من جدع يا باشا إلى جدع يا سيسي
"جدع يا باشا.. جات في عين الواد"، تلك كانت صيحة جندي الأمن المركزي، وهو يحتفل بنجاح الضابط الشاب في التصويب على عين أحد شباب الثورة في أحداث شارع محمد محمود، في مثل هذه الأيام من نوفمبر/تشرين الثاني 2011.
فقد الشاب الثوري عينه، بطلقة خرطوش رجل الأمن، الضابط الشاب الذي حصل على ترقيته، بعد تبرئته في محاكمة عبثية صورية، غير أن المشهد أسفر عما هو أخطر وأفدح، إذ تحولت "جدع يا باشا"، بعد ثلاث سنوات، إلى عقيدةٍ لدى نظام عبد الفتاح السيسي الذي كان أول من شرعن القتل والبطش، ومنح الضباط حصانةً ضد المحاكمة، مهما فعلوا بالمتظاهرين، حين قال "من النهارده مفيش ضابط هيتحاكم".
الكارثي في الأمر أن كثيرين ممن أدمت قلوبهم "جدع يا باشا" صاروا يهتفون "جدع يا سيسي"، كلما حصدت آلته الأمنية مزيداً من الضحايا، لنصحو على عبثٍ قيميٍّ لا سابقة له، يتحوّل فيه الإجرام، الثابت بكل المعايير القانونية والأخلاقية، إلى جسارةٍ وشجاعة، وتنتقل فيه الجريمة من كونها فعلاً مؤثماً إلى عمل وطني كبير، حتى لا تنهدم الدولة، وكي تبقى ترفل في نعيم الضبط والربط، ولا تتحوّل إلى سورية والعراق..
بالمناسبة، ظهرت هذه المقايضة، أول ما ظهرت، في أحداث شارع محمد محمود الأولى، حين خاطب المجلس العسكري المصريين بأنهم يجب أن يحمدوا له، لأن الجنرالات لم يفعلوا بهم ما فعل جنرالات بشار الأسد في السوريين، ثم وجدوا من يصفق ويطبل لهم من أوغاد الكلمة الذين راحوا يهرفون بحديث المؤامرة على مصر، والأساطيل المتأهبة لغزوها، إن لم نسمع كلام أبينا الذي في المجلس العسكري.
هؤلاء الأوغاد هم وقود آلة القمع السيسية الآن، كلما أمعن في قتل الإنسان والمعنى والقيمة هتفوا "جدع يا سيسي"، ليصبح في كل مكان "سيسي صغير" يقتل ويظلم ويبطش، ولا يحاسبه أحد، يستوي جميع الضحايا في التنكيل، مكين بائع السمك المغدور على يد ضابط، أو قلاش نقيب الصحافيين المهان على يد السلطة السياسية.
وذلك كله نتيجة طبيعية لمنهج التفريط في الحق والاستسلام للخوف العاجز الذي ينخفض بالمطالب إلى مجرد البقاء على قيد الحياة، حتى لو في ذلٍّ وخنوع. وهنا، تصلح معركة الصحافيين والسلطة نموذجاً، إذ خفضت النقابة لائحة الحقوق والمطالب إلى الحد الذي بات المطلب معه هو عدم حبس نقيب الصحافيين.
ولو رجعت إلى بداية الأزمة والانهيار الدرامي المثير في أداء النقابة التي عقدت جمعية عمومية هادرة، رداً على عربدة الأجهزة الأمنية التي اقتحمتها، واختطفت اثنين من أعضائها، ستكتشف أن النقيب والنقابة هزموا أنفسهم، عندما بدّدوا حالة الاحتشاد الباسلة للجمعية العمومية.
كانت المطالب إقالة وزير الداخلية واعتذار رئيس الدولة عن هده الإهانة غير المسبوقة في التاريخ للنقابة.
والآن، أصبح منتهى الآمال ألا يتم حبس نقيب الصحافيين، وعضوي المجلس..
كان القرار تسويد الصفحات الأولى، غضباً على إهانة الشرطة، فصار المتاح طلب السماح من السلطة، كي لا يحبس النقيب.
وأزعم أنه سيكون بمثابة انتحار أن يستسلم النقيب والصحافيون لما تريده السلطة، من أن القضية جنائية، وليست سياسيةَ.
هنا، سيكون مقتل مهنة الصحافة والعمل النقابي في مصر بشكل عام، والأخطر من ذلك الإذعان لما تسعى إليه السلطة، وهو حصر الموضوع في قضيةٍ فئويةٍ تخصّ الصحافيين وحدهم، ولا تهم المواطن المصري، وحريته وحقه في التعبير والاحتجاج، بإطلاق، وهذا ما حذرنا منه في الجولة الأولى من المعركة، قبل نحو ستة أشهر.
وأكرّر هنا أن سلخ المعركة عن إطارها الوطني العام، واختزالها، أو بالأحرى ابتذالها، في تلك الدائرة الفئوية الضيقة، قدّم خدمة جليلة للنظام، وحقق هدفه بإقامة جدار عازل بين الجماعة الصحافية من جانب والمجتمع من جانب آخر.
جدير بنقيب الصحافيين أن يبحث عن الحماية لدى المواطن، بأن يضع المعركة في إطارها الصحيح: الحرية في مواجهة الهراوة والدبابة، أما رضوخه لمحاولات التوسّط لدى من بيده الأمر، لكي يعفو أو يصفح، فهذا يعني أن الصحافة ونقابتها ستتجرّعان الإهانة تلو الأخرى، ولن ترتفع لهما رأس بعد الآن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق