فقلت هما أمران أحلاهما مُر
حسام الغمري
أمران حدثا في الأسبوع المنصرم ذكَّراني ببيت شاعرنا العربي أبي فراس الحمداني الذي قال فيه:
وقال أصحابي الفرار أو الردى ** فقلت هما أمران أحلاهما مُرّ
أولهما الحديث عن المصالحة بين جماعة الإخوان المسلمين والنظام العسكري الباطش في مصر، رغم يقيني أن الحوار والمصالحة هما النهاية المنطقية لأي صراع، ورغم تكرار النفي الرسمي من جماعة الإخوان المسلمين عبر بيانات عديدة، فضلاً عن حوار أجراه الدكتور مصطفى الفقي، المقرب دوماً من النظام -قبل أيام- تحدث فيه عن شروط عبثية لإتمام هذه المصالحة، كإعلان الجماعة حل نفسها، على غرار ما فعله الحزب الشيوعي المصري في زمن عبد الناصر.
على أية حال فحوار الدكتور مصطفى الفقي بلغ من الرداءة السياسية مبلغاً بعيداً، كما بدا متأثراً بأصداء فضيحة تزوير أصوات الناخبين في دائرة دمنهور، التي مكَّنته من دخول برلمان مبارك، رغم أحقية القيادي الإخواني الدكتور جمال حشمت بالمقعد البرلماني.
والسبب أن شواهد المصالحة أكثر جلاء من بيانات النفي الرسمية، أعتقد أنها بدأت قبل الخامس والعشرين من يناير/كانون الأول 2016، حين تم تغيير المتحدث الرسمي لجماعة الإخوان والملقب تيمناً بمحمد منتصر، الأعلى نبرة قبل يومين من حراك شعبي متوقع، ثم ظهور الأمين العام لجماعة الإخوان المسلمين مع الإعلامي أحمد طه بحديث هادئ النبرة، سمعنا بعده أخبار انقسام لا نتمناه في الجماعة وجدل حول الثورية والعقلانية أعقبته قرارات فصل لا نتدخل فيها بالطبع، ولكنها عطلت دون شك العمل المقاوم.
ظهور طنطاوي، المرشد الأعلى للقوات المسلحة، في ميدان التحرير، عقب فشل الغلابة في الحشد، وحديثه المعد سلفاً عن الشعب الواحد، وكأنه يريد أن ينهي الخرافة التي أطلقها علي الحجار بأغنيته البائسة: "إحنا شعب وانتو شعب"، كان مؤشراً هاماً لا تخطئه عين، لا سيما بعد حديثه عن إلغاء متوقع لأحكام الإعدامات التي طالت قيادات الجماعة.
لم يتأخر نائب المرشد إبراهيم منير طويلاً في رد التحية بأحسن منها، وتحدث عن شرفاء داخل المؤسسة العسكرية وتلميحات حول المصالحة.
ولكن المؤشر الأهم هو قيام القاضي الأشرس شعبان الشامي بإصدار أحكام بالبراءة لحوالي 16 عضواً من أعضاء جماعة الإخوان صنِّفوا من قِبل دولة السيسي بأنهم ضمن ما يسمى باللجان النوعية داخل الجماعة.
كواليس قيادات الجماعة بالخارج تتردد فيها عبارة تنظيرية جديدة تتحدث عن الفارق بين إسقاط النظام وإسقاط الدولة، وهو حوار تنظيري أتفق معه تماماً على المستوى النظري، ولكن أرتاب في توقيته، مهما بلغت رومانسية ونقاء هذا التنظير!
أعترف أن أحداً لا يحق له التدخل في شؤون الجماعة الداخلية، أو اتخاذ القرارات نيابة عنها، أو توصيف ما يجب عليها فعله وما يجب ألا تفعله، ولكن ليتهم يتذكرون أن ملايين المصريين صوَّتوا لهم أكثر من مرة، أي أنهم وضعوا في أعناق الجماعة أمانة الحفاظ على ثورة يناير وإدارة مكتسباتها، والخوف كل الخوف أن تستخدم الجماعة من جديد في إعطاء قُبلة حياة لنظام السيسي بعودتها لرعاية شريحة داخل المجتمع لم تطَلها مظلة دولة مبارك رغم وجود 36 مليار دولار كاحتياطي في البنك المركزي ليلة تخليه عن السلطة.
يدرك النظام العسكري أن هذه الشريحة التي اعتادت جماعة الإخوان على تقديم العلاج لها بجنيهات قليلة، وتوفير الدواء وغيره من الخدمات بأسعار رمزية، قنبلة موقوتة ستنفجر في وجهه إن آجلاً أو عاجلاً على الرغم من عدم نزولها الشارع في 11 /11، وما أحوج النظام المترنح اقتصادياً، والذي يحاول أن يبتز أوروبا تارة بالمهاجرين المحتملين، وتارة بخمسة ملايين مهاجر يدَّعي أنه يرعاهم، ما أحوج النظام لجماعة الإخوان كي تنقذه من محنته الاقتصادية المستفحلة في مقابل تخفيف الضغط عن أسرى الجماعة ومطارديها، ويبقى تباطؤ جماعة الإخوان في المشاركة في الجلسات التحضيرية للجمعية الوطنية المصرية لغزاً محيراً، على الرغم من ثنائهم المعلن دوماً على أي عمل وطني يبني مظلة جامعة بمرجعية أهداف وشعارات ثورة يناير.
ولعلي أستعير في هذا الصدد بعض عبارات قالها المشير طنطاوي، حين كان حاكماً للبلاد باسم المجلس الأعلى المكلف من مبارك، طالب فيها جماعة الإخوان بتدبُّر دروس الماضي، والماضي مليء بالدروس والعبر.
كما تابعت في أسبوعي هذا وثائقي العساكر الذي بثَّته قناة الجزيرة بسبب الضجة الكبيرة التي صنعها إعلام النظام حوله، وأنا كواحد من الملايين الذين خدموا في القوات المسلحة أؤكد أن ما جاء بهذا الوثائقي نزر يسير مما هو في واقع المجند المصري، وأفهم قيمة أن تتبنى شاشة عملاقة كشاشة قناة الجزيرة هذا الملف، وأبشع ما ورد فيه هو الإهمال في تدريب جنودنا كمقاتلين، بل لعل كلمة إهمال غير مناسبة؛ لأن تجربتي أثبتت أن الشيء الوحيد الذي لا نتعرض له أثناء خدمتنا في الجيش هو التدريب القتالي، بدليل خسائرنا المؤلمة في سيناء، ومع ذلك.. كنت أتمنى ألا أشاهد هذا الوثائقي على أي شاشة، فالجرح غائر، والفضيحة مدوية، رغم إدراكي أنه لا إصلاح دون مكاشفة، ولا تغيير دون مواجهة، ولا انتصار بغير صبر، وهما في حالة جيشنا أمران أحلاهما مُر.
إن الحديث عن تقديم تنازلات مؤلمة ذكَّرني بما قاله شارون وهو يجر أذيال الخيبة فاراً من غزة هادماً المستوطنات التي بناها بسبب ضربات المقاومة الباسلة التي جعلت ثمن بقائه على الأرض فادحاً، بل غير محتمل، أما الحديث عن تقديم تنازلات لمندوبيهم في حكم مصر لهو العوار بعينه، ليس فقط لأن أحداً من المعارضين للحكم العسكري يعزو إليه أسباب سوء وضع النظام اقتصادياً، فبالتالي يتفاوض للكف عن ذلك، ويقبل ببعض التنازلات، فإدارة السيسي تُفشل نفسها بنفسها دون أي مساهمة تذكر منا جميعاً، بل نحن فشلنا حتى في تكوين تحالف سياسي واسع من معارضي السيسي في الداخل والخارج، وتبنّي وتسويق خطاب يقبله المنسلون من معسكر 30 يونيو/حزيران.
كما يتبادر إلى ذهني تساؤلات بمجرد سماع أحاديث المصالحة عن وجود ضمانات حقيقية لأي تسويات محتملة مع هذا النظام الغادر، والأولى من إظهار البراعة السياسية فقط عند الحديث عن التنازلات كمفهوم راسخ عند بدء أي مفاوضات سياسية يدركه طالب الفرقة الأولى في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، الدفع باتجاه الجمعية الوطنية، والتنازل لأبناء الصف الواحد، والهم الواحد، ومعركة الحرية الواحدة من أجل سرعة الانتهاء من تكوينها لتضمّنا جميعاً في مواجهة النظام القمعي.
إن الثورة قادمة لا شك لديَّ في ذلك، والسؤال: هل ستكون ثورة ضد النظام فقط أو ستكون ضد النظام وحواشيه؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق