من السرية إلى التعامل العلني (2/3)
السعودية حرصت على إقامة اتصال سري مباشر مع إسرائيل منذ عهد بيغن
(كتب الباحث الإسرائيلي، إيلي بوديه، أستاذ في قسم الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية في الجامعة العبرية في القدس (وعضو في مجلس إدارة معهد ميتفيف - المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية) مطولة حاول فيه الكشف عن أساس العلاقات السعودية الإسرائيلية وعرضها في سياقها التاريخي الصحيح)، وهذا الجزء الثاني من بحثه:
عندما أصبح جيمي كارتر رئيساً للولايات المتحدة في يناير 1977، تم تصحيح السياسة الأميركية باتجاه إعادة عقد مؤتمر دولي لحل النزاع العربي الإسرائيلي. في ذلك الصيف، شارك السعوديون في الضغط على منظمة التحرير الفلسطينية لقبولها قرار الأمم المتحدة 242 شرطا أساسيا لمشاركتهم في المؤتمر ولكن دون جدوى. كما حاول السعوديون المساعدة في إعادة بدء المفاوضات الإسرائيلية المصرية الخاملة، التي علقت بعد توقيع الطرفين على اتفاق سيناء المؤقت قبل عامين. وقد حاول شقيق الملك فيصل والأمير السعودي فهد بن عبد العزيز، وضمن هذه الجهود، إنشاء خط سري من الاتصالات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي المنتخب حديثًا مناحيم بيغن.
لدى محفوظات الكيان الإسرائيلي رسالة سرية من أربع صفحات يعود تاريخها إلى أواخر أغسطس من ذلك العام (1977) من أمريكي يستخدم اسم "جون والاس إدواردز" إلى زئيف شير، الملحق الاقتصادي الإسرائيلي في نيويورك، الذي كان من المقربين من يهيئيل كاديشاي، سكرتير بيغن الشخصي. تطلب الرسالة عقد اجتماع مع بيغن من أجل إيصال رسالة من فهد فيما يتعلق بإمكانية قيام إسرائيل بالتوقيع على معاهدات مع كل من مصر والمملكة العربية السعودية. كان من الممكن أن يؤدي ذلك إلى إضعاف الموقف الفلسطيني وتزويد إسرائيل بالرافعة المطلوبة تجاه الولايات المتحدة.
وتوضح الرسالة أنه سيتم اتخاذ الترتيبات اللازمة لاستعراض رد الرئيس المصري أنور السادات إذا وافق بيغن. ولتهدئة "شير" المضطرب والمرتبك، تؤكد الرسالة أن "هذه المعلومات قد لا تتوافق مع تقييم رئيس الوزراء الخاص للسعوديين ولا تتطابق مع تصورات أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية...ولكنها أكثر دقة وحقيقية". إلا أن الخطاب يحذر من أنه إذا تم الكشف عن المبادرة قبل الأوان "فإن هناك قدرا من المخاطر" بالنسبة إلى فهد وغيره. يجب التأكيد أن الرسالة تشير إلى أنها لم تكن المحاولة الأولى للاتصال من قبل السعوديين، مشيرة إلى مذكرة سعودية بتاريخ 15 نوفمبر 1976، سُلَمت لـ"شير"، وأن "صلاحيتها ملائمة جدا الآن".
وعلى الرغم، يقول الباحث الإسرائيلي، من أنني لم أتمكن من اكتشاف من هو "جون والاس إدواردز"، سواء ما إذا كانت الرسالة مكتوبة باسم مستعار، أو إذا كان مؤلفها ذا مصداقية للتحدث باسم فهد، فإن محاولة ولي العهد السعودي، آنذاك، إنشاء علاقة مع بيغن تبدو حقيقية، لأن هناك محاولة أخرى في وقت لاحق من عام 1977. ففي ديسمبر، أرسل فهد مبعوثًا فلسطينيًا له اتصالات في إسرائيل كان مرتبطًا بالعائلة المالكة لإيصال رسالة سرية إلى وزير الخارجية الإسرائيلي، موشي ديان. ومع ذلك، أصر دايان على استلام الرسالة قبل مقابلة المبعوث، وهو ما رفضه هذا الأخير. وهاتان الحلقتان اللتان حدثتا في غضون ستة أشهر، تشيران إلى نمط في السياسة السعودية في محاولة إقامة اتصال سري مباشر مع إسرائيل، ولكن رفضت إسرائيل مرارًا دون سبب واضح.
* الانخراط السعودي في عملية السلام العربية الإسرائيلية:
في أغسطس 1981، أعلن ولي العهد الأمير فهد مبادرة سلام من ثماني نقاط. وكانت هذه هي المرة الأولى التي تشارك فيها المملكة العربية السعودية بنشاط في اقتراح مبادرة لحل النزاع العربي الإسرائيلي. مع الأخذ بعين الاعتبار محاولات فهد السرية السابقة للوصول إلى إسرائيل، ربما لا ينبغي النظر إلى المبادرة على أنها مفاجأة. وكانت النقاط الرئيسية للمبادرة هي الانسحاب الإسرائيلي من جميع الأراضي التي احتلتها عام 1967، بما في ذلك القدس الشرقية، وإخلاء جميع المستوطنات اليهودية، وحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم أو التملك، وإنشاء لدولة فلسطينية عاصمتها القدس.
كانت النقطة الرئيسية فيما يتعلق بإسرائيل، التي أثارت اعتراضات عربية، هي البند 7، الذي ينص على أنه "يجب أن تكون جميع الدول في المنطقة قادرة على العيش في سلام"، وهي صيغة تنطوي على اعتراف غير مباشر بإسرائيل، من حيث أنها كانت المرة الأولى التي عبرت فيها المملكة عن نظرتها التقليدية في العلن وليس من وراء الستار.
كانت مبادرة فهد نتيجة للثقة الجديدة المكتسبة في أعقاب الطفرة النفطية التي حولت المملكة العربية السعودية إلى قوة اقتصادية إقليمية. إذ بعد خروج مصر من الجامعة العربية وانشغال العراق بالحرب الإيرانية العراقية، حاولت السعودية ملء الفراغ القيادي. وكلن المقصود، أيضا، من مبادرة فهد تحفيز مجلس الشيوخ الأمريكي للموافقة على قرار الرئيس رونالد ريغان في يونيو 1981 لبيع طائرات سعودية مجهزة بنظام التحذير والتحكم المحمول جواAWACS، ومع ذلك، فإن بيع هذه الأسلحة المتطورة إلى المملكة العربية السعودية أغضب وأزعج إسرائيل، وأبعدها عن المملكة.
ولم تثر مبادرة فهد إعجاب القادة الإسرائيليين. فقد اعتبرها بعضهم "مؤامرة" لتدمير وجود إسرائيل"، وعارضت حكومة بيغن عارضت المبادرة لأنها تتناقض مع إيديولوجية الليكود، وتهدد بتقويض عملية السلام المصرية الإسرائيلية. كما رفض المبادرة أيضا حزب العمل المعارض، برئاسة شمعون بيرس، وليس إلا الأحزاب اليسارية التي أظهرت بعض التأييد. ولم تُبد الولايات المتحدة أي حماسة. ومع ذلك، أُعيد إحياء الحوار المتعلق بالمبادرة بعد اغتيال الرئيس المصري السادات في أكتوبر 1981، وكانت إسرائيل قلقة بشكل خاص من تغير في موقف الولايات المتحدة، الذي يعتبر، الآن، المبادرة أساسا ممكن للمفاوضات، إلا أن إسرائيل واصلت النظر إلى المبادرة على أنها "طريقة متطورة وعقلانية لإبادة إسرائيل كاملة". بالإضافة إلى ذلك، أنكر بيغن مصداقية السعودية، مشيراً إلى المملكة بأنها "دولة صحراوية بدولارات، حيث لا تزال تعيش ظلام العصور الوسطى مع قطع الأيدي والرؤوس، وفساد خفيَ". لذلك، شعرت إسرائيل بارتياح كبير عندما أسقطت قمة جامعة الدول العربية في فاس بالمغرب، مبادرة فهد، في أواخر نوفمبر 1981.
ومع ذلك، فإن نتائج غزو إسرائيل للبنان (يونيو - سبتمبر 1982) أعطت دفعة لمحاولات متجددة لإنعاش عملية السلام العربية الإسرائيلية المسدودة. وأدى ذلك إلى إطلاق خطة ريغان في سبتمبر 1982 وتعديل مبادرة فهد، التي أقرتها جامعة الدول العربية الآن. هذا التعديل الأول، الذي أطلق عليه خطة السلام العربية، لم تعين منظمة التحرير الفلسطينية "الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني"، وحسب، بل عدلت أيضا صيغة البند السابع المثير للجدل، مما جعل الاعتراف بإسرائيل أكثر غموضاً.
رفض إسرائيل السريع لخطة السلام العربية ختم مصيرها. وعلى الرغم من رفض إسرائيل التعامل مع الخطة التي تقودها السعودية، إلا أنها شكلت نقطة تحول في موقف المملكة العربية السعودية تجاه إسرائيل.
بالمناسبة، في سبتمبر 1981، أي بعد شهر من نشر مبادرة "الفهد"، جرت مبادلات دبلوماسية سرية غير مباشرة بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية عبر الولايات المتحدة. عندما جنح قارب صاروخي إسرائيلي على الشواطئ السعودية نتيجة عطل تقني وخطأ بشري، طلبت إسرائيل من الولايات المتحدة أن تطمئن السعوديين بأن الحادث ليس عملاً عدائيًا والحصول على إذن لإنزال السفينة وشراعها من تدخل سعودي. وقد وافق السعوديون على شرط أن تظل عملية الإنقاذ سرية حتى يتم إبرامها، وأن إسرائيل لن تستخدم معدات ثقيلة. وهذه الاتصالات، التي عقدت في سرية تامة، ساعدت في التغلب على الأزمة.
في خلال حرب الخليج 1990/1991، وجدت كل من السعودية وإسرائيل نفسيهما مهددتين ومهاجمتين من قبل عدو مشترك، صدام حسين العراقي. أصبح وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر القناة التي يتبادل الطرفان من خلالها الأفكار. وعلى الرغم من رفض السعوديين السماح لإسرائيل بالتحليق فوق مجالهم الجوي للقيام بضربة وقائية ضد العراق، إلا أن بيكر أشار إلى أن فهد (الذي أصبح ملكاً في يونيو 1982) أكد له أنه "سيبقى وفيا إذا ما ردت إسرائيل على هجوم صدام حسين أولاً". وقد تلقى القائد الأمريكي للعملية، الجنرال نورمان تشوارزكوف، تأكيدا من فهد بأنه إذا دافعت إسرائيل عن نفسها، "فإن القوات المسلحة السعودية ستظل تقاتل إلى جانبنا". في رأي شوارزكوف، كان هذا "عملاً استثنائيا: شجاعة وقيادة". ولم يكن الإسرائيليون مطلعين على هذه المعلومات.
وروى بيكر أن الملك فهد أسر إليه بعد الحرب بأنه "إذا أمكن إيجاد وطن للفلسطينيين، فقد كان مستعدًا للموافقة على تطبيع العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية الكاملة مع إسرائيل". وفي مناسبة أخرى، أصدر السعوديون بيانا بأنهم سيعلقون مقاطعتهم الاقتصادية لإسرائيل إذا توقفت عن أنشطتها الاستيطانية في الأراضي المحتلة، لكن حكومة رئيس الوزراء اليميني، اسحق شامير، رفضت وقف النشاط الاستيطاني على أسس أيديولوجية، بغض النظر عن التكلفة. وبالتالي، فإن حرب الخليج شكلت نقطة تحول أخرى في التفكير السعودي تجاه إسرائيل، التي ينظر إليها الآن على أنها شريك محتمل في توازن القوى في الشرق الأوسط.
في أعقاب الحرب، بعد بعض التردد والتشجيع الأمريكي، أعلن السعوديون أن الجلسة الافتتاحية لمؤتمر مدريد للسلام في أواخر أكتوبر 1991 سيحضرها مراقب من مجلس التعاون الخليجي، والسعودية أقوى عضو فيه. واختير الأمير بندر بن سلطان، السفير السعودي في الولايات المتحدة، ممثلاً لمجلس التعاون الخليجي. وكان هذا أول اجتماع رسمي للمسؤولين الإسرائيليين والسعوديين، يليه اجتماع غير رسمي في وزارة الخارجية الأمريكية. وفي وقت لاحق، التقى أوري سافير، المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية، الأمير بندر في واشنطن.
عندما شاركت السعودية في المحادثات المتعددة الأطراف بعد بضعة أشهر من المؤتمر، في عام 1992، التقى نائب وزير الخارجية الإسرائيلي، يوسي بيلين، بنظيره السعودي. عقدت معظم الاجتماعات في جلسات عامة، ومع ذلك أعاد بيلين حديثه بأنه التقى، سرا، ذات مرة بالممثل السعودي في عام 1994 بكندا. في هذا الحديث، أثار بيلين قضية رفض المملكة العربية السعودية المستمر للمشاركة في مختلف المشاريع البيئية والزراعية وغيرها من المشاريع الإقليمية التي اقترحتها إسرائيل، ولكنها لم تتلق ردا مرضيا.
في خلال سنوات أوسلو (1993-2000)، دعمت المملكة العربية السعودية بهدوء مبادرات السلام. وبالإضافة إلى ذلك، أصدر مفتي السعودية آنذاك، الشيخ عبد العزيز بن باز، فتوى تأييداً لتوقيع اتفاقات سلام مع إسرائيل استناداً إلى صلح الحديبية، كما أصدر بن باز فتوى سمحت للمسلمين بالصلاة في المسجد الأقصى تحت الاحتلال. كما شارك السعوديون وراء الكواليس في المفاوضات الإسرائيلية-السورية والإسرائيلية-الفلسطينية. وتم ترسيخ التغيير في الموقف السعودي في قرار اتخذ تحت واجهة مجلس التعاون الخليجي في أكتوبر 1994، لإلغاء المقاطعة الاقتصادية غير المباشرة للشركات الإسرائيلية (أي المقاطعة الثانية والثالثة وليس الأولية المباشرة).
حدث تحول آخر في الموقف السعودي في فبراير 2002، عندما قدم شقيق الملك فهد، ولي العهد، آنذاك، الأمير عبد الله (الذي كان يعمل وصيا للعرض منذ مرض الملك في عام 1995) مبادرة جديدة، عرضت التطبيع الكامل للعلاقات بين الدول العربية وإسرائيل في تبادل للانسحاب الإسرائيلي الكامل من جميع الأراضي المحتلة. والدافع السعودي الرئيسي لإطلاق المبادرة الجديدة هو تحسين صورتها في الولايات المتحدة والغرب بعد تورط 15 من الخاطفين السعوديين في هجمات 11 سبتمبر 2001. وليس أقل أهمية عن هذا، الرغبة في احتواء الانتفاضة الثانية التي بدأت في عام 2000.
ولم ترد إسرائيل رسمياً على المبادرة السعودية الجديدة، رغم أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، أرييل شارون، حاول معرفة تفاصيلها من خلال عدة قنوات: الملياردير الأميركي اليهودي، دانييل أبراهام، وعادل الجبير، مستشار ولي العهد الأمير عبد الله لشؤون السياسة الخارجية، وأندري فيدوفين، المبعوث الروسي الخاص إلى الشرق الأوسط، والذي عمل سفيراً في الرياض.
في أواخر مارس 2002، أقرت جامعة الدول العربية ما أصبح يعرف باسم مبادرة السلام العربية، المستندة إلى مبادرة الأمير عبد الله ولكن مع بعض التعديلات. فيما يتعلق باللاجئين الفلسطينيين، قيل إن "الحل العادل" سوف "يُتفق عليه وفقا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194"، وهذه العبارة الغامضة كانت نتاج مداولات مكثفة سعيا إلى صيغة من شأنها تهدئة مخاوف الإسرائيليين من التنفيذ الكامل للمطلب المتطرف وغير المقيد: حق العودة. في المقابل، فإن الدول العربية عرضت "اعتبار النزاع العربي الإسرائيلي منتهياً، والدخول في اتفاقية سلام مع إسرائيل، وتوفير الأمن لجميع دول المنطقة".
واقترن نشر "مبادرة السلام العربية" بالعديد من الهجمات واسعة النطاق في إسرائيل من قبل حركة المقاومة الإسلامية "حماس".
وشنت إسرائيل عملية عسكرية ضد السلطة الفلسطينية، تهدف إلى اقتلاع البنية التحتية لتمويل هذه الهجمات وعزل رئيس السلطة الفلسطينية، ياسر عرفات. في ظل مناخ العنف هذا، كان الصمت الإسرائيلي فيما يتعلق بالمبادرة مفهوما، لكن الحقيقة هي أن شارون لم يكن لديه أي دافع للرد على العرض السعودي، لأن التنازلات الإقليمية تناقض وجهة نظره المتشددة...(يتبع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق