السبت، 19 يناير 2019

التحرير قبل التنوير

التحرير قبل التنوير



خليل العناني

كعادته في طرح القضايا المهمة، والإشكالية أيضا، يثير مقال فهمي جدعان الذي نشرته "العربي الجديد" آخر يوم في العام المنصرم، والذي عنونه "ما التنوير.. عربيا؟"، أسئلة عديدة بشأن طبيعة ومضمون التنوير المبتغى الذي يمكن للعالم العربي استلهامه، من أجل الخروج من موقعه الحالي سياسياً وفكرياً وحضارياً. 
وكيفية إنزال هذا "التنوير" من مستوى التصورات العقلية إلى الواقع، فعلا وممارسةً تنقله من موقع الترف الفكري إلى ساحة التطبيق.
ومع اتفاقي وقناعتي بما جاء في مقال أستاذنا جدعان، إلا أنه من باب تنويع زاوية النظر إلى المأزق الراهن لأمتنا العربية والإسلامية، وتحفيز الفكر حول أولويات الخروج منه، أودّ التركيز هنا على مسألة التحرير السياسي باعتبارها شرطاً ضرورياً، وربما استباقياً، لأي تنوير عقلي أو فكري مبتغى. وهي مسألة مرّ عليها المقال في آخر فقراته سريعاً فيما سماه مفكّرنا "مكافحة الاستبداد السياسي الأسود"، فالأصل في المأزق العربي الحالي، في اعتقادنا، هو هذا "الاستبداد السياسي الأسود" الذي لا يمنع فقط أية فرصة جادّة لاستنهاض تنوير عقلي وفكري، ناهيك عن أن يكون أصيلاً وليس مستورداً، ولكنه يمنع التفكير في ذلك أصلاً، ويحتجزه، بالعنف المادي والرمزي الذي يتعرّض له المواطن والمجتمع، والقمع السافر، المدّمر لأية أفكار مغايرة، فضلاً عن أن تكون معارضة، لعقل السلطة ومنهجها ورأسها، أو بالقمع المبطن وغير المباشر، عبر آلات الرقابة والضبط المتواصلة. 
ولو أن مسألة الحرية السياسية والتحرّر من "الاستبداد الأسود" قد نالت اهتمام المثقفين والمفكرين العرب الأوائل والمتأخرين، وحظيت بذودهم عنها وبتضحياتهم لها روحاً وجسداً، على غرار ما حدث مع أفكار وإيديولوجيات قومية ودينية وحداثية أخرى، ولو أن تياراً سياسياً عربياً وضعها على أجندة أولوياته وأقنع به الجمهور، كما حدث مع قضية التحرّر من الاستعمار والاستيطان الصهيوني، لما كنّا بحاجة للاختلاف حول معنى التنوير المأمول، ومضمونه وهدفه، على النحو الذي كشفه لنا مقال جدعان. 
بل الأكثر من ذلك، وكما بيّن الأستاذ جدعان، فإن المضامين السلفية، بشقيها الديني والعلماني، للتنوير تبدو كاشفةً حجم الانقسام والاستقطاب الذي يصب في مصلحة ذاك الاستبداد الأسود الذي تدّعي هذه التيارات مواجهته.
بكلماتٍ أخرى، فإن حالة الاستنزاف الفكري والنفسي الناجمة عن أفكار "معاندي الدين" و"معاندي التنوير" وممارساتهم، حسب تصنيف جدعان، تمثل، وللمفارقة، قمة الانتصار، ربما غير المقصود، لأنظمة الاستبداد الأسود، وهو انتصارٌ يتحقق ليس لبراعتها وذكائها، بقدر ما هو نتيجة للصراع السرمدي (والصفري) بين التيارين، وهو صراعٌ لا تقف تداعياته وآثاره عند حدوده النخبوية الضيّقة، بل تتسع دوائره لتصل إلى قلب المجتمع وطبقاته وفئاته. وهو ما رأيناه وخبرناه واقعاً بعد انتفاضات الربيع العربي، بل كان أحد الأبواب الرئيسية التي قفزت منها شبكات وأشباح وأنظمة الثورة المضادة التي عادت كي تلتهم الجميع، وفي مقدمتهم أنصار هذين التيارين ورموزهما.
لذلك، يجب أن يسبق سؤال التحرير سؤال التنوير، إن لم يكن بحكم المنطق، فبحكم الواقع وأولوياته وحاجاته الملحّة. صحيح أن ثمة علاقة جدلية بين الأمرين (التحرير والتنوير).
 
بل ولربما ينافح بعضهم بأن الأول لاحق، والثاني سابق، (وفق المنطق التنويري ذاته)، بيد أن الأمر لم يكن كذلك بحكم التجربة والخبرة التاريخية. 
وإذا عدنا إلى الأخيرة، وهذه إشكالية أخرى تتعلق بصراع المرجعيات، وهل يجب أن تكون عربية/ إسلامية أم غربية، فيما يخص الحرية والتنوير، فإن تجارب التغيير الأوروبية، بدءاً من "ثورة الفلاحين" في بريطانيا أواخر القرن الرابع عشر، والتي مثلت أول حالة تمرّد سياسي شعبي على الاستبداد الملكي في أوروبا، مروراً بالثورتين، الأميركية والفرنسية، أواخر القرن الثامن عشر، كانت جميعها تهدف إلى اقتلاع "الاستبداد الغربي الأسود" من جذوره، وقام بها، وأحيانا قادها مواطنون عاديون، ربما لم يقرأ كثيرون منهم ما كتبه فلاسفة النهضة والتنوير والأنوار. وحتى بافتراض إلمامهم بأفكار العقد الاجتماعي، مع هوبز ولوك وروسو، ومسائل الحرية، كما طرحها فولتير ومن بعده جون ستيوارت ميل، فإنه لم يكن لهذا "التنوير" أن يصبح واقعاً من دون الفعل التحرّري الذي دفع ثمنه مواطنون ربما لم يسمعوا بهؤلاء الفلاسفة والمفكرين، على نحو مقارب لما حدث في ثورات الربيع العربي.
لا يعني هذا، قطعاً، عدم الاشتغال الفكري والفلسفي على مسألة التنوير، وتفكيك جدالاتها، بل على العكس، فالمقصود أن يكون الاشتغال مهموماً بما يمكن تسميتها "القضايا الصلبة" للتنوير، وفي مقدمتها قضية التحرّر من ذاك "الاستبداد الأسود"، القابع على أرواحنا وصدورنا، والذي لا يدع مجالاً للتنفس، ناهيك عن التفكير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق