في البحث عن الحكماء
فهمي هويديما من بلد أذهب إليه في العالم العربى إلا وأسأل: ألا يوجد في مصر عقلاء وراشدون يحاولون رأب الصدع في الجماعة الوطنية، ويعملون على اختراق الانسداد المخيم على الأفق السياسى في البلد؟
الجميع يعرفون ما يجري ويتابعون الحاصل في الميادين والصحف والمحاكم من خلال البث التليفزيوني وشبكة التواصل الاجتماعي.
صحيح أن الصورة مشوهة ومبالغ فيها لدى كثيرين، خصوصا الذين يكتفون بمتابعة التليفزيون منهم، إلا أن دهشتهم كبيرة إزاء استمرار الانقسام والاستقطاب إلى الحد الذي كاد يلغي من الأذهان احتمال وجود المحايدين الوسطيين المقبولين من الطرفين.
وتلك حقيقة محزنة يتعين الاعتراف بها، على الأقل بصورة نسبية.
ذلك أننا نشهد تزايدا في اتساع دوائر الاستقطاب وتراجعا وضعفا مستمرين في قنوات الاتصال، الأمر الذي يوحي بأن الجهد الذي يبذل لإقامة الجدران وتعزيز المعسكرات المتخاصمة بات يفوق بكثير محاولات إقامة الجسور فيما بينها.
الدهشة تتزايد والحزن يتضاعف حين نجد أن بعض الرموز والمراجع التي احتفظت لنفسها تقليديا بموقع متميز ارتفع فوق الخلافات والحزازات، تخلت عن مواقعها واستدرجت إلى الاصطفاف، ومن ثم انتقلت من منصة الحكم إلى مقعد الخصم، فكرست الانقسام واستقالت تلقائيا من الدور المرجعي الذى كان منوطا بها.
تقدم التجربة التركية لنا درسا بليغا في هذا الصدد، فقد نجحت الحكومة في التوصل إلى اتفاق مع الزعيم الكردي المحبوس عبدالله أوجلان على حل العقدة التاريخية المستعصية، بمقتضاه تتم الاستجابة لمطالب الكرد المتعلقة بالاعتراف بهويتهم القومية وبحقوقهم كمواطنين، وبالمقابل يلقي حزب العمال الكردستانى سلاحه، ويرحل مقاتلوه إلى كردستان العراق.
وإلى جانب الخطوات الإجرائية والتنفيذية التي يتعين اتخاذها من جانب الحكومة والبرلمان، فإن رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان دعا إلى تشكيل لجنة من الحكماء لكي تسهم من جانبها في إحلال السلام في البلاد.
بعد إعلان انتهاء الصراع مع حزب العمال الكردستاني المستمر منذ ثلاثين عاما، اللجنة ضمت 63 من الشخصيات العامة، الذين كانوا خليطا من مختلف الاتجاهات السياسية والكتاب والمفكرين والفنانين وممثلي منظمات المجتمع المدني.
وقد اجتمع بهم أردوغان في الأسبوع الماضى وقال لهم إنه لا يريد منهم شيئا سوى ان يخاطبوا الناس في مختلف أنحاء البلاد خلال شهرين؛ لكي يستطلعوا رأيهم فيما يجب عمله لتحقيق السلام بين كل مكونات المجتمع التركي.
وطلب منهم ان يضعوا خلاصة تواصلهم مع المجتمع في تقرير يقدم إليه في نهاية المدة، وسيكون ملزما من جانبه بالتوصيات التي يضعونها.
وجدت في التجربة عدة عناصر؛أولها تفاهم هادئ بين الحكومة وبين أوجلان تم خلالها التوسط إلى حل يرضي الطرفين.
وفي حدود علمي فإن حكومة أنقرة كانت صاحبة المبادرة وان مدير المخابرات التركية حقان فيدان هو الذي أجرى حوارات مطولة استغرقت عدة أشهر مع الزعيم الكردي، وبعد انهاء الاتفاق وإعلانه، دعي ممثلو القوى السياسية والنشطاء والشخصيات العامة لكي يستطلعوا رأي المجتمع فيما يتعين عمله لتحقيق تلك الغاية، وإلى جانب ذلك تعهد رئيس الوزراء بأن يلتزم بما يتم التوصل إليه من توصيات.
وهو يعني أن الأمر بدأ بمبادرة من جانب الحكومة، وتوافق مع الطرف الآخر، واستعانة بممثلي المجتمع لضمان الالتزام بالهدف المرتجى، وثقة في التزام رئيس الوزراء بما يتم التوصية به في ضوء استطلاع رأي المجتمع.
أي هذه العناصر متوافر في مصر؟
حين حاولت الإجابة عن السؤال اكتشفت ان الساحة في مصر غير مهيأة لدور يقوم به الراشدون والعقلاء. ففرصة الحوار الهادئ غير متوافرة وسط الضجيج السياسي الذي يكاد يصم الآذان. ثم انني لست متأكدا من أن الأجهزة الأمنية مستعدة لأن تقوم بدور في تحقيق التوافق، فضلا عن ان الرئاسة لم تقدم مبادرة تسمح باللقاء مع المعارضة، كما ان المعارضة متشبثة بمواقفها وترفض بدورها ان تلتقي مع الرئاسة في نقطة وسط، ومن بينها رموز تشكك في شرعية الرئيس ولا تريد التفاهم معه، ثم إن من يفترض انهم حكماء بعضهم اختفى والتزم الصمت، مؤثرا البعد عن التجاذب والأجواء المسمومة الراهنة، والباقون توزعوا على أحزاب المعارضة واصطفوا في المعسكر المخاصم للحكومة.
لأول وهلة يبدو الانسداد مخيما والأمل في اختراقه يكاد يكون منعدما.
لكني لا استطيع ان أصدق أن مصر بكل ما تتمتع به من ثقل وعقول خلت من «الحكماء»، رغم الكلمة جرى ابتذالها لكثرة استعمالها في غير موضعها، وفي الوقت نفسه لا استطيع أن أتوقع مضيا في ذلك الاتجاه بغير مبادرة من رئاسة الجمهورية تتمتع بالجدية وتتوافر لها الصدقية اللازمة.
لذلك فإنني اعترف بأن الأمر في مصر بات معقدا وصعبا، لكني لا استطيع ان أتجاهل ان مفتاح الاختراق المنشود يمكن أن يبدأ من مبادرة رئاسة الجمهورية، التي أرجو ألا يطول انتظارنا لها؛ لأن الوقت ليس في صالح أي أحد، وفي المقدمة منهم رئيس الجمهورية ذاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق