ماذا بقي للجنرال؟
وائل قنديل
داخلياً، تتآكل مساحة الشعبية، المصنوعة، تحت أقدام الجنرال البليد، بأسرع من التوقعات، إذ يتنقل عبد الفتاح السيسي من فشلٍ إلى فشل، ويتلعثم في سياساته، كما في كلماته، والمحصلة: حالة انكشاف تام أمام أشدّ مؤيديه.من كارثة تعويم الجنيه إلى فضيحة بيع الجزيرتين للسعودية، يقف السيسي ونظامه عاريين أمام حقائق الواقع التي تنطق إن المسألة ليس انعدام كفاءة، فقط، وإنما هي، قبل ذلك وبعده، عدم جدارة معرفية وأخلاقية، وجهل كامل بمقتضيات التاريخ والجغرافيا.
أنت أمام شخصٍ يسلك على طريقة التاجر الذي يبيع أي شيء، بأيّ ثمن، من دون أدنى اعتبار لقيم الحق والواجب، وضارباً بمقتضيات الحلال والحرام عرض الحائط، مفترضاً أن الشعب سيصفق له، كلما أخرج من أكمامه بعض الخبز والأموال.
بمقتضى حكم القضاء الإداري، بخصوص جزيرتي تيران وصنافير، أمس، أنت أمام واقعة تفريط في التراب الوطني، لا ترجمة أخلاقية لها، سوى أنها خيانة عظمى، واستهانة بالقسم والدستور.
يتابع عبد الفتاح السيسي الانهيارات المدوية في أرضية مؤيديه، فيهرع لاستدعاء الجيش والشرطة والمخابرات، مستعرضاً عضلاته الأمنية، على شعبه، معلناً وضعية الاستعداد القتالي، بمواجهة كل من يقترب من الكرسي، وفي الخلفية تنفجر بالوعات إعلامية، تقذف حمماً فاشيّة، وتحرّض على قتل (وإبادة) كل من يفكر في التظاهر ضده.
يبقى للسيسي، على صعيد الداخل، عضلات أمنية، وحناجر عقور، لمليشيات رجال الأعمال الذين راهنوا بكل الماضي والمستقبل على سلطة الانقلاب، وربطوا مصيرهم بها، فإن هم ذهب انقلابهم، ذهبوا، ولذلك تجد هؤلاء أكثر ذعراً، وأشد كرهاً للغضب الشعبي من السلطة نفسها.
ولدى هؤلاء، بالطبع، إسناد من قطاعات شعبية، تستفيد بما يتساقط من فتات موائدهم، هي ذاتها القطاعات التي وجدت نفسها في الحياة في ظل فساد اقتصادي، واجتماعي، مربح، طوال عقود حكم حسني مبارك، وصارت غير قادرةٍ على الحياة في أجواء القانون والمعايير الأخلاقية، مكتفية بمكاسب الهتاف وبيع الأصوات أمام صناديق الانتخاب، ونهش المعارضين، بالأجر.
غير أن قسماً كبيراً من هؤلاء أدرك أن الأمور صارت من السوء، بحيث باتت مصالحهم مهدّدة، فبدأوا ينصتون لدعوات الاحتجاج والغضب، مع وصول منحنى التوحش الرأسمالي إلى درجاتٍ غير مسبوقة، بما يهدّد وجودهم ذاته. ومن هنا، يمكن تفسير حالة العصبية والتخبط التي يمر بها النظام إلى درجة التهديد بالجيش.
وعلى الصعيد الخارجي، تبدو وضعية "طفل العالم المبتسر" التي يبتز بها السيسي المواقف الدولية، في حالة تآكل وانكماش، خصوصاً على وقع أزمته مع السعودية، والتي تلقي بظلالها على علاقاته برعاة انقلابه الإقليميين، فيجد نفسه مكشوف الظهر، فيلعب على حبالٍ جديدة، سوف تضطره إلى البحث عن شئ آخر يبيعه لمن يلجأ إليهم، والذين يدركون أن الانتهازية هي محرّكه الوحيد في إنشاء علاقاته.
باع الجنرال الجزيرتين، كما يبيع المواقف والمبادئ في سوق السياسة العالمية، لا تحكمه اعتبارات الهوية، أو التاريخ، أو حتى المصلحة الوطنية، فيتنقل من الولاء الكامل للرياض إلى سياسة إخراج اللسان، وتلعيب الحواجب، والتلويح بالدخول في علاقةٍ كيديةٍ مع طهران، للضغط على السعوديين، فيحصل فيلم سينمائي عن مليشيات الحشد الشعبي"الشيعي" على جائزة في مهرجان في القاهرة، وتلعب وسائل الإعلام في مساحة تأكيد زيارة وزير البترول المصري إلى إيران، ثم نفيها، بحثاً عن وقود.
ويمكن القول إنه لم يبق في جعبة الجنرال شيء صالح للاستعمال، وقابل للتداول، إذ لم تعد حواديت المؤامرة الكونية تقنع أحداً، حتى وإن لجأوا مرةً أخرى لسلاح الأسطورة، والعزف على أوتار الخرافة، من دون تجديد أو ابتكار، فالكلام إن السيسي في وضعية النبي المحاصر بالأعداء سبق استعماله، ولم يجد نفعاً، كما فعل "مطرب أخبار اليوم" صحافي أحلام الزعيم، الذي وصفه قبل عامين بأنه "يملك قلب النبي محمد و صاحبه أبي بكر، وأن النظارة السوداء هي لكي لا يرى الفقراء دموعه، وهي تنساب ألما لأحوالهم".
باختصار شديد، لم تكن أحوال عبد الفتاح السيسي على هذا السوء، من قبل، ولم تكن مشاعر الغضب الشعبي على هذه الدرجة من التأجج، لكنه الغضب اليتيم الذي يبقى بلا مظلةٍ، كون المعارضة لا تزال تتعامل باستعلاء شديد، مع أصوات الغلابة، وتواصل رفاهية الثرثرة في أبراجها، أو بوتيكاتها التي تتغير ألوان واجهاتها، من دون تغيير في بضاعتها، أو خطابها المجفّف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق