شهادتي تحت عنوان"الخروج من جنة الاستبداد"
في هذا الجهد التوثيقي المهم للشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان.
وائل قنديل
كنا أول من استضافتهم الجزيرة لمقرها الرئيسي بعد الهجوم على مكتبها بالقاهرة وإغلاقه.
لم أصطحب معي من ملابس ومستلزمات سفر إلا ما يكفي لأسبوع، في طريقي لمطار القاهرة أبلغني صديق بأن محامي السلطة الشهير تقدم ببلاغ ضدي يطالب بمحاكمتي جنائيا ومنعي من السفر، بتهمة إهانة الجيش وتهديد الأمن القومي، لأني وصفت ماحدث في بأنه انقلاب عسكري وأن ما جرى عند دار الحرس الجمهوري مذبحة ارتكبتها قوات مسلحة، جيش وشرطة.
لم آخذ هذا البلاغ على محمل الجد واعتبرته نكتة، وسافرت وفي نيتي العودة بعد أسبوع، وحين وصلت الدوحة ومع ظهوري على شاشة الجزيرة واصفا ما حدث في مصر بأنه انقلاب وما تلاه من إجراءات هي جرائم ضد الإنسانية علمت من أصدقاء أن هناك سخطا رسميا عنيفا ضدي في مصر، قلت لا بأس هذا متوقع وحين أعود لن أغير موقفي المعلن منذ البداية، والذي يرى فيما جرى في مصر انقلاباً صريحاً .
انتهى الاسبوع وطلبت من إدارة الجزيرة أن ترتب لنا رحلة العودة فطلبوا مني البقاء لمدة أسبوع آخر لأن البث من القاهرة مستحيل وفي انتظار وصول ضيوف آخرين من القاهرة، وبالفعل وصل الراحل سعد هجرس وآخرون منهم عماد حسين والجوادي وسليمان جودة وبشير عبد الفتاح.
مع تطور الأحداث وارتكاب جرائم بحق المعتصمين ضد الانقلاب فوجئت ببداية التدخل في مقالاتي بصحيفة”الشروق”، في البداية حذف وتغيير سطور، وعلمت أن الضغوط رهيبة وغير عادية، فضلا عن أن ظهوري على الجزيرة بات مزعجا بشكل قد يعرضني للخطر عند العودة، ونصحني أحدهم بالبقاء في الخارج بعض الوقت، فقلت بل سأعود.
قبل أن نصل إلى لحظة جريمة رابعة العدوية كان مناخ التخوين والاتهام بالعمالة على أشده، وفي هذه الأثناء تلقيت عرضا بتولي تحرير “العربي الجديد”وأبديت موافقة مبدئية لكني طلبت الانتظار حتى أسافر للقاهرة ثم أعود للدوحة، فقال محدثي إن أجواء الهيستريا المخيمة على القاهرة قد تجعل خروجك منها مستحيلا.
وقعت جريمة رابعة وكتبت”تسلم الأيادي”فنشرت “الشروق”في رأس المساحة المخصصة لعامودي اليومي اعتذارا عن عدم النشر بناء على رأي المستشار القانوني للجريدة، كان هذا الاعتذار بالنسبة لي أسوأ وأخطر من المصادرة، إذ لم يكتف بمنع المقال وإنما اعتبر مضمونه خروجا عن القانون، وكاتبه خارجا على القانون أيضا.
مرة اخرى جاء صوت ناصحي من القاهرة: أنت لا تتخيل حجم الضغوط وكم الاتصالات التي تطالب بإسكاتك كلما ظهرت على الجزيرة، ولأول مرة يبدي خوفه عليً من الرجوع ويطالبني بالبقاء بالخارج.
تخيلته يبالغ في مخاوفه، أو أنه ضج بوجودي في الصحيفة، لكن ما حدث فيما بعد من تطورات أثبت استحالة أن تكون في مصر وتكتب ما تعتقده وتؤمن به.
المهم، قبلت عرض العمل كرئيس للتحرير، وابتدأت التغريبة، ومازالت مستمرة، صحفي لديه ٢٨ عاما من خبرة العمل الصحفي، توليت إدارة تحرير أكثر من صحيفة في مصر، اشتغلت رئيسا لتحرير صحيفة عربية جديدة، هل هذا غريب؟.
بمعايير السلطة القمعية المصرية الحديثة أصبحت عميلا وخائنا ومرتزقا على الرغم من أن كثيرين من مطلقي هذه الاتهامات يعلمون أن عملي داخل مصر كان يوفر لي معيشة هادئة وحالا ميسرا.
وما اعتبرته “نكتة”سخيفة في بداية الرحلة، صاراً واقعاً كابوسياً مثيراً للأسى على بلد يمكن فيه لأي شخص أن يسعى لتجريد مواطن مختلف معه من جنسيته، حيث تطورت المسألة من المحاكمة الجنائية والمنع من السفر، إلى إسقاط الجنسية، والأكثر مدعاة للحزن أن تتكاثر الاتهامات وتتعدد دعوى إسقاط الجنسية، وتجد كل الرعاية والاهتمام، بل والتشجيع، من “الدولة الجديدة”المشغولة بتنمية محصول “القمع”أكثر من اهتمامها بما يقيم الحياة.
الشاهد أن نظام السيسي، بأمنييه وسياسييه ومثقفيه وإعلامييه، لا يريد أن يصدّق أن هناك من لا يستطيع التعايش مع كل هذا القبح الساكن في مقبرتهم السعيدة، ولا يقبل أن يخدع نفسه، ومن يصدّقونه من قراء ومشاهدين، بأن هذه هي مصر، كما يعرفها التاريخ والجغرافيا، وكما يراها المحبون الحقيقيون.
هل هذه كل الحكاية؟
بالطبع لا، هناك الكثير لم يأت أوان الحديث عنه بعد!
وائــل قــنـديــل
كاتب صحفي
أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
ردحذف