الخميس، 24 نوفمبر 2016

بيغوفيتش.. الرئيس الإنساني والانتصار الإسلامي


بيغوفيتش.. الرئيس الإنساني والانتصار الإسلامي




مهنا الحبيل

هناك مساحة في غاية الأهمية تم إهمالها، وهي مساحة متعلقة بجوانب الوعي الفكري الإسلامي المعاصر في كل الشرق، بل وخطاب العالم الإنساني الباحث عن الحقيقة بين توازنات المعرفة وأشواق الحرية، في شخصية علي عزت بيغوفيتش.

في شخصية الرئيس الإنسان، ورحلة الحكم التي خاضها، وودع الدنيا بعدها رحمه الله، وفيا لفلسفته العميقة، ورسالته الحضارية التي فهم بها مدلولات المعادلة الثنائية للمادة والروح في قصة الإنسان، وتحريره لها في قلب الصراع الحادّ بين الإلحاد والإغراق الروحي الكهنوتي.


من الصعب للغاية أن نجد في تاريخ البشرية مفكرا فيلسوفا، ينجح في تجربة سياسية يشارك فيها، فضلا عن أن يكون هو الرئيس للدولة، وفضلا عن أن تكون هذه الدولة مركز استهداف ديني وقومي شرس لا حدود لوحشيته، ثم يستمر هذا الرئيس قائدا ناجحا، يحمل شعبه بكل أعراقهم وديانتهم نحو سكة السلام، وهو يُصر على أن فهمه لفكر الإنسان في الإسلام هو مادته النهضوية لإنقاذ الأسرة البشرية في البوسنة والهرسك، بما فيها الطوائف التي خرج البغاة المتوحشون منهم، ويُجدَّد انتخابه بأصوات المسلمين ولكن بأصوات شريحة مهمة من الصرب والكروات.

في إطلاق أ. د. عبد الوهاب المسيري، على علي عزت بيغوفيتش لقب المجتهد المجاهد، معنى مهما لسيرة الكفاح التي خاضها في السجون الشيوعية، أو في الحصار الشرس على قصر الرئاسة في سراييفو، وبقي بيغوفيتش ممسكا بريشة الحلم الفكري، يكافح فيه عدوانية الغرب والشيوعية، لاغتيال وطنه الذي خاض حرب البقاء وانتصر بفضل الله ثم جهاد حكمته.
"في إطلاق المسيري، على بيغوفيتش لقب المجتهد المجاهد، معنى مهما لسيرة الكفاح التي خاضها في السجون الشيوعية، أو في الحصار الشرس على قصر الرئاسة في سراييفو، إذ بقي بيغوفيتش ممسكا بريشة الحلم الفكري، يكافح فيه عدوانية الغرب والشيوعية، لاغتيال وطنه"
ومن المهم للغاية، أن نفهم معادلة الدفع للمقاومين الإنسانيين المؤمنين برسالة العدالة في الإسلام كدين لهم، أو في أي ديانة أو ملة أخرى، وأن طبيعة الخلق لا بد لها من قوة تحمي الحق فيها، ولذلك فإن مسارات الوعي الفكري وإقرارات العدالة الإنسانية، لا تتعارض أبدا مع حق الدفاع والكفاح المسلح، ولا يوجد غصن زيتون لا يحميه مدفع عنيد، فلا يسلّم الغصن لمزنجرات العدو المتخلف عن الحضارة، مهما بلغ تقدمه العلمي المشهور، ما دام حق الشعوب رهن مصالحه، لا حق قرارهم وحريتهم.

ولذلك لا بد أن يُسقط تأثير قوة وصلابة علي عزت بيغوفيتش على جيشه وقواته ومتطوعي شعب البوسنة، ومن شاركهم من ضباط وطنيين من الصرب والكروات ضد معادلة حرب الفناء لجمهورية البوسنة التي قرر الغرب وموسكو اقتسامها بأيدي ميلوسفتش، لولا أن الإرادة الحديدية للبقاء المتعلقة بالله، كانت تُحوّل السلاح البسيط إلى قلاع حصينة، رضخ بعدها شركاء التصفية إلى حل أقر ببقاء البوسنة والهرسك.

وكان قائد هذه المعركة باقتدار علي عزت بيغوفيتش نفسه، وقد قال سلوبودان ميلوسوفيتش مرة، إن البوسنيين بهذا الصمود والقتال، لو كان لديهم سلاحنا (يقصد المعتدين الصرب) لوصلوا لبلغراد، فما الذي وحّد هذه الكتلة البشرية المحاصَرة، والمتداخلة دينيا وعرقيا حتى زمن الحرب مع هذا الرئيس، وكيف نجح في إسقاط الحصار وتثبيت الجمهورية المختلفة في قلب أوروبا.

تظهر في خطاب علي عزت بيغوفيتش روح المقاومة الفكرية في فلسفته في إقرار الطريق الثالث للإيمان والنهضة، فهو يطرح أسئلته بقوة وأدب معا، هو يصارح بكل عزيمة على ماذا تفصّل مقاييس الإنسان، وتقدّس نظريات تَسقط من عين العقل، ويختتم معناها في النهاية إلى فكرة عدمية مفلسة.

في مواجهته الفكرية للمادية الإلحادية بصورها المختلفة، اقتحم بيغوفيتش العقل بأداة تساؤل مذهلة، معلنا أن كل مبادئ الوجودية المادية، تتحدث عن حيوان مطوّر، هو الإنسان، فقط حيوان مطور، لأنه لا وجود للروح، وأين هذه الروح وكيف خلقتها المادة المجردة؟

وهي ذات الروح من أول التاريخ، إنما تتطور معارفها، لا جواب لدى المادية الوجودية شيوعية أو ديالكتيك من كل مكان، إلّا إعادة قصة التاريخ والمادة، هروبا من سؤال أزلي، قوته كامنة في روح الإنسان، فتُهزم هذه الخرافة عند هذا السؤال، ليس سخرية منها ولكن لكونها خرافة فعلا بمنظور التأمل الحقيقي للوجود.

يتساءل علي عزت بيغوفيتش عن تناقضات المهمة الوجودية لصناعة رسالة أخلاقية، تُنكر الروح المستقلة وجوديا عن المادة، وهو ما تعمل عليه الوجودية لتعويض تناقضها وملأ الفراغ الضخم لأخلاقيات الإنسان، ثم يُشير إلى سقوط المعادلة من داخلها.

"إن الإيمان هو الذي حمل بيغوفيتش على أن يرفض الاحتماء بخصوصية القصر الرئاسي، وحمله على المبيت في شقته المتواضعة مع أهله، فإذا دوّت أجراس القصف، اطمأن على كل جيرانه في الملجأ، ثم عاد لمكتبه وأكب على القرآن، يركن إلى الدستور الأزلي المقدس لرعاية الروح ونهضة الجسد، حتى تنتهي موجة القصف"
فمن يبعث الأخلاق الروح أم المادة؟ المادة لا تبعث فكرا ولا تنمي خلقا، ولا تتطور بذاتها لتتحول إلى منظومة سلوك.ويقول لهم بكل احترام، هناك ملاحدة ذوي خلق، لكن ليس هناك إلحاد أخلاقي، لأنه ساقط في تفسيره العلمي، فباعث الخُلق لدى الملحد والمؤمن هو الروح، فمن أنكر الروح أنكر نزعة الخُلق فيه، وهرب إلى الأمام دون جدوى.

بقيت هذه الفكرة مصدر إشعاع في روح علي عزت، وكانت تهديه لأخلاق الإسلام التي لم يتكرر مثلها اليوم في نماذج من وصلوا لعمل سياسي باسم الإسلام، فضلا عن مستبدي الشرق، والفارق لدى بيغوفيتش، مع التفكير الإسلامي المعاصر، أن فهمه لمهمة الإسلام في الحياة، الحضارة والروح والأخلاق والعدالة مع البشرية، وليس تلبيس أدوات الفهم القديم، بقشور من أقوال وبيانات.

إن هذا الإيمان وهذه الروح التي حملته على أن يرفض الاحتماء بخصوصية القصر الرئاسي، وحملته على المبيت في شقته المتواضعة مع أهله، فإذا دوّت أجراس القصف، اطمأن على كل جيرانه في الملجأ، ثم عاد لمكتبه وأكب على القرآن، يركن إلى الدستور الأزلي المقدس لرعاية الروح ونهضة الجسد، حتى تنتهي موجة القصف؛ هي ذات الروح التي اختار بها البوسنيون علي عزت بيغوفيتش وانتخبوه، وقد رأوهُ يرفض تأمين الطعام له ولأسرته، عبر القصر الرئاسي خلال الحرب، ويشارك الشعب علب الغذاء التي توزّع من مراكز الإغاثة.


وهي ذات الروح التي رفضت أن تعلّق صورها، وتمجد كزعيم تاريخي لأنه انتصر في معركة البقاء أمام الدبابة والغزو الهمجي، ولم يُطلق مسارَ استثمار يسمح بمساحة فساد لضمان كسب "محازبيه"، إنما تمسك بقواعد فكره رئيسا وإنسانا.

يصعب على شباب اليوم العبور أكثر من ثلاثة عشر قرنا لفهم الجوهر الذي يوحّد بين عمر بن عبد العزيز وبين علي عزت بيغوفيتش، لكنه تقريب لهم، لفهم ذات المعادلة في إدراك فلسفة الروح والجسد، وفهم مقصد الحكم للعدالة في رسالة الإسلام، وإن اختلفت الظروف والوقائع، وربما المهام بكل تأكيد، لكنها يقينا اتحدت في عقيدة واحدة هي رسالة الإنسان والحكم في الإسلام، العدالة الاجتماعية والمساواة الحقوقية للحكم الرشيد. أليس هذا ما يبحث عنه العالم الجديد؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق