الخميس، 24 نوفمبر 2016

غوانتانامو قصّتي.. طائرات الشحن والأكياس البلاستيكية

"غوانتنامو قصتي"..

 طائرات الشحن والأكياس البلاستيكية
سامي الحاج 

مدير مركز الجزيرة للحقوق والحريات، ومعتقل سابق بسجن غوانتنامو.

نعم، في الحياة مزالق تزلُّ بها القدم على حين غرَّة، فيفعل القدر فعله. تمامًا كما يفعل منحدَرُ السيل بالسيل.
قصتي فيها الكثير مما لم أكن أتوقعه، لكن كيف بدأ كل شيء؟ وكيف انتهى؟ الآن، حينما أجلس وحدي، يلفُّني صمت الليل وظلامه. أتأمل الصيرورة وقد طوت في مسيرتها كل تلك الأيام والأعوام.

أسأل نفسي: ما اللحظة التي أمسكَتْ فيها مزالق القدر بقدمي، لتأخذني إلى ذلك الطريق، الذي قادني إلى بوابة سجن غوانتانامو لتنفتح فأدخل مُقيَّدًا أرسف في الأغلال، وتنغلق من ورائي في جوٍّ رهيب.
سقطتُ من الإعياء، من البرد والألم، جرُّوني على الأرض لأني لم أستطع المشي، سحبوني بقوة ورفسوني بأحذيتهم الخشنة الثقيلة.
قرب شواطئ الخليج العربي أجلس الآن في حجرتي المظلمة، وحيدًا... تملأ نفسي ذكرى معاقل خليج آخر، غريب... ذكرى أسلاك شائكة، قعقعة السلاح، عواء الكلاب، ألوان قمصاننا التي تُذكِّر بلون الدم، لون الموت.

وتظل تتناهى إلى أذنيَّ أصوات الألم تنبعث من الأماكن حولي، لم يكن السجانون يوفرون شيئًا، لقد عانى النـزلاء ما عانوا.

فجأة يصرخ الطائر فزِعًا؛ أراه تحت ضوء النجوم البعيدة يقف وحيدًا يتلفت كالهائم على إفريز النافذة يجاهد في ضم جناحه الأيمن إلى جسمه؛ أقوم من مقعدي وأمشي ثلاث خطوات، أدنو منه، ولكنه يصاب بالذعر، فيضرب جناحه الأيسر ويطير بينما يتدلى جناحه الأيمن تقطر منه قطرات دم تحت ضوء النجوم! 


ما الذي أصاب جناح الطائر المسكين؟ وعاد الزمان القهقرى إلى اليوم الذي تمزقت فيه أربطة ركبتي أثناء الرحلة بطائرة الشحن من باكستان، يومَئذٍ كنت أصرخ من شدة الألم، ومع كل صرخة كان يضربني أحد الجنود.

سقطتُ من الإعياء، من البرد والألم، جرُّوني على الأرض لأني لم أستطع المشي، سحبوني بقوة ورفسوني بأحذيتهم الخشنة الثقيلة، ثم واصلوا سحبي حتى أدخلوني إلى غرفة، ثم نزعوا عني الكيس الذي كانوا يغطون به وجهي ورأسي، فوجدت نفسي وسط مجموعة من الجنود يُشهِرون أسلحتهم في غرفة مضاءةٍ إضاءةً قوية.

كان الضوء مسلطًا تمامًا على عينيَّ، وكان الجنود يحيطون بي من كل جانب، وقال لي أحدهم وكان يقف أمامي: لا تتحرك، لا تفعل أي شيء، لا تأتِ بأدنى حركة، عليك أن تنصاع لأوامرنا، أي حركة منك ستنجم عنها طلقة رصاص تستقر في دماغك.

كان الجنود من حولي يرفعون عصيهم، ويشهرون بنادقهم ومسدساتهم. قطعوا حبلًا كان يحيط بمعصمي، وحالما تمكنت من تحريك يدي، طلبوا مني خلع ملابسي فبدأت أخلعها ببطء، كنت أرتجف من البرد وأتمايل من الوهن والإرهاق، وهم يتصايحون مع كل ميلة.


خلعت أولًا اللبس الأزرق الذي جعلوني ألبسه قبل الصعود للطائرة من باكستان، وكان قطعة واحدة مثل ثياب الميكانيكيين الذين يصلحون السيارات. ثم طلبوا مني خلع البنطلون والقميص. كنت أرتدي تحت البنطلون والقميص ملابس داخلية طويلة وقاية من البرد، فطلبوا مني خلعها! وقفت حائرًا مترددًا، فتصايحوا: إن لم تفعل أطلقنا عليك الرصاص.
مع كل صعود ونزول كان يتم تفتيشي بطريقة وحشية همجية يتبعها مشيٌ سريع عنيف، في منحنىً متصاعد إلى الطائرة. كان ذلك كافيًا جدًا لإرهاقي إلى الدرجة القصوى.
خلعت القميص واستبقيت السروال فظلوا يتصايحون وأنا في ذهول يداي متشبثتان بالبنطلون أرفض خلعه وأتلفت يمينًا ويسارًا فلا أرى سوى أسلحة تُشهَر وأفواه تصرخ ووجوه قاسية صلدة مرعبة مخيفة مفزعة.

تقدم نحوي الجندي الذي يقف قبالتي تمامًا وهو يسحب أمامه مدفعه الرشاش، وطلب مني أن أخلع السروال الطويل وبدأ في تحريك الكلب الذي كان ينبح بصوت عال. خلعت السروال الطويل ثم طلب مني أن أنظر أمامي ولا ألتفت إلى الوراء. كنت في ذهول تام أشعر بألم ما فوقه ألم، ولا أدري أهو ألم المرض أم ألم الأَسْر أم ألم القهر والإهانة التي كنت أشعر بها من إكراهي على خلع ملابسي أمامهم وأمام كلابهم ومجنداتهم؟

ذلك الجرح أصبح أكثر غورًا يوم حكى لي أخي الشيخ علاء ما قد مرَّ به، قال: أخذوني بعنف وقسوة من تحت إبطي ويدي إلى الخلف، معصوب العينين موثوق المعصمين، دفعًا وقسرًا إلى الأمام، ثم غيروا قيودي بأخرى، وشدَّدوا تلك التي في الرجلين من المادة البلاستيكية الحادة التي تجرح كالسكين، ألبسوني كِيسًا أسودَ على رأسي، سحبوا مني نظارتي ثم اقتادوني وجرُّوني على نحو سريع.

لم أدرِ كيف يمكن لي أن أجاريهم وأنا موثق الرجلين، سقطت منكفئًا على وجهي فرفعوني إلى سيارة، بعد قليل أنزلوني منها ومع كل صعود ونزول كان يتم تفتيشي بطريقة وحشية همجية يتبعها مشيٌ سريع عنيف، في منحنىً متصاعد إلى الطائرة. كان ذلك كافيًا جدًا لإرهاقي إلى الدرجة القصوى.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق