في يوم عيدك يا مولاي
ليست نكبة مصر في غياب الحكم الرشيد، وتوحش النظام البليد فيها وعليها..
مشكلة مصر تتفاقم من بلادة حكام إلى تبلد قطاعٍ واسع من المحكومين، تجعله يرى الناس مذبوحين، فيبحث عن ملاذٍ آمن في غياهب الصمت، أو يتطوّع بالتبرير، وتكذيب ما ترى عيناه، وتسمع أذناه.
تصل أنباء الجحيم المستعر في السجون، يشوي المحبوسين، وتطاول ألسنته الأهالي على البوابات والطرقات، فلا تهتز ضمائر، أو تتداعى الحناجر للهتاف والاحتجاج، ولا تدور ماكينات النضال، أو يكون حدّها الأقصى مصمصة الشفاة و"الحسبنة".
في اللحظة، التي كان إعلام عبد الفتاح السيسي يحتفي فيها بصاحب القلب الكبير، رجل البر والإحسان، على كرمه وعفوه عن 82 سجيناً، تم اختيارهم وفقاً للمواصفات الفاشية الصريحة، كانت نشرة أخبار جحيم سجن برج العرب تقول الآتي:
"أهالي المعتقلين اللي اتغربوا لسجون جمصة والمنيا في منهم راحوا لولادهم حسب الكشوف اللي أعلنت وملقوش ولادهم هناك وحيدوروا لسه عليهم! يا ريت اللي تروح لابنها وتلاقيه تديله هدوم وشباشب زياده للناس اللي معاه، ولسه أهلهم موصلوش لهم .. أرجوكم".
تلك كانت صرخة واحدةٍ من عديد من الصرخات التي تحاول، عبثاً، إيقاظ النائمين، سبقتها صرخاتٌ، لعل أشدها ما نشرت على لسان نشطاء، بوصفها شهادةً من أحد أقارب معتقلي برج العقرب على روايةٍ متداولةٍ بشأن ما دار بين اللواء حسن السوهاجي مساعد وزير الداخلية رئيس مصلحة السجون والمحبوسين، حيث قال لهم:
"أنت مسجون يعني مقيّد الحرية، تعامل برغبتنا وكما نريد نحن، وكما نرى أنك تستحق، لا كما تريد أنت.. ليس لك عندي أي حقوق، كل ما لك هو عطاء مني، أستطيع منعه عنك، متى شئت".
بقية كلام لواء السجون، ولا أملك حتى الآن لتأكيدها سوى شهادات ذوي معتقلي العقرب، لم تخرج عن كونها مزيداً من التهديدات المتغطرسة، والتعامل مع المحبوسين باعتبارهم عبيداً لآلهة البطش والتعذيب داخل السجون، حيث يتحدّث من وضعية صاحب السلطات الإلهية، يعزّ من يشاء، ويذلّ من يشاء، وبيده الأمر كله.
هي نفسها الفكرة المسيطرة على عبد الفتاح السيسي في رؤيته للشعب، هو وحده الذي يرى، وهو الذي يقرر، هو العارف والحامي والعاطي، وعلى الجميع ألا يستمعوا لأحدٍ غيره، لتتحوّل مصر كلها إلى "سجن عقرب" كبير، يديره سجّان، لا يريد إزعاجاً من النزلاء.
في الأثناء، تأتي جريمة تصفية بائع السمك، مجدي مكين خلال، تعذيباً حتى الموت، على يد ضابط شرطة صغير، فتفرض المقارنة نفسها بين جريمة طحن بائع السمك المغربي، وسحل زميله المصري، أو بالأحرى المقارنة بين مجتمعين.
الأول انتفض هادراً بالقرب من الأطلسي، والثاني راح يغط في سكوته العميق، مفتشاً عن أسماء في قائمة عفوٍ تم طبخها للإعلان عنها في يوم ميلاد جنرالٍ أعمل آلة القتل في المصريين، قبل اعتلائه الحكم وبعده.
زائف ومصطنع، حد الغثيان، ما يصنعون لصناعة صورةٍ مضحكةٍ يكتبون تحتها "جنرال الإنسانية" الذي يصادف ميلاده ذكرى اغتيال نظامه الشهيد الدكتور طارق الغندور في محبسه، محروماً من الدواء والعلاج، في مثل هذا الأسبوع من العام 2014، ويصادف أيضاً الإعلان عن براءة طالب الطب النابه أحمد مدحت، من تهمة الدعارة التي لفقتها له السلطة، بعد أن قتلته قبل شهور.
لا تختلف عملية "هندسة قوائم العفو الرئاسي" في تفاصيلها عن صناعة كوميديا "فتاة التروسيكل" التي استقبلها زعيم المقتلة في قصره، ليمازحها ويطلق ضحكاته في الشاشات والميكروفونات، صارخاً في مشهدٍ يصلح لتدريسه نموذجاً للدراما الفجّة، المبتذلة، أنا إنسان.. أنا أعطف على الفقراء.
وكما شاءت المصادفات، غير البريئة بإطلاق، أن يقع الاختيار على فتاةٍ أغرقوا بصورها مواقع التواصل الاجتماعي، قبل أن يقدّموها في فضائيات الانقلاب، ويناشد المذيع السيسي استقبالها وتكريمها.
تشاء المصادفات، غير البريئة ذاتها، أن ينعقدَ مؤتمر للشباب في شرم الشيخ، تطرح فيه مسألة حبس داعية الانقلاب الشاب، ويناشدوا الزعيم العفو، فيتم تشكيل لجنة، واللجنة تضع قائمة، والقائمة تضم الناعوت والناعوتة، وحولهما مجموعة من شبابٍ مشمولين بالعفو، ولا تتوقف المصادفات عند هذا الحد، بل تتعثر اللجنة، وتتأخر في إعلان القائمة، ثم ترسلها، ليأتي القرار الرئاسي بالموافقة في يوم عيد ميلاد الزعيم.. سبحان الله يا مؤمن!!
وتنطلق الزغاريد وتقام الأفراح، ابتهاجاً بالمكرمة السلطانية، ولسان حالهم ينطق" في يوم عيدك يا مولاي".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق