أبتاه لم ترحل مآثركم
2016-11-21
عبد الله محمد سرور زين العابدين
الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد :
(وبشر الصابرين الذين إذا إصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون)
إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف علينا خيراً منها.
بقلوب مؤمنة راضية بقضاء الله وقدره، فقدنا والدنا الشيخ محمد سرور زين العابدين، الذي وافته المنية بمدينة الدوحة، يوم الجمعة 11 صفر 1438هـ، الموافق 11 نوفمبر 2016م، رحمه الله رحمة واسعة وغفر له.
هكذا حط الشيخ الجليل عصا الترحال، وانتهت مسيرة دهر من الغربة يتنقل خلالها بين الأوطان، حاملاً لواء الدعوة، واثقاً بنصر الله، متوكلاً عليه سبحانه .
فمن ربوع حوران، حيث النشأة وأولى مراحل البناء العلمي، إلى دمشق وما صاحبها من تحصيل جامعي، وانخراط عملي في صفوف الدعوة، مع تسلط النظام مما دفعه إلى هجرته الأولى من بلاده الحبيبة وهو يردد: "لولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت.."
وهاهو ذا يرد بلاد نجد معلماً ومربياً لجيل فتح الله عليه به، إذ صاروا فيما بعد منارات للهدى.
ويُبتلى الشيخ ثانية بأقوام لا خلاق لهم من البعثيين والناصريين، ولا يسلم معها من ظلم ذوي القربى في حقل الدعوة هناك،فيضطر ثانية للهجرة، وكان من أحب الأبيات إلى قلبه:
العين بعد فراقها الوطنا لا ساكناً ألفت ولا سكنا
وهذه المرة إلى الكويت، وقد كتب له فيها فتوح، فكانت "دار الأرقم"، بما نشرته من كتب وبحوث لعدد من أهل العلم البارزين، وكان كتابه الذي ملأ صيته الأفاق: "وجاء دور المجوس"، والذي كتب الله له القبول والانتشار، فطبع منه عشرات الطبعات، وهدى الله به خلقاً كثيراً، ولكنه ابتلي بسببه مرة أخرى، فحمل عصا الترحال من جديد إلى بريطانيا، حيث انطلق في دعوته، وأسس "مركز الدراسات الإسلامية"، وأصدر "مجلة السنة"، ونشر عدداً من البحوث والدراسات، منها: "منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله"، و"الحكم بغير ما أنزل الله وأهل الغلو"، و"دراسات في السيرة"، وغيرها الكثير.
ويتقدم بالشيخ السن، ويشتد به المرض، فيختار أن يجاور بالقرب من أهله في الأردن، ويرحل وأسرته من جديد، وقد سمعناه مرارا يردد:
بلادي وإن جارت علي عزيزة وأهلي وإن ضنوا علي كرام
أقام الوالد في عمّان يحاول التأقلم فيها، فتارة تجده مرتاحاً مستقراً، وأخرى يتململ من مضايقات يلقاها، حتى لاحت في الأفق تباشير الترحيب من قطر، فانتقل إليها، وارتاح في دوحة الخير، وأحب أهلها، إذ أحسنوا وفادته، وفاضت روحه الطاهرة فيها رحمه الله.
إن هول الفاجعة، وحجم المصيبة، وتوارد الأحداث، وتوافد المشيعين، ودعاء المعزّين من أنحاء العالم، وثناؤهم ورثاؤهم لفقيد الأمة، قولاً، ونثراً، وشعراً، كل ذلك لم يدع مجالاً لأبناء الشيخ ليضيفوه من ذكره الحسن، ومن مآثرهومناقبه، اللهم إلا خالص الدعاء أن يجعل المولى ذلك كله علامة على القبول وحسن الخاتمة، ونوراً يملأ به قبره، ويكرم به نزله، ومغفرة تنقيه من الذنوب والخطايا، وعفواً يرقى به إلى الفردوس في أعلى الجنان، بواسع رحمة الرحيم المنان.
المشاعر حتماً تختلج، والمعاني تفيض، والأفكار تتزاحم، والعبارات تتداخل، للإفصاح عما يعتمل في الصدر، فمن أين يبدأ المرء، وماذا يقول؟!
تعذر في رحيلك ما أقول كأن الشعر بعدك مستحيلُ
فهل أشدو بحبك في قصيد وهذا الحب ليس له مثيلُ
كيف لولد مكلوم أن يعبر عن مشاعره الجياشة تجاه والده العالم الجليل الرباني، صاحب الفكر الناصع، والقلم الرصين، والرؤية الثاقبة، والمواقف الفذة ..
لا أملك إلا أن أقول أن والدنا الشيخ محمد سرور رحمه الله كان مدرسة في العلم والعمل والدعوة والصدع بكلمة الحق.
وكان مدرسة في الوسطية والاعتدال بمفهومها الأصيل.
وكان مدرسة في الجمع بين أصالة المنهج وعصرية الطرح.
حباه الله فهماً ثاقباً ميزه عن أقرانه وسبق به عصره كما شهد له بذلك الكثيرون .
حبه للعلوم الشرعية دفع بي للالتحاق بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية.
وشغفه بفقه الواقع دفع بأخي الدكتور بشير لدراسة التاريخ الحديث والسياسة، وبرز فيها ..
نصحتنا ما أحيلى النصح يا أبتي
فأنت مدرسة في النصح لا عجبا
لا يسعني في هذا المقام، ولا يمكن أن تفي العبارات بمعالم هذه المدرسة، التي تخرج منها وتأثر بها الكثيرون من أرجاء العالم الإسلامي ..
إلا أن أبرز هذه المعالم مما كان له بالغ الأثر علي وعلى إخواني أننا تعلمنا وتربينا على المبادئ التالية:
1- شمولية هذا الدين وأن الإسلام دين عقائد، وعبادات، ومعاملات، وسلوك، وسياسة، واقتصاد، وجهاد، من دون أن يطغى جانب على آخر.
2- وسطية أهل السنة والجماعة بين الفرق، كما أن الإسلام وسط بين الأديان.
3- الانفتاح على جميع تيارات أهل السنة، والتعامل معها، والتناصح فيما بينها، والا فالتعايش السلمي بين أبنائها.
4- السعي لتحقيق الوحدة الإسلامية والعمل من أجلها، والتضحية في سبيلها.
5- التحذير من الغلو وأهله،وبراءة السلفية من الولاة والغلاة.
6- كشف عوار أهل الأهواء والبدع وعلى رأسهم الرافضة وبيان زيف دعاواهم وفضح مخططاتهم.
7- تبيين فساد النظم الدكتاتورية الشمولية، وزيف شعاراتها، وأثر ظلمها على شعوبها، وضرورة الوقوف في وجهها وقول كلمة الحق فيما تقوم به من طغيان واستبداد.
8- تحلي العاملين في حقل الدعوة بالإخلاص، والصدق مع الله، والبعد عن الرياء وحب الشهرة، وعدم التزلف للسلطان لنيل أعراض الدنيا، والتحلي بالعصامية التي عرف الشيخ بها، وتكنى بأبي عصام!
9- الترفع عن الخصومات والمهاترات والردود على من لاهمّ لهم ولا ديدن الا تجريح وتبديع وتفسيق اآتخرين، مع الترحيب بالنقد البنّاء لمن يحمل هم الدعوة من المخلصين.
10- تبني قضايا الأمة الإسلامية، والتفاعل معها، والدفاع عنها، تحقيقاً لعقيدة الولاء للمسلمين، وتجسيداً لمعنى الجسد الواحد.
إلى غير ذلك من المبادئ الراسخة، والقيم النبيلة، التي تحلى بها والدنا الجليل رحمه الله وغفر له، وعلمنا إياها، وربانا عليها ..
ولعل أبرز جوانب القدوة في حياة الراحل رحمه الله: عزة المسلم، إذ كان يأبى التزلف للحكام، فيأتونه ولا يأتيهم،
كما كان يرفض الشهرة، والظهور على الفضائيات لسنوات، حتى اضطرته بعضها للقبول على مضض..
وكان يزهد في المناصب ويرفض الهبات والأعطيات فتأتيه الدنيا وهي راغمة :
ولوأن أهل العلم صانوه صانهم
ولوعظموه في النفوس لعظما
ولوعظموه في النفوس لعظما
لقد كنت أنظر إلى حشود المصلين، والمشيعين، والمعزين، بأعدادهم الهائلة في الدوحة، وفي غيرها من مجالس العزاء في السعودية، وتركيا، ولندن، فتنتابني مشاعر لم أتمالكها، وخواطر أود تبيانها:
الأولى: سؤال المولى عز وجل أن تكون تلك الحشود، وذاك الذكر الحسن، من علامات القبول وحسن الخاتمة إن شاء الله.
الثانية: تجسد لي وأنا أرى هذه الأعداد الغفيرة من العلماء والدعاة وأهل الخير وكبار المسؤولين ورجال الإعلام وغيرهم من المحبين معنى قول السلف لأهل الأهواء والبدع: "بيننا وبينكم الجنائز".
الثالثة: ثقل الأمانة، وعظم المسوءولية، التى خلفها فقيدنا الغالي، أسأل الله تعالى أن يوفقنا لحملها على الوجه الذي يرضيه عنا.
لقد ختم الشيخ حياته موصياً أبناءه بتقوى الله عز وجل في السر والعلن، والتمسك بعقيدة التوحيد، والمحافظة على الجمع والجماعات، والعمل بطاعة الله، واجتناب الآثام والمعاصي، والالتزام بآداب الإسلام، وبر الوالدين، وصلة الرحم، وأن يجعلوا القرآن هاديهم، ومحمداً صلى الله عليه وسلم قدوتهم، وألا يموتوا إلا وهم مسلمون، وأن يلزموا خطه في الدعوة.
كما أوصى رحمه الله بكثرة الدعاء والاستغفار له، مؤكداً أنه مسامح لكل من له حق عليه مهما كان هذا الحق، وراجياً أن يسامحه كل من أخطأ بحقه.
أما آخر ما وصى به الأمة الإسلامية فقد كان قوله:
"لا بد أن نتوحد والساحة الإسلامية تتسع لنا جميعاً، والصغير يجب أن يفهم دور الكبير في التوجيه والنصيحة، وأنا مؤمن بأن الله ناصرنا، وهو معنا إن صدقنا مع الله".
إننا ندرك أن المصاب واحد؛ ليس لأهل الشيخ وذويه فحسب، بل لجميع الأمة الإسلامية، وهذا عزاؤنا وسلواننا..
لذا، فإننا نود أن نعبر عن بالغ الشكر والتقدير لكل من تقدم لنا بالعزاء، وواسانا، ووقف إلى جانبنا، كما نلتمس من الجميع أن لا ينسى الفقيد بدعائه المتواصل، والترحم عليه، والاستغفار له.
إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا، وإنا لفراقك يا أبانا لمحزونون ..
غادرت عنا ولم ترحل مآثركم وصرت فينا كمثل النار في عتم
اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم أبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، اللهم أدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار.
اللهم آمين، والحمد لله رب العالمين.
وكتبه :عبد الله محمد سرور زين العابدين
وكتبه :عبد الله محمد سرور زين العابدين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق