الثلاثاء، 8 يناير 2019

رأس السنة الميلادية وأزمة الحوار الإسلامي (2-2)


رأس السنة الميلادية وأزمة الحوار الإسلامي (2-2)


د. محمد عياش الكبيسي
الحقيقة أن العلماء لم يختلفوا في القطعيات أو البديهيات، لكنها أزمة الحوار التي حوّلت الخلاف في هذه المسألة وغيرها من دائرة الظنّيات إلى دائرة القطعيات، ومن دائرة الفرعيات إلى دائرة الكليات، وهي أزمة تنقل الحوار من دائرة البحث عن الحقيقة والرأي الأصوب إلى دائرة التشنيع والتهويل وتسجيل النقاط على الخصوم، وللأمانة فهي أزمة متجذرة في تراثنا وتاريخنا الطويل.
أنظر مثلاً إلى محنة الإمام أحمد ومسألة خلق القرآن ومسألة الأسماء والصفات، كم أخذت من الجهد والوقت والصراع والنزاع، ما حقيقتها؟ وما مسوّغ الخلاف فيها؟ وهل فعلاً كان الإمام أحمد أو الحنابلة عموماً مشبّهة ومجسمة، كما يصفهم المعتزلة؟ أو هل كان المأمون والمعتصم ومن تبعهما من أهل الاعتزال ينكرون أن يكون القرآن كلام الله كما يصفهم بعض الحنابلة؟ ليس هذا فقط، بل كل فرقة راحت تنسب أفكار الفرقة الأخرى إلى الأصول «اليهودية»، فاليهود يجب أن يحضروا في المشهد بقوّة!! والحقيقة أن بقية الفِرق لا تختلف كثيراً في استخدام مثل هذه الأساليب، وكأنّ هؤلاء كانوا يتقربون إلى الله بهذا التهويل والتشنيع ولو بأدنى لازم أو شبهة، ولو كان هذا على حساب الحق والحقيقة ومصلحة الأمة، ولذلك فإن على كل باحث اليوم أن يتحرّى أفكار كل مذهب من مصادر المذهب نفسه لا من مصادر مخالفيه، وإلا فهو واقع في الظلم ومجانبة الصواب في الحكم شاء أو أبى.
في موضوعنا اليوم، يمكن القول إن نقطة الخلاف ليس لها علاقة بالثوابت ولا بالقطعيات، ولا ينبغي أبداً إدخالها في هذا الإطار الخطير، فالمسلمون ليسوا متشككين في عقيدتهم، ولا ينبغي النزول إلى هذا الدرك من الاتهامات، وإنما الإطار الصحيح هو النظر في النتائج والمآلات والآثار العملية لكل رأي أو
فتوى، وانعكاسات ذلك في حياتنا وعلاقاتنا وثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا.
إن نقطة الخلاف الجوهرية التي تنتظم هذه المسألة ومثيلاتها تكمن في ضبط التوازن بين قيمة الحفاظ على هويتنا وخصوصيتنا الثقافية من ناحية، وبين قيمة التسامح والتعايش مع الآخرين على ما هم عليه من ناحية أخرى، وهذا الخلاف ينبغي أن يتجاوز حالة ردود الأفعال والتعصّب الأعمى إلى دراسة علمية موضوعية وتقدير سليم لطبيعة المجتمع ومدى حصانته أو قابليته للتأثّر، وقياس جملة المصالح والمفاسد زماناً ومكاناً وحالاً، فمثلاً: انعزال الجاليات الإسلامية عن محيطها في تلك الدول يحكم عليها بالاختناق والموت، كما أن الانفتاح المطلق سيهدد تلك الجاليات بالذوبان والأفول، وهنا نحتاج إلى اجتهاد دقيق، نتجاوز فيه الاختناق كما نتجاوز فيه الذوبان.
إن التغني الفارغ بقيمة الانفتاح والتعايش والتسامح من دون إعداد مكافئ وتربية رصينة، قد يعرّض أجيالنا بالفعل للضياع، كما أن سياسة التخويف وتغليق الأبواب قد تخرج لنا شخصيات مهزوزة وضعيفة الثقة بهويتها وثقافتها، مما يهدد بنتائج عكسية قد تصل إلى حالة من التمرد على هذه الأبواب وعلى حرّاسها.
إن بداية الحل لن تكون بتصحيح هذه الفتوى أو تلك، ولا بالتقاط الشواهد التفصيلية المقطّعة من هنا وهناك، وإنما بمعالجة جذرية لأزمة الحوار و»التخاطب» الإسلامي-الإسلامي، والخروج من عنق هذه الزجاجة قبل أن يغادرنا الزمن إلى غير رجعة.;

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق