الجمعة، 11 نوفمبر 2016

"غوانتنامو قصتي".. الحلقة الثالثة



"غوانتنامو قصتي".. الحلقة الثالثة

سامي الحاج
مدير مركز الجزيرة للحقوق والحريات، ومعتقل سابق بسجن غوانتنامو.



مكثت في المستشفى عدَّة أيام أكابد التشوش والقسوة والألم. كانت الساعات تمر بطيئة، لم أكن أميز الليل من النهار ولا أعرف كيف سيكون آخر المطاف. كان جسمي ينهار على نحو مزعج لكن ربي منحني صبرًا وقوةً ما عهدتهما من قبل في نفسي.

كنت أقاومهم ما استطعت وأنا في القيد والأصفاد لكنهم كانوا يتغلبون عليَّ آخر الأمر عازمين على تغذيتهم القسرية فيُدخلون أنبوبهم المؤلم ليقرِّح أنفي وحلقي. لا أدري كم من الوقت لبثتُ في تلك الحالة المأساوية في المستشفى، لكنني أتذكر أنهم جاءوا وأعادوني إلى العنبر ذات نهار.

إن من يمتلئ قلبه بالإيمان يكون في مقدوره تحمل ما لا يتحمله الصخر في جبله.
بعدها رحت أتردد بين عنبر "إيكو" الذي أُمضي فيه سائر اليوم وعنبر "إنديا" الذي أذهب إليه للتغذية القسرية مرتين لليوم وهو العنبر المخصَّص للمضربين آنذاك؛ وكان من المفترض أن أبقى فيه بعد رجوعي من المستشفى لكن الإدارة خشيت أن يشجعني بقائي فيه على المقاومة ورفض التغذية القسرية، لاسيما أن إخوة على ذات نهجي كانوا هناك؛ ولقد أصَرَّ بعضهم على الإضراب لعامين متتاليين، منهم الأخ أحمد المكي والأخ عبد الرحمن المدني. غير أني وبعون الله صمدت رغم صعوبة ظروف المكان الذي كان مخصَّصًا أصلًا كمكان لتعذيب المضربين عن الطعام.

سمتان كانتا تميزان ذلك المكان، هما: العزلة التامة ودرجة البرودة القاسية الناجمة عن المكيِّف العالي، فكثيرًا ما كانت تصل درجة البرودة في زنزانتي إلى ما تحت الصفر وأنا عارٍ إلا من سروال خفيف (شورت)، لكنني ومع تذكري لبلال وكل أولئك الرجال كنت أُحِسُّ بطاقة جبارة تجتاح رُوحي وكياني بل وتسري في أوصال ما يجعلني، ويشهد الله، أشعر بالدفء يسري داخل كل خلية من جسمي ولا أبالغ حين أقول: إن الزنزانة كانت في بعض الأحيان تتحول لمكان عامر بالدفء لعشر أو خمس عشرة دقيقة، وذلك من فضل الله. وإذا كان لي أن أقول شيئًا واحدًا فإنني سأقول مع المؤرخ البريطاني آرنولد توينبي: إن الكائن الإنساني كائن لا يُقهَر، بل وأزيد: إن من يمتلئ قلبه بالإيمان يكون في مقدوره تحمل ما لا يتحمله الصخر في جبله.

زاد كذلك من قسوة المكان أسلوب الحراس فيه الذي كان أسلوبًا همجيًّا أرعن سيئًا للغاية؛ إذ كانوا يقتحمون الزنازين بفرق الشغب بلا سبب ويُفرِطون في الضرب والتعذيب بغية التخويف لنتراجع عن مواقفنا الصلبة ونتخلى عن مطالبنا العادلة. وفرق الشغب هذه كل فرقة فيها مكونة من سبعة جنود يرتدون الحاميات والواقيات، وهم يدخلون عليَّ في زنزانتي يرافقهم مسؤول يمسك بيده غازًا مُسيلًا للدموع كنَّا نسمِّيه: رجل الفلفل، صاحب البخَّاخ الحارق.

كان هذا المسؤول يتقدم منِّي ويأخذ في التحدث إليَّ بهدوء ثم بغتةً يوجِّه علبة الغاز إلى وجهي ويضغط عليها، وعندما أغمض عينيَّ وأنا أتلوى من الألم يقوم السبعة الآخرون بإدخال وجهي في فتحة المرحاض ثم يشرعون في تقييد قدميَّ ويديَّ حتى لا أقاومهم، بعدها يقومون بضربي، وهم يا للعجب يضربون ضربة الخائف رغم كثرتهم وتسلحهم، وإن ضربة الخائف لأشد إيذاءً وألمًا.

في كثير من الأحياء كانوا يقطعون الماء عن صنبور الزنزانة حتى لا أتمكن من غسل الشورت الذي يتلوث مني بالقيء والأوساخ، لم أكن لفترة طويلة أرتدي سوى ذلك الشورت بينما البرودة التي تصل إلى ما تحت الصفر تعصف بي وبجدران الزنزانة. ومن المؤكد أن شخصًا مثلي ترعرع ونشأ في جو السودان الحار تكون البرودة عذابًا حقيقيًّا لأن جسمي لم يستطع مطلقًا التكيف معها، كان ترياقي الوحيد هو التلذذ بقوة الإيمان واستدعاء ذكرى الرجال الذين صمدوا أمام أهوال تفوق أهوالي.

بعد مضي شهر تقريبًا على برنامجي اليومي بين إنديا وإيكو تم نقلي إلى عنبر شارلي، ولم يمضِ وقت حتى تم إخلاء عبر إنديا من كافَّة المضربين؛ حيث تم نقل ثلاثة منهم إلينا في شارلي، هم: الأخ أحمد المكي والأخ عبد الرحمن المدني والأخ محمد الشنقيطي. ثم خصَّصت لنا وحدة الإدارة المشرفة علينا عنبر هوتيل المقابل لعنبر شارلي للتغذية القسرية، التي كان يتم إخضاعنا لها مرتين في اليوم.

وإني لأذكر أن فترة شارلي كانت أكثر مراحل الإضراب هدوءًا رغم المضايقات التي صحبتها كالحرمان من النوم ومصادرة كل شي ما عدا الحصير والملابس البرتقالية، كذلك مُنعت عنا الرسائل وسائر وسائل التواصل والمراسلة مع الأسرة. ولعل ما دفع الإدارة لتهدئة الأجواء في شارلي هو تراجع بعض المضربين عن إضرابهم وتناولهم الطعام والانتظام في الوجبات نتيجة وعود قطعتها لهم الإدارة، وهذا أسلوب مكين في أساليب الإدارة البراغماتية المراوِغة في غوانتانامو، فكلما تراجع عدد المضربين عن الطعام تُخفِّف الإدارة من الضغظ على الباقين علَّهم يتراجعوا، وكلما كان عدد المضربين عن الطعام في تزايد اشتدت الضغوط علينا.

وبالفعل لم يمضِ وقت حتى اكتشف الكثيرون زيف الوعود التي قطعتها لهم الإدارة فعادوا مرة أخرى للإضراب عن الطعام. وأُسقط في يد الإدارة كرَّةً أخرى. ولمَّا لم يُجدِ مكرُها وكيدُها انتهى بها الرأى في فترة لاحقة إلى تجميع المضربين عن الطعام بعد أن ازداد عددهم مجدَّدًا من أربعة إلى ما يقارب العشرين.

النوم، أمر لم أكن لأحلم به من شدة الإزعاج المتعمد بالغسيل الليلي والتفتيش العشوائي، فضلًا عن ضجيج الآلات المزعجة في غوانتانامو.
هذه المرة كان عنبر دلتا هو المكان الأنسب لتلك المهمة غير الأخلاقية؛ فزنازين عنبر دلتا مصمَّمة على شكل عنبر روميو أي إنها مغطَّاة بالبلاستيك المقوَّى، كما أن نوافذها موصدة على نحو دائم مما يجعل التنفس أمرًا عسيرًا غاية العسر. كثيرًا ما كان يصعب عليَّ التنفس، لا سيما أن النوافذ المغلقة عزَّزت ألسنة الرطوبة التي كنتُ أراها تتلوى وتتكاثف حتى كأنها بخار الماء تطلقه آنية تغلي من تحتها جمر.

إضافة لكل هذا كان ذلك المسؤول المصاحِب لفرق الشغب يطلق علينا أبخرة لاسعة حارقة من البخاخات المسيلة للدموع، تلك البخاخات التي كنَّا نسميها ببخاخات الفلفل، كان يدخل بغتة علينا برفقة الفرقة ذات الرجال السبعة ويضغط بخاخاته علينا دونما سبب وبلا سابق إنذار. أذكر أن مفعول البخاخ كان يتضاعف بل لا يطاق نتيجة لجو العنبر الموصد من كل الجهات. وعندما ينتهون قد يأخذون البعض منَّا بدعوى أنهم يريدون غسل أثر الغاز من العينين، لكنهم يقتنصون تلك الفرصة لكي يعطوني رسائل أسرية وصورًا فوتوغرافية لابني يزعمون أنها وصلت حديثًا بينما الحقيقة أنها وصلتهم قبل وقت طويل وقاموا بحجزها عنِّي. ومع الصور والرسائل يأخذون في تقديم الإغراءات بغية أن أعود لأتناول الطعام.

بعد رؤية صور ابني ورسائل أسرتي كنت أحيانًا أحظى ببعض الاسترخاء والهدوء، أمَّا النوم فذلك أمر لم أكن لأحلم به من شدة الإزعاج المتعمد بالغسيل الليلي والتفتيش العشوائي، فضلًا عن ضجيج الآلات المزعجة في غوانتانامو، تلك التي لم تكن لتتوقف عن العمل على مدار أربع وعشرين ساعة من اليوم.

















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق