الثلاثاء، 29 يناير 2019

بعد فيلم "في سبع سنين".. رواية أخرى

بعد فيلم "في سبع سنين".. رواية أخرى
ساري عرابي



في اليوم التالي لبثّ قناة الجزيرة الفيلم الوثائقي "في سبع سنين".. كنت حاضرا لحوار، أثاره موضوع الفيلم، بين شابين، أحدهما في أواخر الثلاثينيات من عمره، والآخر في أواخر العشرينيات، يفصل بينهما كما قدّرتُ عشر سنوات من العمر، لكنها بدت لي ألف عام من التجربة.

بدأ الشاب الصغير يقصّ لصاحبه الثلاثيني حكاية الفيلم، والتحولات التي يعرضها للشباب، الإسلامي منه على وجه الخصوص، بعد نكسة الثورات العربية، وتحوّل بعضهم إلى الإلحاد أو العنف. كان أوّل ما ردّ به صاحبه الثلاثيني، بقوله تعالى: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (*) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ".. لم يقصد الثلاثيني الاستدلال بهذه الآية على هؤلاء الشباب، وإنّما قصد أن الفتنة معلومة نظريّا سلفا للشباب الإسلامي، يستحضرونها قرآنا وأحاديث نبوية وقصصا تروى وأناشيد، ويستعدون بذلك لاجتيازها إن وقعت، ولكنّ دخولها ليس كالحديث فيها من قبل.

إنّه بالقدر الذي يمكننا أن نحمّل فيه الحركات الإسلامية قسطا من المسؤولية عن أساليبها التربوية أو أفكارها التي تساعد في فتح أبواب الفتنة، أو أوضاعها التنظيمية وانكشافاتها الأخلاقية التي تُمثّل بذاتها أبوابا للفتنة، وبالقدر الذي يبوء فيه الظلمة بإثم فتنة المؤمنين (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)، فإنّ في الفتنة جانبا ذاتيّا صرفا يتعلق بكل صاحب تجربة، هو ما قصد الثلاثيني روايته من تجربته الذاتية.
بالقدر الذي يمكننا أن نحمّل فيه الحركات الإسلامية قسطا من المسؤولية عن أساليبها التربوية أو أفكارها التي تساعد في فتح أبواب الفتنة، أو أوضاعها التنظيمية وانكشافاتها الأخلاقية التي تُمثّل بذاتها أبوابا للفتنة، وبالقدر الذي يبوء فيه الظلمة بإثم فتنة المؤمنين
قسّم الفتن التي مرّ بها إلى ثلاثة أقسام، عازلا ما سوى ذلك مما لا يدخل في تجربة الدعوة أو النضال مما يُبتلى به المرء من حيث هو إنسان، كالابتلاء بالفقر أو اليتم أو المرض أو أيّ من ضروب الحرمان، انفردت أو اجتمعت، فقال لصاحبه إنّه عانى السجن.. وبعض السجن الذي كابده كان مختلفا ومميّزا في شدته وانفراده في التجربة. ولا شكّ أن الاختصاص بالبلاء من عظيم البلاء لانعدام الأنيس، ولأنّه ضرب من البلاء المضاعف لأنّه من صنف فتنة الناس بعضهم ببعض، إذ قد تُبتلى بما لا يُبتلى به رفاقك في المسيرة، بيد أنّه وصف هذا النوع من البلاء بالسهل، الذي قد يشعرك بالضعف ساعته، لكنه لا يفتنك في أفكارك أو إيمانك، وإن كبح اندفاع البعض، وغالبا ما يزول أثره بزواله.

ثم كانت المرتبة الثانية من البلاء، وهي أعلى، تلك الفتنة المباشرة برفاق المسيرة، وهذه الفتنة من درجات بحسب موضوعها، إلا أنّه ما من أحد انضمّ إلى هذه المسيرة، إلا وقاسى شيئا من الافتتان برفاقه، يشتد ويضعف، وأعلاه وقوع الظلم الصارخ على بعض رفاق التجربة، ومما هو حاصل؛ الممارسة التنظيمية المناقضة للادعاءات الأخلاقية، واختلال مفاهيم العدالة والمحاسبة التي تُلبّس لبوسا شرعيّا متعسفا، كجعل كل أفعال القيادة من قبيل الاجتهاد المأجور، والتمثيل الدائم لأفعال القيادة (محل الانتقاد) ببعض ما فعله النبي، في مقابل الحطّ الشديد ممن هم دون القيادة لأدنى خطأ أو نصح أو رأي مخالف. وهكذا، قد يفتن بعض رفاق المسيرة، لما يشعرونه من ظلم، أو تمييز، أو يصل إلى مسامعهم من غيبة، أو للتفاوت غير المفهوم في المحاسبة، أو في توزيع المقدّرات أو توظيف الكفاءات، أو التفاوت في الظروف والأوضاع.
الظلم المحقق أو المتوهم أو العجز عن احتواء العنصر وتطبيب جراحه، إذا وقع من هذا المجتمع الخاصّ سيكون أقسى؛ لأنه واقع من الحياة كلّها، مما صرف فيه نفسه كلها
الذي يجعل من هذا الضرب من الفتنة أصعب مما سبق، أنّ الحركات الإسلامية، مثّلت مجتمعا بديلا لعناصرها عن المجتمع العام، فتنحصر علاقاتهم الاجتماعية، وحواراتهم، وانشغالاتهم الذهنية، وهمومهم النفسية، داخل مجتمعهم الخاصّ، بالإضافة للتصورات المثالية التي تحكم علاقة العنصر بهذا المجتمع البديل، وتفضيله مطلقا على المجتمع العام، ثمّ يزداد الارتباط العاطفي، حينما لا يدفع العنصر وقته وشغله داخل هذا المجتمع فحسب، بل حياته كلّها، كأن ينشأ فيه، ويسجن بسببه، وتتعقد معيشته لأجل ذلك، ويعاني في دراسته، ويقاسي في شغله.. الخ، فلا شكّ حينئذ أن الظلم المحقق أو المتوهم أو العجز عن احتواء العنصر وتطبيب جراحه، إذا وقع من هذا المجتمع الخاصّ سيكون أقسى؛ لأنه واقع من الحياة كلّها، مما صرف فيه نفسه كلها.

حينما تصير الجماعة التي تصوّرت لعناصرها بهذه الصورة عاجزة عن مجرد سماعهم، فكيف إذا أوقعت عليهم بعض أشكال الظلم؟ وإذا كان ظلم ذوي القرابة أشد مضاضة، فإنّه وفي مجتمع خاصّ على النحو الذي بيناه، يكون معنى الخروج أشبه بصورة التمزق، فيمكننا حينئذ تخيل قدر الأوجاع أو التشوهات النفسية.

بيد أنّ (والحديث لراوي تجربته) هذه الفتنة على خطورتها، لا تصل ذروتها إلا في أوضاع معينة، أمّا ما دون الذروة فيتطبع به العناصر بمرور الوقت، فتكون الخطورة في هذه الحالة أن تقودك هذه التجربة بهذه السمات لما هو أعلى، أي أن تنتظر قطف ثمرة صبرك، صبرك في المستويين السابقين: معاناة أذى العدو الذي يقاسمك فيه أكثر رفاق المسيرة، ومعاناة الخلل الحاصل طوال الطريق من رفاق الطريق أنفسهم، فإذا وصلت لحظة قطف الثمرة، في غمرة من الآمال المسكّرة للعقل والبصر، فإنّ الفتنة ستكون في أعلى درجاتها.
بالهزيمة تتكشف انهيارات أخلاقية، لدى الجميع تقريبا، وهو ما يعزّز من الدوافع الهروبية صوب هذا الخيار أو ذاك، والذي ينطوي بقدر ما على نزوع انتقامي من كل ما ظنّ المرء أنّه مؤمن به، أو صرف حياته فيه

وإذا كان المرء في المستوى الأول من الفتنة، قد يسأل عن الحكمة الإلهية، وعن حقيقة العناية الإلهية، وعن القصد من إجابة المضطر، مما قد يطرأ لأي مبتلى، وينسج في ضميره أسئلة حول أسباب الإيجاد، وحقيقة القدر، وخلق أفعال العباد، ومشكلة الشرّ، وهي فتنة في درجة أولى، فإنّ هذه الأسئلة ستجد لها مساحات أعظم في ما هو أعظم، كأنّ يكون "الفشل" نتيجة الصبر كلّه، وكأن يكون الظلم أفحش، والناس إزاءه أعجز، وبعد ذلك سيحصل انكشاف أخلاقي عظيم، فإنّ الدعاة، والمعارضات، ومختلف أشكال التغيير، بنت جزءا من خطابها على مقولة أخلاقية، وإذا بالهزيمة تتكشف انهيارات أخلاقية، لدى الجميع تقريبا، وهو ما يعزّز من الدوافع الهروبية صوب هذا الخيار أو ذاك، والذي ينطوي بقدر ما على نزوع انتقامي من كل ما ظنّ المرء أنّه مؤمن به، أو صرف حياته فيه.


يقول صاحب هذه الرواية، وكلّ ما سبق هو من كلامه بحسب فهمي له، إنّه ليس مصريّا ولا سوريّا، وإن ما مرّت به الثورتان، كان أصعب على نفسه من كلّ ما كابده بشحمه ولحمه وروحه، بينما علّق الشاب الأصغر سنا، بأنّه لم يكن مشغولا حينها بشيء من هذه الهموم، بل إنّه وقت فضّ رابعة لم يتابع الخبر، وهو الآن لا يشعر بأي أزمة وجودية أو أخلاقية!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق