلك نصحاء الغرب. ونتلمس اختلافا في أن الذين يديرون الأمر الآن للحكم يستهينون بهذه المطالب المرفهة للنخب الحداثية واليسارية. إنهم يتقدمون في تدبير البلد دون ارتباك أو وجل أمام هذه النخب التي لم تنزل الأرض ولم تطلق رصاصة ومبلغ نضالها اجتماع صالونات مكيفة. هذه الجرأة على النخب لم نتلمسها في تونس ومصر بل رأينا الإسلاميين المفوضين بالصندوق هاربين أمام أصغر فتيان اليسار والشبيحة ومخبري الأمن. وقد أفقدهم ترددهم الكثير من جمهور ليس منهم ولكنه أمل فيهم خيرا.

الثانية هي هذا الترحيب الغربي بولاة الأمر الجدد في سوريا. كان فتح السفارات مفاجئًا في سرعته لكن أن يصل الأمر إلى دعوة الرئيس المؤقت إلى باريس وبرلين وربما قريبا إلى لندن فهذه مفاجأة حقيقية. هل غير الغرب موقفه المعادي جذريا للإسلاميين ووصل إلى اقتناع بالتعامل معهم دون إقصاء؟ هل قدم مصالحه الاقتصادية على مشاريعه الثقافية (الأيديولوجية). فالمهم هو عقد صفقات إعادة إعمار؟ هل هي مقدمات احتواء سياسي بوسائل الاقتصاد وتجاوز الأيديولوجيا (خاصة في الحالة الفرنسية)؟

توجد حيرة حقيقية يضاعفها الغموض الإعلامي للقيادة السورية تعجزنا عن تخيل حوار بين رئيس فرنسا بالذات ورئيس سوريا. لماذا تعمل أوروبا على احتواء شعب مدمر وقابل للمزيد من التدمير والتقسيم وحاضر للابتزاز بالطرق الأوروبية المعروفة؟

هل بثت الثورة المسلحة رعبا في أوصال أوروبا فاختارت مسالمة القيادة السورية قبل أن تصدر ثورتها إلى الجوار الجغرافي فتشتعل المنطقة؟

هذا استنتاج قد يكون سابقا لأوانه لكن حزم القيادة السورية مع النخب التي تتلقى وحيها من الغرب لا من شعوبها مضافا إلى هذا الترحيب الغربي بنفس القيادة الحازمة يكشف تحولا في طبيعة عمل الإسلاميين أو ما يسميه الدكتور زهير إسماعيل الإسلام الكفاحي.

إن خطاب “سلمية سلمية” لم يجد مع الأنظمة العربية وقد فشل مع نظام البعث خاصة؛ فتسلح الثوار فانتصروا. وخطاب السلمية لم يفد إسلاميي تونس وهم يتوددون إلى فرنسا أن تقبل وجودهم في بلادهم فأسقطتهم بما اصطنعت من نخب تتلقى أوامرها من السفير الفرنسي.

هل تغير الإسلام الكفاحي من خطاب السلمية إلى خطاب السلاح بدءا من سوريا؟ 

هل الحالة السورية للإسلام الكفاحي قابلة للتعميم أو ستتحول إلى بديل تاريخي للسلمية السائدة في أقطار أخرى؟ يقول قادة سوريا الآن إنهم غير معنيين بتصدير ثورتهم لكن الثورات لا تصدر في شاحنات مبردة، إنها أفكار ونماذج تستنسخ في مواقع أخرى دون استشارة من قام بها أولا.

ربما تنتج الحالة السورية ثورة داخل الأجسام الإسلامية في الأقطار قبل أن تنتج ثورة ضد الأنظمة الحاكمة. فقد كانت كلفة السلمية أعلى بكثير من كلفة الخروج المسلح. أما إذا كان ترحيب الغرب بأحمد الشرع (الذي تحول إلى رمز للثورة) ينمّ عن خوف من ثورة سوريا فإن ثورة الإسلاميين على سلميتهم لن تتأخر، وسيمتلِئ مفهوم الإسلام الكفاحي بممارسات حركية جديدة.

المصدر : الجزبرة مباشر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق