الفوز والنجاح، مفاهيم يجب أن تصحح
- 18 يناير، 2019
النجاح! مصطلح فضفاض، يتسابق على تحقيقه البشر بغض النظر عن عقائدهم، وجوهر صلاحهم من فسادهم، إنه المصطلح الذي تتجاذبه الأنفس بنسبية متغيرة، تتأثر بنظرة المجتمع والعرف، وبطبيعة الشخص والروح، أو بحسب مقاييس العقول التي تُعتمد للتقييم النهائي، وهي فلسفة بمعنى الكلمة، فما قد تراه نجاحًا في حياتك قد أراه الفشل بعينه.
وما قد أراه فشلًا قد يراه غيري منتهى النجاح، فدعونا في هذه السطور نحدد مفهوم النجاح كما يجب أن يكون، ونصحح مفاهيم معوجّة قد نالت من إنجازات المسلمين كل منال، وبخست ما يستحق التقدير، في حين رفعت للسقف الكثير من الفاشلين!
منصة الانطلاق
بداية، فإن الحكم على أي شيء في حياتنا ينطلق من منصة واحدة، هي إيماننا وعقيدتنا الإسلامية، ولا يمكن أن نصل إلى نفس النتيجة إن كان الانطلاق من منصات مختلفة، فحين ننطلق من الإسلام لابد أن نصل للمفاهيم السليمة التي أرادنا الله أن نفقهها ونلتزم بها.
وتأملت في قصص النجاح في تاريخ هذا الدين فلم أجد أروع ولا أبهر من قصة نبينا محمد (صلى الله عليه وسلّم) الذي استطاع في ظرف وقت قياسي أن يقيم دولة إسلامية وُجدت من العدم، في بحر متلاطم الأمواج من ألوان الجاهلية والتيه والفتن.
إنها عبقرية نجاح بمعنى الكلمة، لا يمكن أن يناجزها نجاح آخر في هذه الدنيا إن أردنا المقارنة. كيف لا ونورها لا زال ممتدًا منذ أكثر من 14 قرنًا رغم كل الكيد الذي كيد للإسلام؟ وعلى ذات الخطى نجح الخلفاء الراشدون، ليس فقط في حفظ دولة الإسلامة شامخة منتصرة، بل أيضًا في تجاوز العقبات والمكائد التي كانت تتربص بالإسلام والمسلمين في محطات شتى على محور الزمن.
نجاح آخر سطرته عبقرية الإسلام عند قيام كل دولة إسلامية أو حضارة إسلامية أو عطاء إسلامي، مقياسه يقيّمها بإنصاف أهل العلم وطلاب الشريعة، لا أهل الدنيا والرغبات العابرة القصيرة.
ثم من هذه العقيدة الإسلامية نفسها نستلهم الدروس والعبر، وما قصة أصحاب الأخدود إلا مثال عظيم لعمق مفهوم النجاح في ديننا الحنيف. فليس النجاح دومًا مرادفًا لسلامة الجسد والنجاة من الموت، بل قد يكون النجاح بعينه قذف النفس في النار فتنتصر العقيدة ويصيح الثبات شامخًا: لقد نجحت ولم يهزمني طاغية. أو على خطى من سبق حين تلقى ضربة الغدر فصاح بيقين صارخ: فزت ورب الكعبة.
ولو سألتني ما تعريف النجاح في مفهوم الشريعة عند الأجيال السابقة لقلت: إن النجاح الكامل في قناعاتهم كان في اتباع منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه السلف الصالح، أما غير ذلك فتخاريف البشر. ولهذا كل من حاد عن هذا المنهج سقط سقوطًا مدويًا وأفل نجمه بين يوم وليلة. كمثل حضارة الأندلس التي قامت بقصة نجاح مبهرة لعبد الرحمن الداخل، وانتهت بانتهاء من خلفه حين حادوا عن سبب رقيهم وتفرقوا شذر مذر.
النية لله رب العالمين
وقد يفرق بعضهم بين النجاح في تحصيل الأسباب الدنيوية والأهداف المادية، وبين سباق النجاة من النار والظفر بالجنة، وهذا خلط كبير لا يقع فيه صاحب بصيرة.
فالمسلم لا يقدم على شيء في حياته بنية النجاح إلا وارتبط كليًا بسبب وجوده وخلقه: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ .
بين القصور والدقة في التوصيف
ولننظر في تعاريف البشر القاصرة التي تعرّف النجاح على أنه تحقيق الأهداف المرسومة باجتهاد الشخص أو بدهائه، أو تحقيق ما هو متعارف عليه أنه نجاح في وسطه، كإحراز درجة علمية أو مرتبة اجتماعية أو الدخول في طبقة الأغنياء أو ذياع صيت وشهرة وغيره مما ألفه الناس.
ولكن هذا التعريف غير دقيق ولا يمكن أن يمثل النجاح الحقيقي، فلو فرضنا أن الأهداف المرسومة تعني بناء نادٍ ليجمع كل فاسق وراقصة وليدرّ من الأموال الكثير، فهذا في أعين المستثمر الاقتصادي مربح ثمين وقصة نجاح تُدوّن، أما في عين البصيرة فهذا الفشل بعينه، بل الهلاك، ولو كسب صاحبه الملايين!
كذلك حال من يستعين بمحرّم لتحقيق النجاح، فلا يمكن أن أبني مشروعًا بمال مسروق، أو أنهبه من مظلوم، ثم أعتبر ما بنيته نجاحًا أشكر عليه. وذات الأمر حين تكون درجتي العلمية في ما لا ينفع الناس، بل يضرهم، وإن وصلت للدكتوراه، وفي ذات السياق حين أتقلد منصبًا أظلم فيه أكثر مما أعدل، إلى غيره من أمثلة. لننتقل الآن لمفهوم النجاح في الإسلام كيف ضبط هذه النسبية، بحسب القاموس فإن النجاح رديف الْفَوْزُ وَالظَّفَرُ بِالْخَيْر، وإن شئت أن تحدد السبيل للدخول في طبقة الفائزين فما عليك إلا أن تفتح كتاب الله وتبحث عن كل آية ذُكر فيها “الفوز” أو “الفائزون” لتخلص لسر النجاح العظيم والحاسم الذي لا يجادل فيه عاقل.
النجاح في القرآن
يقول جلّ في علاه:
﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين اتبعوهم بِإِحْسَان رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ وَأعد لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدًا ذَلِك الْفَوْز الْعَظِيم﴾.
فكان الاتباع بإحسان معلمًا في الطريق.
ويقول أيضًا:
﴿وَمن تَقِ السَّيِّئَات يَوْمئِذٍ فقد رَحمته وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم﴾.
فكان تجنب السيئات معلمًا آخر في الطريق. ثم الآية العظيمة:
﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.
فكان الولاء لهذا الدين وتقوى الله معالمة بارزة في الطريق.
وتدبّر معي قوله تعالى:
﴿لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾.
فكان الإيمان والجهاد بالمال والنفس معالم أخرى في الطريق. وإلى غيره من آيات عظيمة تلخص مدار الأمر كله حول ﴿وَمن يطع الله وَرَسُوله ويخش الله ويتقه فَأُولَئِك هم الفائزون﴾.
وبمعنى آخر، فإن النجاح هو أن يتمثل الإسلام في المرء بكامله، يلتزم بأوامره وينتهي عن نواهيه، يتبرأ من كل وثنية وشرك ويتشبث بعقيدة التوحيد الخالص لا يشوبها دخن، تمامًا كما كان الصحابة رضي الله عنهم يعتزون بإيمانهم ويعتصمون بالحق، فشهد الله لهم بالنجاح والتفوق بامتياز، قال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾، وحين سابق الصحابة للنجاح بمفهوم القرآن فلا عجب أن بلغ الإيمان ببعضهم إلى درجة أن يقول:
لو كُشِف عنِّى الحجاب لَمَا ازْددت يقينًا.
ومن تدبر القرآن يجد الدقة في توصيف النجاح بشكل متناهٍ يُذهِل العقل كيف يمكن لمسلم أن يفرّط فيه، فمن كان يعتقد أن النجاح هو أن نحقق ما نحبه وما نخطط له فعليه أن يراجع قناعاته، يقول الله عز وجل: ﴿وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، فانظر أيها المسلم لتأييد الله لعبده، كيف يكون التأييد نجاحًا وظفرًا ينجيك من مشاريعك التي طمحت أن تطأ بها ثريا النجاح، فصرفها الله عنك لما هو خير وأنجح منها لغيب لا تعلمه.
وهذه الحكمة لا يعلمها إلا الله سبحانه مَن خلق فسوى، وقدر فهدى. وقد يدخل النجاح في أبسط الأمور في حياتك، كنجاحك في رسم بسمة على ثغر حزين، فعن ابن عمر أنّه قال:
قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟، قَالَ: «سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ كُرْبَةٌ تَكْشِفُهَا عَنْهُ فِي دَيْنٍ تَقْضِيهِ عَنْهُ أَوْ جُوعٍ تَطْرُدُهُ عَنْهُ».
نظرة أعمق لمفهوم النجاح
وبهذه النظرة العميقة لمفهوم النجاح يصبح مشروع الحصول على شهادة أو مرتبة ما فاشلًا إن لم يقترن بإخلاص النية لله وجعلها صالحة لخدمة المسلمين ونصرة ورقي الإسلام، وإلا فلن تنفع أشهرَ طبيب شهرتُه ونجاحه في أعين الناس يوم وقفة حساب يوم القيامة.
وكذلك المهندس والباحث والطالب لغرض في هذه الدنيا، ما لم يقرن إنجازاته بنية الإسلام العظيم، وبهذا المفهوم يتزن عطاء الروح، وتتزن معه المشاعر في الخسائر والمدلهمات، وحين يقع المرء في الكبوات سيصبح الفشل راسخًا لديه كنجاح بحد ذاته، إذ أن تجاوز العقبات أيضًا نجاح.
ودعوني الآن ألخص في نقاط حقيقة النجاح كيف تكون في حياة المسلم:
– فالمسلم ناجح مهما فشل في تحقيق أهدافه المادية في الحياة، ذلك إن ثبت على نهج الاستقامة كما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكما كان عليه السلف الصالح. فكل فشل في حياته لا يقدح في كونه ناجحًا، لأن النجاح الأول هو في حسن الاتباع والثبات والسمو فوق ماديات الأرض.
– النجاحات في المشاريع الدنيوية بما فيها مشاريع الدراسة والتجارة والعمل، كلها يجب أن تصب في كفة خدمة الإسلام والتقرب إلى الله بنية المسلم المسابق، واليد العليا خير من اليد السفلى، وإلا فهي فاشلة.
– من الخطأ الذي يقع فيه الأبوان إجبار ابنهما على أن يكون طبيبًا أو مهندسًا ولا ثالث لهما، وهذا بسبب مفهوم خاطئ يحصر دائرة النجاح في هذه الوظائف فقط. فليس المهم أن أضع ابني فيما يراه الناس نجاحًا، بل الأهم أن يكون ابني قادرًا على أن يسد هذا الثغر بكامل رغبته وقدرته، وإن كانت مواهبه ستتفجر في غير الطب والهندسة فعليه أخذ الأسباب المعينة لتجربة المجال الأكثر موائمة وتركيبته النفسية وقدراته العطائية. وهذا هو النجاح.
– من المهم أن يكون الوصول لتحقيق الأهداف محكومًا بتقوى الله، فلا يتسلق المرء ولا يسرق ثمرات غيره ثم يحب أن يُحمد بما لم يفعل. وهذا حال الهمم المغشوشة، والتي وإن صفّقت لهم الجماهير وسجلت أسماءهم كأفضل الناجحين فهم في المفهوم الحقيقي للنجاح مجرد فاشلين.
– كلما فشل الإنسان في امتحان دنيوي عليه أن يتطلع لما بعد هذه الحياة، وينظر كيف هو تقييم هذا الفشل بميزان الآخرة، حتى يحقق التوازن ويدرك أهمية تجاوز الإخفاقات المقدّرة. فإن كان خسارة في الدنيا والآخرة فهذا منتهى الفشل، وإن كان خسارة دنيوية وفوزًا أخرويًا فهذا النجاح بعينه وهذا العزاء.
– علينا أن نتفق تمامًا على أن تحقيق الإسلام في أمتنا هو من أهم الأهداف التي يجب أن ننجح في تحقيقها، وأن الاستسلام للعدو والمحارب للدين مهما جلب علينا من منافع دنيوية هو الفشل الذريع مهما ألبسوها من حجج واهية ومعاذير. فإنما هي كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مَاء!
– علينا أن نفتح كتاب الله وسنة نبيه الكريم وسير من سبق من الصالحين وننظر كيف كان مفهوم النجاح لدى هذه القمم، وكيف أنه أيضًا محض فضل من الله، يهبه لمن يشاء، فإن شئت أن تنجح أيها المسلم فعليك الاستعانة بالله أولًا وأخيرًا، ثم الاستلهام ممن سبق.
– كل نجاح في أعين الناس ليس بالضرورة أن يكون نجاحًا بالمعنى الحقيقي، فقد تجد الخير في غير ما يرومه المجتمع، كأن يكون خيرك فيما يرونه فشلًا! والله خبير بعباده وبصير بهم. فاسأله أن يدبر لك لأنك لا تحسن التدبير، واسأله من فضله العظيم.
– لابد من ترسيخ مفهوم الفشل في مكانه الصحيح، وتصحيح نظرة من يعتبر المطرب والراقص الذي اشتهر ناجحًا، فهذا في مقاييس أهل البصيرة إنما هو مشهد فشل وظلم للنفس والغير. كذلك لابد من ترسيخ مفهوم النجاح في مكانه الصحيح، فالثائر على الظلم والناهي عن المنكر ناجح وإن لم يحقق تغييرًا.
– ثم في العلاقات الاجتماعية وقصص الزواج والطلاق، والتي هي قدر مقدور على المرء وإن كان يتحمل مسؤولية اختياره، إلا أن النجاح والخسارة فيهما لا ينظر لهما بميزان البشر بل بميزان قاعدة المفاسد والمصالح في الدين، فالزواج من رجل لا يصلي لا يختلف عن وأد البنات في الجاهلية، وإن كان في أعين الناس زوجًا غنيًا ناجحًا. وطلاق مشركة لا تخشى الله ولا تتقي حدوده فتستعين بالسحر والسحرة يعتبر مكسبًا ونجاحًا وليس قصة فشل.
– إن النجاح الدنيوي إن لم يقترن بموافقة الشريعة وقاعدة المفاسد والمصالح فهو فشل مهما لمع في أعين الناس وتناقلته الألسن.
وخلاصة القول، حين ندقق في قصص الفشل بين غسق القرن الغابر، وغلس القرن الحاضر، نجد أن محطات نجاحاتنا على مستوى الأمة معدودة للأسف، وذلك حين ابتعدنا عن نور شريعتنا وركنا لأعدائنا واستسلمنا لهزيمة النفس!
فأيها الساعي للنجاح انفض عنك غبار الفشل واليئس، وسابق لجنة الخلود؛ فرضا الرحمن مطمعك، وخدمة الإسلام هدفك، ونصرة المسلمين طريقتك، ولا تبالِ بمن يتهمك بالفشل ويطالبك بالتراجع أو التبديل على ما كان عليه السلف، فإن الشاعر يقول:
ومن تعود في الإخفاق خاطره *** خال النجاح على الأهداف إخفاقًا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق