طفل البلكونة وطفل الزنزانة
تصلح واقعة "طفل البلكونة" عنوانًا دالًا يلخص الحالة الحقوقية في مصر: دراما إنسانية مصنوعة بحرفيةٍ شديدة، يقابلها واقع غير إنساني موغل في التوحش والتلذذ بحرق أبسط معاني العدل والرحمة.
في مقابل "طفل البلكونة" الذي غرقت في قصته كل منابر الإعلام الرسمي، وغير الرسمي، فضلًا عن مواقع التواصل الاجتماعي، هناك عشرات آلاف من الأطفال عرفوا الطريق إلى الزنازين، حيث لا يرون آباءهم أو أمهاتهم، منذ ست سنوات، إلا عبر أسلاك سيارات الترحيل إلى السجن، أو أسياخ حديد قفص المحاكمة أو السجن.
هناك أيضًا عشرات الأطفال الذين تم زجّهم في السجون، وعوقبوا بأحكام حبسٍ مغلظة، بتهم لا تستوعبها عقولهم الصغيرة، مثل مقاومة السلطات وهدم الدولة والانتماء إلى جماعةٍ محظورة.
من هؤلاء من أمضى سنوات طفولته اليانعة في السجون، حتى صار شابًا ولم ير النور، وسط حالة صمتٍ مشينٍ من المجتمع، بمؤسّساته وأفراده.
يتم إشعال قضية "طفل البلكونة" بالتزامن مع زيارة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى القاهرة، في ظل تسريباتٍ غير مؤكدة عن مناقشة أوضاع حقوق الإنسان في مصر على مائدة مباحثاته مع عبد الفتاح السيسي، فتبدأ القصة بعنفٍ أسريٍّ، يعرّض حياة طفلٍ للخطر، فيقف المجتمع كله على قدمٍ واحدةٍ ضد هذا الانتهاك الصارخ للطفولة، وتشتغل ماكينة الإعلام بكل طاقتها على القصة، لتتصاعد الأحداث بالقبض على السيدة التي كادت تسقط الصغير من الشرفة، ثم تضاف عناصر إثارة أخرى عن الفقر الذي ينهش في الأسرة الكادحة، فيدفعها إلى هذا السلوك الفظ، فتنساب المشاعر حزنًا على الطفل الضحية الذي تتدخل الدولة الحنون، وتنتزعه من الأم (القاسية) كي ترعاه وتعلمه، ثم يتم توجيه فائض المشاعر إلى الأم المغلوب على أمرها، والتي ألقي القبض عليها، وكيف أنها، هي الأخرى، ضحية الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، ليسدل الستار على مشهدٍ أخير عن دولةٍ تحمي حقوق الإنسان، طفلًا وأسرة.
غير أن الواقع مختلف عن الدراما الإعلامية، إذ يأتي ماكرون في السابع والعشرين من يناير/ كانون ثاني، وهو اليوم الذي قامت فيه هذه الدولة الحنون المحترمة المدافعة عن حقوق الإنسان بالاعتداء على الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات، المستشار هشام جنينة، بواسطة بلطجيةٍ يتبعون النظام، عندما كان في الطريق إلى المحكمة، لحضور جلسة الطعن علي قرار فصله من منصبه، فسال الدم من وجهه، وأصيب بكسرٍ في قدمه، ثم رفضت مستشفيات الدولة الحنون علاجه، ثم تحول إلى متهم بالاعتداء على البلطجية.. ثم أخيرًا تم اعتقاله وإيداعه السجن، لأنه تجرأ وأجرى حوارًا صحافيًا، أعلن فيه منافسة عبد الفتاح السيسي في الانتخابات الرئاسية، نائبًا محتملًا لمرشح رئاسي محتمل، يقبع هو الآخر في المعتقل، اسمه الفريق سامي عنان.
هذه الدولة الحنون التي يأتيها الرئيس الفرنسي، فجأة، فيجدها مشغولةً بمعركة إنقاذ حياة طفل فقير، هي، أيضًا، التي ارتكبت مجزرة في مثل هذا اليوم من العام 2011 ضد أهالي مدينة السويس، حين أشعلوا شرارة الثورة على نظام حسني مبارك، الأب الروحي والفيزيقي للنظام الحالي، وقطعوا عن سكانها المياه والكهرباء والاتصالات.
يأتي الرئيس الفرنسي في زيارةٍ إلى مصر المحبوسة احتياطيًا، الجائعة إلى الحرية والعدل والديمقراطية، فيتم إخفاؤها قسريًا، ويقدّمون له بدلًا منها مصر التلفزيونية الدرامية الرقيقة العطوفة التي تنتفض حكومتها، من أجل طفلٍ كاد يسقط من "البلكونة"، فكيف إذن تكون فيها أزمة حقوق إنسان؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق