العرب ما بعد إسقاط الربيع.. الغُبن السياسي
هل كان انفجار الانتفاضة الشعبية في السودان، وانبعاث حركة فداءٍ مدنيٍ من أوساط الشعب، من دون أن يكون ذلك بعملٍ ممنهجٍ من المعارضة، أو بدعم خارجي، أو مزاعم النظام في علاقة الأمر بالبعد الصراعي لإقليم دارفور، أو تشظيات إقليمية خفتت بعد فصل الجنوب، ولم تنته، لأن مسبباتها لا تزال قائمة، لغياب العدالة الدستورية وتوزيع الثروة، فهل كانت الانتفاضة مفاجئة؟
هناك دلائل للمراقب، المقيم خارج السودان، فضلاً عن داخله، يستشعر هذا المأزق المختنق، فيُدرك أن الموت البطيء الذي يضرب الحياة المدنية في السودان، لتتحول إلى أحياء يعيشون في ما يشبه المقابر، من حيث انتفاء أي إمكانية للتنفس فوق سطح الفساد، أو بقاء مساحةٍ لدولة مؤسسات، بعد أن أتقن النظام اللعب بالمعارضة، فظن أن هذه الدائرة كفيلة بإشغال الشعب، لإبقاء لا محدود لرئاسة عمر البشير.
ولهذا السطح الذي بلغه السودان شواهد أخرى في بلدان الوطن العربي، سواءً من عبرت عليه
الثورة المضادة، أو من لم تصل إليه عسكرتها، ولكن بعض لهيب سياستها، أو حتى من كان خارج هذه المساحة، فحالة الإحباط والشعور بالغُبن الشديد ممتدة اليوم، من المحيط إلى الخليج، تشمل أقطاراً عدة من الوطن العربي، على الرغم من أن رسائل المآل المروع للثورة السورية بعد هولوكوست أسود لا تزال تصدم كل ذاكرة عربية، ومع ذلك نجد في العراق والأردن والمغرب والجزائر، ورصد المشاعر الشعبية في السعودية، مؤشراتٍ لتأثير هذا الإحباط.
وفي تونس دلائل انفضاض التوافق الوطني، أيضاً تتعاظم، وتعود الحوارات إلى حركة توتر. فيما يظهر للرباط أن المساحة التي أعطاها الملك للتجاوب الإيجابي مع رياح الربيع العربي لم تحقق توازنا أو انتعاشا اقتصاديا. وعلى الرغم من إشراك الإسلاميين في الحكم، بعد فشل الاشتراكية المغربية، لكن وجودهم في قيادة الحكومة، المقيّدة بالمخزن، حسب قناعة مغاربةٍ كثيرين، لم يعط فارقاً يُذكر، خصوصا أن التجربة أعطت مؤشراً أن تحرّك رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، لرفع السقف الذي تسبب بعزله، كانت له أهمية بالغة للاستقرار وتطوير الشراكة الشعبية.
والموقف من العراق الذي لم تتغيّر فيه قاعدة توافق الولايات المتحدة وإيران، على الرغم من تنافسهما، لكن الأصل الصلب هو رهن المصالح تحت الاقتسام، فلا طهران تقبل أن يستقل العراق عن نفوذها، ولا واشنطن تقبل بأي استقلال ديمقراطي مدني، يعطي الإنسان العراقي، بكل موزاييكه، قرار تحديد مسارات مصالحه الكبرى، قبل طهران وواشنطن، فهذا الحراك الذي يَحضر ويتوارى، في الجنوب وبغداد، يُشير إلى المشاعر نفسها التي تتكرّر في أقطار عربية أخرى.
واندفاع الحكم في السعودية بصورة متوحشة، ضد الحقوق والنساء المحتجزات، ورفضه أي إصلاحات أو وقف الاعتقال، والمصادمة المفتوحة بقوة مع التيار الديني، وخصوصا المعارضة الوهابية التي كان أبرزَ قادتها حلفاء وجوديون للنظام، وكانوا يطلقون على الأمير نايف، وزير الداخلية السابق المناهض الشرس للإصلاحيين، أسد السُنة، تدخل مراحل ممنهجة من الاستعداء، وإن بقيت إعادة توظيف الوهابية، لمرحلة جديدة قائمة، كما هو شأن الدولة السعودية.
وبجوار السعودية، هناك إشكالات جديدة طرأت في البحرين، من خلال شعور القاعدة السُنية التاريخية، وهي في الأصل معقل الحركة الوطنية في البلاد، عبر عاصمتها الشعبية المحرّق، ومركز المعرفة ووعي السياسة والثقافة العربية الحديثة، تعيش أيضاً شعوراً مشابهاً، تُحرّكه نتائج التجنيس السياسي الأخير، وضيق الفرص الاقتصادية.
وقد تكون الإمارات، على الرغم من قوتها القمعية ضد الديمقراطيين والإسلاميين، تحت مؤشرات ساكنة للاستقرار، غير أن اللعبة التي دخلت فيها للصراع مع قطر، والتي دخلت مع الطرف الآخر المناهض لها، لا يبدو أن الإمارات تخطو فيها، نحو هدفها الذي يصر عليه ولي عهدها، بولادة إمبراطورية عظمى يقودها، بعد كل الحروب التي خاضتها، ضد الربيع العربي، وتوتر الموقف مع عُمان، وخصوصا بعد فتح ملفاتها بعد قضية الشهيد جمال خاشقجي.
الإشكال الخطير اليوم هو غياب أي رؤية ثقافية عربية ذاتية، للتهدئة والتحول الحقوقي والإصلاحي الذي يكفل العودة إلى الصراع السياسي، من دون سقوط الدول أو الاستقرار الاجتماعي، ونموذج التغول وزيادة التوحش في مصر اليوم، يُعزّز هذه المخاوف، ولا يمكن أن نستبعد الموقف الغربي، وخصوصا الأميركي، بدوره السيئ، من مطالب الشعوب، فلا تزال واشنطن تستثمر في هذا الخراب، في عدة مسارات، من دون أي ناتج ديمقراطي أو سياسي أو حقوقي لشعوب المنطقة، فالفوضى السياسية تصاحبها فوضى فكرية، ومن خلال هذه الفوضى الفكرية، تعتبر واشنطن أن القدرة على السيطرة على الشرق ستتعزّز أكبر، بحكم إضعاف الفكرة الإسلامية، عبر حلفائها، ومنع قيام أي تحالفٍ دستوريٍّ تقدميٍّ بين الإسلاميين والعلمانيين، يؤسس لدول مدنية مستقرة، تتحوّل إلى تكتل شرقي تاريخي يُحجّم مصالحها، في العالم الجنوبي.
كما أن التطوع المستمر، لإهدائها مزيدا من القواعد والنفوذ، لكسب بقاء تحالفها العسكري، لا يزال ينهمر عليها مع ضمان تسديد الفواتير، في دول الخليج العربي، وحتى خارجه، لكن بقية الدول ليست لديها قدرة سداد، فتكتفي واشنطن بالنفوذ.
مأساة الوطن العربي اليوم تُسفر عن دلالة سياسية وفكرية تاريخية، هي أن نُظم الاستبداد لا تُقدّم إلا مزيدا من الضعف والهوان لأرض المواطن العربي وكرامته، وأن التقدم والأمن الحقوقي والعدالة الاجتماعية، هي الأساس الذي يُحقق عبره، قوة الأمن القومي الجماعي للوطن العربي وأقاليمه، غير أن المعادلة الحرجة للغاية هي ضرورة فطنة حركة التنظير الواقعي لآمال الحرية والنهضة العربية بأن الكفاح الطويل، المُفضي إلى قيم حقوقية، يستقر في وجدان الشعوب، وتنتزع مساحتها السياسية، أقل تكلفةً من فتح الفرصة أو إعطائها للمستبد الحربي، مهما أغرت شعارات الثورة التي لم تستعد لما بعدها مُهج الشباب، فالدرس أمامنا بات واضحا، حين عاد الاستبداد ليضرب الحرية ويذبحها، باسم الوطنية والسلام العالمي المزيف.
ولهذا السطح الذي بلغه السودان شواهد أخرى في بلدان الوطن العربي، سواءً من عبرت عليه
وفي تونس دلائل انفضاض التوافق الوطني، أيضاً تتعاظم، وتعود الحوارات إلى حركة توتر. فيما يظهر للرباط أن المساحة التي أعطاها الملك للتجاوب الإيجابي مع رياح الربيع العربي لم تحقق توازنا أو انتعاشا اقتصاديا. وعلى الرغم من إشراك الإسلاميين في الحكم، بعد فشل الاشتراكية المغربية، لكن وجودهم في قيادة الحكومة، المقيّدة بالمخزن، حسب قناعة مغاربةٍ كثيرين، لم يعط فارقاً يُذكر، خصوصا أن التجربة أعطت مؤشراً أن تحرّك رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، لرفع السقف الذي تسبب بعزله، كانت له أهمية بالغة للاستقرار وتطوير الشراكة الشعبية.
والموقف من العراق الذي لم تتغيّر فيه قاعدة توافق الولايات المتحدة وإيران، على الرغم من تنافسهما، لكن الأصل الصلب هو رهن المصالح تحت الاقتسام، فلا طهران تقبل أن يستقل العراق عن نفوذها، ولا واشنطن تقبل بأي استقلال ديمقراطي مدني، يعطي الإنسان العراقي، بكل موزاييكه، قرار تحديد مسارات مصالحه الكبرى، قبل طهران وواشنطن، فهذا الحراك الذي يَحضر ويتوارى، في الجنوب وبغداد، يُشير إلى المشاعر نفسها التي تتكرّر في أقطار عربية أخرى.
واندفاع الحكم في السعودية بصورة متوحشة، ضد الحقوق والنساء المحتجزات، ورفضه أي إصلاحات أو وقف الاعتقال، والمصادمة المفتوحة بقوة مع التيار الديني، وخصوصا المعارضة الوهابية التي كان أبرزَ قادتها حلفاء وجوديون للنظام، وكانوا يطلقون على الأمير نايف، وزير الداخلية السابق المناهض الشرس للإصلاحيين، أسد السُنة، تدخل مراحل ممنهجة من الاستعداء، وإن بقيت إعادة توظيف الوهابية، لمرحلة جديدة قائمة، كما هو شأن الدولة السعودية.
وبجوار السعودية، هناك إشكالات جديدة طرأت في البحرين، من خلال شعور القاعدة السُنية التاريخية، وهي في الأصل معقل الحركة الوطنية في البلاد، عبر عاصمتها الشعبية المحرّق، ومركز المعرفة ووعي السياسة والثقافة العربية الحديثة، تعيش أيضاً شعوراً مشابهاً، تُحرّكه نتائج التجنيس السياسي الأخير، وضيق الفرص الاقتصادية.
وقد تكون الإمارات، على الرغم من قوتها القمعية ضد الديمقراطيين والإسلاميين، تحت مؤشرات ساكنة للاستقرار، غير أن اللعبة التي دخلت فيها للصراع مع قطر، والتي دخلت مع الطرف الآخر المناهض لها، لا يبدو أن الإمارات تخطو فيها، نحو هدفها الذي يصر عليه ولي عهدها، بولادة إمبراطورية عظمى يقودها، بعد كل الحروب التي خاضتها، ضد الربيع العربي، وتوتر الموقف مع عُمان، وخصوصا بعد فتح ملفاتها بعد قضية الشهيد جمال خاشقجي.
الإشكال الخطير اليوم هو غياب أي رؤية ثقافية عربية ذاتية، للتهدئة والتحول الحقوقي والإصلاحي الذي يكفل العودة إلى الصراع السياسي، من دون سقوط الدول أو الاستقرار الاجتماعي، ونموذج التغول وزيادة التوحش في مصر اليوم، يُعزّز هذه المخاوف، ولا يمكن أن نستبعد الموقف الغربي، وخصوصا الأميركي، بدوره السيئ، من مطالب الشعوب، فلا تزال واشنطن تستثمر في هذا الخراب، في عدة مسارات، من دون أي ناتج ديمقراطي أو سياسي أو حقوقي لشعوب المنطقة، فالفوضى السياسية تصاحبها فوضى فكرية، ومن خلال هذه الفوضى الفكرية، تعتبر واشنطن أن القدرة على السيطرة على الشرق ستتعزّز أكبر، بحكم إضعاف الفكرة الإسلامية، عبر حلفائها، ومنع قيام أي تحالفٍ دستوريٍّ تقدميٍّ بين الإسلاميين والعلمانيين، يؤسس لدول مدنية مستقرة، تتحوّل إلى تكتل شرقي تاريخي يُحجّم مصالحها، في العالم الجنوبي.
كما أن التطوع المستمر، لإهدائها مزيدا من القواعد والنفوذ، لكسب بقاء تحالفها العسكري، لا يزال ينهمر عليها مع ضمان تسديد الفواتير، في دول الخليج العربي، وحتى خارجه، لكن بقية الدول ليست لديها قدرة سداد، فتكتفي واشنطن بالنفوذ.
مأساة الوطن العربي اليوم تُسفر عن دلالة سياسية وفكرية تاريخية، هي أن نُظم الاستبداد لا تُقدّم إلا مزيدا من الضعف والهوان لأرض المواطن العربي وكرامته، وأن التقدم والأمن الحقوقي والعدالة الاجتماعية، هي الأساس الذي يُحقق عبره، قوة الأمن القومي الجماعي للوطن العربي وأقاليمه، غير أن المعادلة الحرجة للغاية هي ضرورة فطنة حركة التنظير الواقعي لآمال الحرية والنهضة العربية بأن الكفاح الطويل، المُفضي إلى قيم حقوقية، يستقر في وجدان الشعوب، وتنتزع مساحتها السياسية، أقل تكلفةً من فتح الفرصة أو إعطائها للمستبد الحربي، مهما أغرت شعارات الثورة التي لم تستعد لما بعدها مُهج الشباب، فالدرس أمامنا بات واضحا، حين عاد الاستبداد ليضرب الحرية ويذبحها، باسم الوطنية والسلام العالمي المزيف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق