هيكل: ما أنْصفتَ يومًا، وما صَدَقْت
محمد يوسف عدس
أكتب هذا الكلام بمناسبة الحملة الضارية التي يشنها الآن محمد حسنين هيكل على الإخوان المسلمين، فى لقاءاته المتلفزة.. وهو موقف عدائي قديم وثابت.. وليس وليد الظروف الراهنة -كم يزعم- إنه موقف أيديولوجي ضد أي توجّه سياسي ذي مرجعية إسلامية.. بل ضد الإسلام كقوّة اجتماعية فاعلة.. ولكنه كعادته يلفُّ ويدور ويؤوّل الوقائع على هواه.. بلا دليل ولا منطق.. فإذا أعوزته الوقائع اختلقها بلا خجل...
لا شك أن هيكل يملك ناصية الكلام، ويجيد صياغة العبارات ذات الرنين الأجوف.. ولديه قدرة على الإيهام بأنه يملك دائمًا مستندات يدلّل بها على ما يقول، وأن لديه أصدقاء كبار فى العالم: لُورْدات ورجال مخابرات يعلمون خفايا الأمور.. وعنده مخزون من الحكايات المثيرة، يطرِّز بها مادة أحاديثه عندما تعوزه الحقائق.. مثل:"ساعى البريد الإيطالي.. أنطونيو سكارميتا.. ونيرودا.."، وكثيرًا ما يلجأ لصكِّ عبارات مثل "الصبر المحترق" إلى غير هذا من عبارات وأسماء، يستعرض بها خبرات نادرة وثقافة واسعة.. يستعلى بها على محدّثيه.. ولا دليل عليها إلا الادعاء.
هذه عينة من عدّة النصب التي يستخدمها هيكل في أحاديثه بقصد السيطرة على عقول محدثيه ومشاهديه؛ كأنه يقوم بنوع من التنويم المغناطيسي الجماعيّ.. فهو لا يتحدث لأنداد ولكن لأتباع؛ ولا يقبل بغير هذا الدور المهيمن فى كل علاقاته مع الآخرين.. وللأسف الشديد هناك جمهور كبير من الصحفيين والإعلاميين.. يهلِّلون ويصفقون لزعيم الصحافة وملكها في كل العصور..
نقطة الضعف الأزلية عند محمد حسنين هيكل هي ضحالة ثقافته الإسلامية وكراهيته العمياء للإخوان المسلمين؛ فإذا تحدث في هذا المجال لن تجد في كلامه منطقّا مقنعًا، ولا أدلة موثَّقة مما يزعم امتلاكه؛ وإنما عبارات فضفاضة.. وقصص مختلقة، واستنتاجات صبيانية.. لا يتورَّع فيها عن التهويل والمبالغات.. بل الافتراءات والأكاذيب..
يشبِّه هيكل الإخوان المسلمين بأهل الكهف.. "الذين مكثوا في كهفهم سنوات وعقودًا ثم خرجوا فجأة وهم لا يعرفون لغة العصر أو آلياته، ويصرُّون على فرض ما يريدونه بالقوة، لشعورهم الدائم بأن الشعب يتربص بهم..!".
ولا يملُّ هيكل من تكرار أن الإخوان "لم يتعلموا شيئًا ولم يعلموا أن الزمن اختلف وأن لغة الخطاب تغيرت".
ويفسر المظاهرات والهتافات التي شاعت ضدهم بأن "هناك ثقافة معادية لهم... ولأنهم جاءوا واستولوا على السلطة كاملة دون مراعاة للآخرين.."
لو ذهبت تحلل هذه العبارات لوجدت العجب العُجاب: صحيح أن عشرات الألوف من الإخوان قضوا في سجون الدكتاتور؛ وليّ نعمة هيكل وصنمه الذى عبَّد الناس له، ولكنهم خرجوا في عهد السادات ومارسوا حياتهم الطبيعية ونشاطهم.. يعنى لم يستمروا في الكهف كما يزعم هيكل.. فلما جاء عهد الدكتاتور مبارك انشغل عنهم بمحاربة الجماعات الدينية المتطرِّفة، لفترة طويلة خلال التسعينات من القرن الماضى، فيما سُمِّيَ بمكافحة الإرهاب..
وليس معنى هذا أن الحياة كانت سهلة للإخوان، أو خالية من التحرُّشات، ولكنهم -بصلابة معدنهم- تجاوزوا هذا، ليشاركوا في العمل السياسي مع أحزاب مختلفة مثل حزب الوفد وحزب العمل.. ولم يستسلموا للاضطهاد والتهميش، ولا لفكرة "الجماعة المحظورة" المسلّطة على رقابهم.. وكان لهم نواب منتخبون في البرلمان.. ومارسوا العملية الديمقراطية على نطاق أوسع في انتخابات ٢٠٠٥، فكان لهم ٨٨ نائبًا في البرلمان وهو عدد كان يفوق مجموع ما حظيت به أحزاب المعارضة الأخرى مجتمعة.. وإذن لم يكن الإخوان في الكهف ثم خرجوا فجأة ليجدوا العالم قد تغير من حولهم كما يزعم هيكل.. فهذه خرافة يحب هيكل وإعلامه الكاذب أن تشيع بين الناس..
وأسْأَلُ هيكل: من الذي يصر على فرض ما يريده بالقوة..؟ الإخوان الذين يكدحون لاستكمال المؤسسات الديمقراطية للدولة، ويحتكمون إلى صناديق الانتخابات أم جبهة الخراب التي ترفض إرادة الشعب.. ويعمل أصحابها على إسقاط الرئيس المنتخب بالقوة..؟
من الذي يمارس البلطجة السياسية ويستأجر أطفال الشوارع وأرباب السجون والبلطجية ويدفع لهم بسخاء لحرق المحاكم ووثائق المعهد العلمي.. ومقرات الإخوان..؟
ومن الذى يحرِّض الجيش للانقلاب على السلطة.. ليعيد الحكم العسكري إلى مصر..؟
وما أدراك ياهيكل بشعور الإخوان المسلمين تجاه الشعب.. ومن أدراك أن الشعب يتربّص بالإخوان..؟
وما دليلك على أن هناك ثقافة معادية لهم من جانب الشعب..؟ أليس هذا هو الشعب الذي انتخبهم ووثق فيهم وأراد أن يتولوا السلطة برضاه..؟
لماذا لا تصف الأمور على حقيقتها وتعترف أن هناك بالفعل تربّصًا ولكن ليس من جانب الشعب وإنما من مؤسسات دولة نشأت وترعرعت عقودًا في كنف دكتاتورية فاسدة مستبدة أفسدت كل شيء..؟
نعم هناك تربُّص لا يمكن إنكاره؛ من جانب بؤر فاسدة في قضاء مبارك وفي قوات أمنه ومباحثه وفي المؤسسة الإعلامية، كلهم يتوجّسون خوفًا على مراكزهم.. ويخشون انكشاف الغطاء عن ممارساتهم الإجرامية وتواطئهم مع عهود النهب والفساد والاستبداد.. والشعب هو الذي طالب في ثورته بتطهير الداخلية والقضاء والإعلام.. أما بلطجية المعارضة فهم الذين يريدون العودة إلى الوراء: إعادة النائب العام السابق .. وتغيير الحكومة وإلغاء كل خطوة إيجابية تحققت بعد الثورة.. بل يعملون على إسقاط الرئيس المنتخب بالقوة.
يقول هيكل: "الغريب جدًّا في هذه اللحظة أن النظام القائم يرى في القضاء خصمًا، [ويرى في الجيش تهديدًا]، والبوليس أداة العاجز، ويرى في الإعلام العدو..." وأقول له: الأكثر غرابة أنه: ليس النظام القائم هو الذي يرى هذا، ولكنها جماهير الشعب هي التي رأت، وهي التي ثارت ضد أحكام القضاء بتبرئة جميع المتهمين بقتل الثوار وطالبت بتطهير القضاء.. وهي التي رأت تقاعس الشرطة وتخلِّيها عن واجبها في الحفاظ على الأمن.. والشعب هو الذي يرى ويسخط على أجهزة الإعلام والصحافة الفاجرة الكاذبة..
ولكن ياهيكل.. حذارِ..! لا تخلط الأمور: فلا النظام القائم ولا الشعب يرى في الجيش تهديدًا له –كما تزعم كاذبًا- ولكنك مع جبهة إنقاذك تحرّضون الجيش على الانقلاب وتريدون إحداث الوقيعة بينه وبين السلطة الشرعية لإسقاطها.. وقد أدرك الجيش حقيقة نواياكم؛ فأعلن قادته رفضهم لهذه المحاولات التخريبية.. ولمَّا يئِسْتم، رُحْتُمْ تهاجمون الجيش وتنشرون الإشاعات والإكاذيب ضدّه..
تقول في تخاريفك لمرضعة إبليس عن الإخوان المسلمين:
"إنهم لا يزالون حتى الآن يستعملون [المقدَّس] وهذا ليس في السياسة، فالإسلام كدين ودولة غير ممكن... ولا تقرن المصحف الشريف بالسيف، فالمصحف دعوة، والسيف قمع، وليست بينهما علاقة..."..!!
وأقول: إسقاط المقدّس ياهيكل في مجتمعات هذا العالم يقف وراء جميع الكوارث التي تحيط بالبشرية اليوم، ولكنك لا تحسن قراءة الواقع.. ولا تستطيع ولا تريد أن تفهم ما يتردّد اليوم على ألسنة وأقلام الإصلاحيين في الغرب الذين هالتهم التوجّهات المادية المفرطة وما أفسدته في مجتمعاتهم.. والأمر شرحه يطول...!
تريد أن تفصل بين المصحف والقوة المتمثّلة في السيف لأنك ما فهمت المصحف وما فهمت السيف.. وما فهمت الدعوة على وجهها الصحيح.. وإنما تريد أن تفرض مفاهيمك الخاصة فرضًا على هذه المفردات الإسلامية، وهي مفاهيم تشرَّبْتَها حتى ترسّخت في أعماقك عبر عقود طويلة.. من ثقافة الشمال الإلحادية بجناحيها الشرقي الماركسي والغربي الرأسمالي..
قوة السيف ياهيكل ليست للقمع بالضرورة –كما تزعم- إلا إذا كانت في يد دكتاتور دمويّ، يؤمن بأن الغاية تبرّر الوسيلة؛ وقد اعترف لبعض زملائه من الضباط الأحرار أنه "قرأ كتاب الأمير لمكيافيلِّى ١٧ مرة..!" تعرفه لأنك كنت خادمه..!
أما في يد الحاكم العادل الذي جاء بإرادة شعبه، وتحكمه مؤسسات منتخبة، فقوة السيف ضرورية لإقامة العدل بين الناس.. ضرورية لأخذ الحقوق المسلوبة من الأقوياء المتجبرين، وإعادتها إلى أصحابها المستضعفين.. قوة السيف ضرورية لحماية الأمة من اغتيال الأعداء المتربِّصين وردعهم؛ حتى لا يفكِّروا أصلًا في العدوان أو الاغتصاب..
أذكر أننى أهديتك منذ أكثر من ١٣ سنة نسخة من كتاب على عزت بيجوفيش "الإسلام بين الشرق والغرب" على أمل أن تقرأ وتغيِّر من أفكارك.. ولكن هيهات أن ترقى إلى فكر هذا الفيلسوف الإسلامي العظيم.. وما أظن إلا أنك طرحته جانبًا ولم تعبأ حتى بتصفُّحه.. ملتزمًا بكهفك الأيديولوجي المعاند.. خشية أن تشهد على نفسك بالضلال..!
لتمرير أفكاره، يجيد هيكل سبْك الحكايات المثيرة؛ إذْ يضفي عليها غُلالة من الغموض والأهمية؛ بأن يسوقها على لسان شخصية مجهولة الاسم، أو شخص بارز ولكنه توفَّى.. وهو مطمئن أن أحدًا لن يسأله الدليل على صحة كلامه.. وهذا جزء من عدّة النصب التي يستخدمها للتأثير في السذّج من الناس، كأن يقول: "أحد السفراء أخبرني..." أو يقول حسن البنا جاء إلى مكتبي وقال لي.. أو كما قال مؤخَّرًا:"التقى شيمون بيريز بزائر أجنبي، [لا يذكر اسمه لزوم الحبكة الدرامية] ثم يكمل: "وقال له: أنتم قلقون جدًّا على مصر.. فلا تضيِّعوا وقتكم؛ مصر أمامها ثلاثة حروب نائمة قد يتم إيقاظها في أي وقت: الأولى دينية بين فئة وفئة أخرى.. والثانية لها علاقة مباشرة بالأزمة الاقتصادية الطاحنة، وهي تنذر بحرب أهلية.. والثالثة أزمة المسلمين والأقباط..."
لست أشك لحظة "أن فكرة الحرب الأهلية في مصر" هي حلم يداعب خيال إسرائيل للتخلص من الخطر القادم من مصر بأرخص التكاليف.. ولكن يعجب الإنسان أن يشارك في هذا الحلم الإجرامي محمد حسنين هيكل مع جبهة الخراب والفلول والإعلام الفاجر، متضامنين جميعًا مع المخططين والمموٍّلين للمؤامرات، الذين يعملون على أن يستمر الحصار الاقتصادي.. وتستمر الحرب على الحكومة القائمة، وتخريب جهودها في توفير الأمن والسلع الضرورية للناس.. وعلى تصعيد العنف، وتأجيج الاحتقان الطائفي، وبث الفُرْقَةِ بين التيارات الإسلامية.. حتى تقع الكارثة.. ويتدخل الجيش لمنع انهيار الدولة..
أعلمُ أن هذا الحلم يراود خيال فئة من الناس، كارهين أن تتحقق عافية مصر ونهضتها على يد الإسلاميين.. ولكن ثقتي في الله لا حدود لها، ولسوف ينقلب هذا المكر على رؤوس أصحابه..
عندما تخلو جعبة هيكل من الحكايات المثيرة يختلق خبرًا لا دليل عليه، ليستنتج منه -بطريقة صبيانية- نتيجة تتوافق مع هواه.. ينقلها عنه صحفيٌّ فاشل، كأنه وقع على اكتشاف مثير.. فيقول: "كشف هيكل في تصريح لقناة (سي بي سي) عن لقاء حدث عقب تولِّي الرئيس أنور السادات، جمع مرشد جماعة الإخوان المسلمين السابق عمر التلمساني وعدد من قيادات الجماعة مع الرئيس السادات، بحضور المخابرات السعودية، واتفقوا خلاله على السماح للإخوان بالعودة للعمل السياسي لمواجهة التيارات السياسية الماركسية والناصرية، [وبعد ذلك بعام] حدثت أولى الحوادث الطائفية الكبرى وهو ما يشير لدور الإخوان المسلمين والتيار الإسلامي عمومًا في تأجيج الملف الطائفي..". ياله من استنتاجٍ عبقريّ..!!
بالله عليك: أي علاقة تربط بين مواجهة التيارات الماركسية والناصرية على المستوى الفكري، وبين الأحداث الطائفية التي وقعت في عهد السادات.. بين شراذم من قاع المجتمع في الزاوية الحمراء وغيرها..؟ فكيف إذنْ سوَّغ هيكل لنفسه هذا الافتراء وهو لا يملك الدليل عليه..؟
لقد صمت هيكل طويلًا خلال هيمنة المجلس العسكري على السلطة في الفترة الانتقالية لأسباب خاصة يحتاج شرحها لمقالة أخرى.. ولكنه عاد بكل ثقله ليركب موجة الهجوم الإعلامي الفاجر ضد الإخوان المسلمين، وضد أول رئيس مدني منتخب.. عاد ليبث خرافته عن أهل الكهف.. ولو أنصف هيكل الحقيقة، ولو مرة واحدة في آخر عمره، لتبيّن له أنه هو الذي تقوقع في كهفه العَقَدِيّ ولم يخرج منه أبدًا.. ولعرف أنه لا يزال في ضلاله القديم..
إنك إذا أدَرْتَ ظهرك للشمس وأخذت تحدّق النظر في كهف مظلم أمامك، فلن ترى شيئًا من حقائق العالم الخارجي.. وإنما ظِلّك الممتدًّ إلى ما لا نهاية في جوف الكهف.. وإذن فلْتعلم أنك تنظر في أعماق نفس مظلمةٍ حالكة السواد..!
myades34@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق