"غوانتنامو قصتي".. الحلقة الرابعة
سامي الحاج
مدير مركز الجزيرة للحقوق والحريات، ومعتقل سابق بسجن غوانتنامو.
مع إصراري على عدم رفع الإضراب في تلك الأوضاع المأساوية كانت تتمم تغذيتي القسرية على كرسي الإعدام الذي صُمِّم ليبث الرعب أولًا في نفسي، ثم لأُقيَّد عليه، أنا الناحل المضرب عن الطعام بأكثر من اثني عشر حزامًا حتى يتسنَّى "للطبيب" أن يتفنن في إدخال وإخراج أنبوبه الملعون بلا شفقة ولا رحمة داخل أنفي وحلقي ورئتي ثم من بعدُ معدتي.
كان ذلك الأنبوب يؤذيني أشد الأذى، كان يجرح ويُقرِّح أنفي وحلقي ويملأ رئتي فأشرق به حتى يخنقني ويمنع عني النَّفَس. وعندما أتقيأ ألتقط أنفاسي وأفتح عينيَّ دون أن أستطيع من وطأة الألم والتعذيب تحريك أيِّ عضو من أعضائي لأن الأحزمة القاسية كانت لا تربطني فقط وإنما تلصقني على كرسي الإعدام على نحو كامل الإحكام.
أمَّا غرز الإبر بحجة أخذ الدم للتاكد من حالتي الصحية فحدِّث ولا حرج! إذْ لم يبقَ لي عِرْقٌ إلا وقد وُخِزَ وغُرزت فيه الإبر بغرض التعذيب والإيذاء، وأيضًا بغرض تدريب المستجدين من الطواقم "الطبية" على جسمي الذي أقل ما يمكن أن يوصف به هو أنه جسم قد هدَّه الجوع وأصابه الوهن. هكذا مرت أيامي الأخيرة في ذلك المعتقل التعيس، أكثر المعتقلات مأساوية وسوداوية في تاريخنا الحديث.
حقًّا هناك جنود قاموا بالتعذيب وضباط شاركوا وأمروا به، وذهب الكثيرون إلى المبالغة في اتهام الجنود والضباط وتحميلهم المسؤولية عن تعذيب المعتقلين في غوانتانامو، وهم صادقون. لكن العقل المدبِّر والمخترع الرئيس لوسائل التعذيب البدني والنفسي المتنوعة في الحقيقة هم هؤلاء الأطباء الذين أبدعوا في القسوة والألم وإيذاء بني البشر.
وقد صرَّحوا لنا ذات يوم قائلين: سنعذبكم دون موت.. ولن نسمح لكم بالموت عندنا، ولكن ستعيشون بين الموت والحياة. كان هذا هو شعارهم اللعين. بل إن صحفيا أميركياً في مقاله المنصف "التجنُّب والهروب والمقاومة" قال بالحرف الواحد: وحسب معايشتي لهؤلاء الأطباء فقد كانوا مشرفين حقيقيين على كل مراحل التعذيب مبيِّنين كل مناطق الألم ومراكز الإحساس، وقد تجاوزوا مجرد الاستشارة في أكثر من حالة. ورغم حرصهم على أن يظلوا خلف الستار، فهم مسؤولون عن أنواع من التعذيب والإيذاء بل ونقل الإفساد مع الترصد والإصرار.
إنه لهولٌ مفزع فالأطباء الذين وضعوا أنفسهم في خدمة الألم بعد أن أهَّلتهم جامعاتهم وعوائلهم ليكونوا أعداء له وبعد أن أقسموا القسم الطبي أثناء تخرجهم، أصبحوا يمارسون من مثيرات الألم أصنافًا شتَّى وأنواعًا كثيرة، تبدأ من إعطاء المريض دواء منتهي الصلاحية، وهذا ما حدث عندما أعطي "الكرمن" (قطرة العين) للأخ "عبد الرحمن الغامدي" فالتهبت عينه وازداد ألمًا على ألم.. وآخر أُعطي قطرة الأذن بدلًا من قطرة العين، وغيرهم كثير. أمَّا العمليات الجراحية في المعتقل، فتنقسم إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: يزعمون فيه الأخطاء الطبية، وهذا أمر لا محيد عنه، ومتعارف عليه في غوانتانامو. وقد سمعت في تقرير أن الأخطاء الطبية في عموم الولايات المتحدة تبلغ سنويًّا 150 ألف خطأ رغم التقدم التقني والخوف من المتابعة القضائية، فكيف بمستشفيات غوانتانامو حيث لا رقيب ولا حسيب، وحيث السوء يتجلَّى في أبشع صوره.
ومن نماذج ضحايا الأخطاء الطبية المفترضة أو المفتعلة على الأصح في غوانتانامو، الأخ عبد الرحمن المصري الذي قُطعت رِجله بطريقة بشعة، حيث تركوا قدرًا يسيرًا من الساق تحت الركبة رغم أنه كان بإمكانهم أن يتركوا خمسة عشر سنتيمترًا، بدلًا من خمسة سنتيمترات. زد على ذلك أنهم نزعوا من اللحم أكثر من اللازم فأصبح العظم معرضًا للألم، وينكأ الجرح كلما لامسه ثوب أو قيد أو أرضية الغرفة فيكاد يُصعَق من فرط الألم.
النوع الثاني: هو عمليات مُفشَلة (تم تعمُّد إفشالها)، كما وقع للأخ "أنصر الباكستاني" الذي أجريت له عدة عمليات فاشلة، حتى أُصيب بالشلل شبه الكامل، بعد أن كان من أقوى الناس جسمًا وأقومهم شكلًا وأحسنهم مشية.
النوع الثالث: هو "العمليات العبثية"، وهي تُجرَى لثلاثة أسباب: أحدها: تأديب قادة الاحتجاجات؛ فالمعتقل "عمران الطائفي" أُجريت له عشرون عملية جراحية لعرقلة نشاطه في قيادة تلك الاحتجاجات. وثانيها: تدريب المتدرِّبين على إجراء العمليات. وهناك حالة أو اثنتان على الأقل أُجريت لغير الغرضين السابقين، ويزعمون أنها مجرد "عمليات جراحية عادية"
كان ذلك الأنبوب يؤذيني أشد الأذى، كان يجرح ويُقرِّح أنفي وحلقي ويملأ رئتي فأشرق به حتى يخنقني ويمنع عني النَّفَس. وعندما أتقيأ ألتقط أنفاسي وأفتح عينيَّ دون أن أستطيع من وطأة الألم والتعذيب تحريك أيِّ عضو من أعضائي لأن الأحزمة القاسية كانت لا تربطني فقط وإنما تلصقني على كرسي الإعدام على نحو كامل الإحكام.
أمَّا غرز الإبر بحجة أخذ الدم للتاكد من حالتي الصحية فحدِّث ولا حرج! إذْ لم يبقَ لي عِرْقٌ إلا وقد وُخِزَ وغُرزت فيه الإبر بغرض التعذيب والإيذاء، وأيضًا بغرض تدريب المستجدين من الطواقم "الطبية" على جسمي الذي أقل ما يمكن أن يوصف به هو أنه جسم قد هدَّه الجوع وأصابه الوهن. هكذا مرت أيامي الأخيرة في ذلك المعتقل التعيس، أكثر المعتقلات مأساوية وسوداوية في تاريخنا الحديث.
من نماذج ضحايا الأخطاء الطبية المفترضة أو المفتعلة على الأصح في غوانتانامو، الأخ عبد الرحمن المصري الذي قُطعت رِجله بطريقة بشعة. |
وقد صرَّحوا لنا ذات يوم قائلين: سنعذبكم دون موت.. ولن نسمح لكم بالموت عندنا، ولكن ستعيشون بين الموت والحياة. كان هذا هو شعارهم اللعين. بل إن صحفيا أميركياً في مقاله المنصف "التجنُّب والهروب والمقاومة" قال بالحرف الواحد: وحسب معايشتي لهؤلاء الأطباء فقد كانوا مشرفين حقيقيين على كل مراحل التعذيب مبيِّنين كل مناطق الألم ومراكز الإحساس، وقد تجاوزوا مجرد الاستشارة في أكثر من حالة. ورغم حرصهم على أن يظلوا خلف الستار، فهم مسؤولون عن أنواع من التعذيب والإيذاء بل ونقل الإفساد مع الترصد والإصرار.
إنه لهولٌ مفزع فالأطباء الذين وضعوا أنفسهم في خدمة الألم بعد أن أهَّلتهم جامعاتهم وعوائلهم ليكونوا أعداء له وبعد أن أقسموا القسم الطبي أثناء تخرجهم، أصبحوا يمارسون من مثيرات الألم أصنافًا شتَّى وأنواعًا كثيرة، تبدأ من إعطاء المريض دواء منتهي الصلاحية، وهذا ما حدث عندما أعطي "الكرمن" (قطرة العين) للأخ "عبد الرحمن الغامدي" فالتهبت عينه وازداد ألمًا على ألم.. وآخر أُعطي قطرة الأذن بدلًا من قطرة العين، وغيرهم كثير. أمَّا العمليات الجراحية في المعتقل، فتنقسم إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: يزعمون فيه الأخطاء الطبية، وهذا أمر لا محيد عنه، ومتعارف عليه في غوانتانامو. وقد سمعت في تقرير أن الأخطاء الطبية في عموم الولايات المتحدة تبلغ سنويًّا 150 ألف خطأ رغم التقدم التقني والخوف من المتابعة القضائية، فكيف بمستشفيات غوانتانامو حيث لا رقيب ولا حسيب، وحيث السوء يتجلَّى في أبشع صوره.
ومن نماذج ضحايا الأخطاء الطبية المفترضة أو المفتعلة على الأصح في غوانتانامو، الأخ عبد الرحمن المصري الذي قُطعت رِجله بطريقة بشعة، حيث تركوا قدرًا يسيرًا من الساق تحت الركبة رغم أنه كان بإمكانهم أن يتركوا خمسة عشر سنتيمترًا، بدلًا من خمسة سنتيمترات. زد على ذلك أنهم نزعوا من اللحم أكثر من اللازم فأصبح العظم معرضًا للألم، وينكأ الجرح كلما لامسه ثوب أو قيد أو أرضية الغرفة فيكاد يُصعَق من فرط الألم.
النوع الثاني: هو عمليات مُفشَلة (تم تعمُّد إفشالها)، كما وقع للأخ "أنصر الباكستاني" الذي أجريت له عدة عمليات فاشلة، حتى أُصيب بالشلل شبه الكامل، بعد أن كان من أقوى الناس جسمًا وأقومهم شكلًا وأحسنهم مشية.
النوع الثالث: هو "العمليات العبثية"، وهي تُجرَى لثلاثة أسباب: أحدها: تأديب قادة الاحتجاجات؛ فالمعتقل "عمران الطائفي" أُجريت له عشرون عملية جراحية لعرقلة نشاطه في قيادة تلك الاحتجاجات. وثانيها: تدريب المتدرِّبين على إجراء العمليات. وهناك حالة أو اثنتان على الأقل أُجريت لغير الغرضين السابقين، ويزعمون أنها مجرد "عمليات جراحية عادية"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق