بينما تستعد للانسحاب من سوريا: تواجه منطقة "الشرق الأوسط" مرحلة ما بعد العصر الأمريكي
2019-1-14 | خدمة العصر
كتبت صحيفة "نيويورك تايمز" أنه عندما تلتقي تركيا وإيران وروسيا للحديث عن نهاية الحرب في سوريا، فإنهم يفعلون ذلك من دون الولايات المتحدة. والآن، وعلى الرغم من الرسائل المتضاربة حول كيف ومتى سيحدث ذلك، فإن الولايات المتحدة ستنسحب من سوريا.
الانسحاب، الذي قال الجيش إنه بدأ بإزالة المعدات يوم الجمعة، ليس إلا آخر مثال على فك الارتباط الأمريكي الأوسع عن منطقة "الشرق الأوسط"، الذي يمكن أن يكون له تأثيرات دائمة على واحدة من أكثر المناطق تقلبًا في العالم.
ومع تراجع الولايات المتحدة، تتدخل روسيا وإيران ورجال المنطقة الأقوياء (الحكام المؤيدون لأمريكا) بشكل متزايد لرسم مستقبل المنطقة.
وعلق "ريتشارد هاس"، رئيس مجلس العلاقات الخارجية، على هذا، قائلا: "الأمر ليس جميلاً..إنه عنيف.. إنه غير ليبرالي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، والولايات المتحدة غائبة أساسا عن المعركة".
منذ نهاية الحرب الباردة، ظل "الشرق الأوسط" على الدوام قريبا من رأس اهتمامات السياسة الخارجية الأمريكية، وهذا ما ظهر أثره غب حرب الخليج عام 1990-91 ، والغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، والربيع العربي والمعركة ضد تنظيم الدولة".
لقد خلَفت حملة الإطاحة بتنظيم "داعش" في العراق وسوريا مدنًا، مثل الرقة، خربة ومدمرة دون مسار واضح لإعادة البناء. وبالنسبة إلى بعض الباحثين في المنطقة، فإن الفوائد الملموسة من كل هذا التورط تبدو باهتة مقارنة بحجم العمليات الأمريكية.
"عندما تنظر إلى تحليل التكلفة والعائد، هناك عائد محدود، وستعمل الولايات المتحدة على تقليص حجمها مع مرور الوقت، لأن هناك الكثير من القضايا الأخرى للتعامل معها في العالم"، كما قال غاري سيك، عالِم خبير في شؤون المنطقة في جامعة كولومبيا خدم في مجلس الأمن القومي تحت ثلاثة رؤساء.
وشكلت وجهة نظر مماثلة للمنطقة نهج كل من إدارة أوباما وترامب. وعلى الرغم من الاختلافات الحادة في كلماتهم وأسلوبهم، فقد نظر كلاهما إلى الشرق الأوسط في المقام الأول على أنه مصدر للإزعاج، الذي استنزف الموارد من الأولويات الأمريكية الأخرى. ودعا الرئيسان القوى الإقليمية إلى لعب دور أكبر في حماية وحكم المنطقة.
إن الرغبة الفورية في التراجع كانت مدفوعة بحالة إرهاق واستنزاف المعركة بعد سنوات من القتال المميت في العراق، والشعور بأن الاستثمار العسكري الأمريكي لم يجعل الأمور أفضل في كثير من الأحيان. لكنَ الباحثين يقولون إن التحولات على المدى الطويل جعلت المنطقة أقل أهمية بالنسبة لأولويات الولايات المتحدة. فما عادت الحماية الأمريكية ضرورية لضمان التدفق الحر للنفط من الخليج، على سبيل المثال، كما إن ازدهار الإنتاج المحلي جعل الولايات المتحدة أقل اعتمادًا على نفط الشرق الأوسط على أي حال. وتتباهى إسرائيل الآن بامتلاكها أكثر القوات العسكرية فعالية واقتصادًا قويًا في المنطقة، في وقت يتخبط فيه العديد من جيرانها في حالة من الفوضى، مما يجعلها أقل اعتمادًا على الحماية الأمريكية.
والحقيقة أن مصالحنا المباشرة فيما يتعلق بحماية الوطن الأمريكي قليلة جداً في المنطقة، كما قال الباحث الخبير "سيك"، مضيفاً أن سجل التدخلات الأمريكية كان في أحسن الأحوال مختلطا، ورأى أن "الأمور فوضوية تمامًا كما هي، ولا أراهم يتحسنون مع وجودنا، ولا أراهم يزدادون سوءًا إذا لم نكن هناك".
ويجادل آخرون بأن النفوذ الأمريكي لا يزال مهمًا، ويمكن أن يُحدث فارقًا عندما تختار الولايات المتحدة استخدامه. ويشيرون إلى أمثلة، مثل الديكتاتور الليبي العقيد معمر القذافي الذي تخلى عن برنامج بلاده النووي تحت ضغوط أمريكية. وبدأت عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية برعاية أميركية، ولا تزال، على الرغم من أن انتقال ترامب للسفارة الأمريكية إلى القدس في العام الماضي قد قوض الشعور بين الفلسطينيين بأن الولايات المتحدة يمكن أن تكون وسيطا نزيها.
وقالت إيمي هوثورن، نائبة مدير مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط: "يمكن أن يكون من المهم بالنسبة للرئيس الأمريكي أن ينتقد علنا حلفاء أميركا الأوتوقراطيين وأن يقدم الدعم الخطابي إلى أولئك الموجودين في المنطقة الذين يكافحون ضد الظلم وحقوق الإنسان"ـ وأضافت: "يمكن للخطاب الرئاسي القوي المقترن بالعمل الرئاسي القوي وراء الكواليس أن يحرك الإبرة".
وعلى الرغم من أن الرئيس ترامب لم يتحدث إلا قليلاً عن حقوق الإنسان في الخارج، في وقت كان فيه يحتضن الحلفاء الدكتاتوريين دون خجل، إلا أن العديد من المحللين قالوا إنه حتى عندما كانت الولايات المتحدة تتصدى للديمقراطية وحقوق الإنسان، فقد تلطخت بالنفاق لدعمها للأقوياء الإقليميين وترددها في معاقبتهم.
ففي عهد الرئيس أوباما، على سبيل المثال، قتلت مصر مئات المدنيين الذين كانوا يحتجون على انقلاب عسكري، وأعدمت المملكة العربية السعودية 47 شخصًا في صباح أحد الأيام، ولم تُواجه أي منهما بعقوبات ذات مغزى. ولم يفرض أوباما خطه الأحمر الذي تعهد به بعد أن قتلت سوريا أكثر من 1000 شخص في هجوم بالأسلحة الكيميائية. وقد قد أضرت مثل هذه المواقف بسمعة الولايات المتحدة في المنطقة، باعتبارها داعية للديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان.
وقالت مها يحيى، مديرة مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت: "لقد كان فقدان هذا الأمر مأساويًا إلى حدٍّ ما، ألا وهو الشعور بأن الولايات المتحدة لا تتصدى لهذه القيم"، وأضافت: "نشهد شعوراً متزايداً بالإفلات من العقاب بين الحكام العرب الدكتاتوريين، وهو شعور بأنهم يستطيعون فعل ما يريدون بغض النظر عن عدد انتهاكات حقوق الإنسان التي يرتكبونها". لكن مع انسحاب الولايات المتحدة، تُترك القوى الإقليمية لأجهزتها الخاصة، وتتحرك الدول الأجنبية الأخرى.
مع قلة اهتمام الولايات المتحدة، أطلقت المملكة العربية السعودية تدخلًا عسكريًا في اليمن، وبعد أربع سنوات تقريبًا فشلت في إزاحة المتمردين الذين استهدفتهم في الوقت الذي تسببوا في أزمة إنسانية. وقد عززت إيران علاقاتها مع الميليشيات في سوريا والعراق ولبنان واليمن، مما أدى إلى تقويض حكوماتها. والانسحاب الأميركي من شرق سوريا قد يؤدي إلى نزاع بين روسيا وإيران وتركيا لملء الفراغ.
عندما بدأت الولايات المتحدة بالانسحاب من سوريا، قارن النقاد هذه الخطوة بقرار الرئيس أوباما بسحب القوات الأمريكية من العراق بعد أن قرروا أن دور أميركا العسكري هناك ما عاد ضروريًا. في غضون بضع سنوات، كان الجهاديون الذين اعتقدت الولايات المتحدة أنهم قد هُزموا، يعودون ويقوون، ويعيدون تنظيم صفوفهم تحت راية "تنظيم الدولة"، ويدفعون بعملية عسكرية أمريكية جديدة.
وقد نجحت تلك العملية الآن تقريبا في إبعاد مقاتلي "داعش" عن الأراضي التي كان التنظيم يسيطر عليها ذات مرة. لكنها تركت أيضاً مدناً كاملة مدمرة من دون مسار واضح لإعادة البناء، ولم تفعل سوى القليل لمعالجة قضايا سوء الحكم التي غذت صعود الجهاديين، ويخشى كثيرون من أن يتسبب هذا في تكرار الدورة نفسها مرة أخرى.
يقول البعض إن الحل الوحيد هو أن تجد الولايات المتحدة طرقا أكثر مردودية وطويلة الأمد للمشاركة في تشكيل مستقبل المنطقة بدلا من مجرد استخدام القوة عندما تكون هناك أزمة. وفي هذا السياق، قال "هاس" من مجلس العلاقات الخارجية: "يجب أن نجد أرضية مشتركة بين محاولة تغيير الشرق الأوسط والابتعاد بشكل متزايد عن الشرق الأوسط"، مستدركا: "نريد أن نغسل أيدينا من المنطقة، لكن التاريخ يشير إلى أن الشرق الأوسط لن يسمح لنا بذلك".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق