الأربعاء، 30 يناير 2019

الأمر في القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس

الأمر في القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس

فضيلة الشيخ
أحمد محمد شاكر رحمه الله (١)
محدث الديار المصرية ونائب رئيس المحكمة الشرعية العليا
قال رحمه الله(٢):
"أقول: أفيجوز -مع هذا- في شرع الله أن يُحكم المسلمون في بلادهم بتشريع مقتبس من تشريعات أوروبا الوثنية الملحدة؟ بل بتشريع تدخله الأهواء والآراء الباطلة، ويبدلونه كما يشاءون، لا يبالي واضعه أوافق شِرعة الإسلام أم خالفها؟
إن المسلمين لم يُبْلوا بهذا قط -فيما نعلم من تاريخهم- إلا في ذلك العهد، عهد التتار، وكان من أسوأ عهود الظلمة والظلام، ومع هذا فإنهم لم يخضعوا له، بل غلب الإسلام التتار ثم مزجهم فأدخلهم في شرعته، وزال أثر ما صنعوا بثبات المسلمين على دينهم وشريعتهم، وبأن هذا الحكم السيئ الجائر كان مصدره الفريق الحاكم إذ ذاك، لم يندمج من أفراد الأمم الإسلامية المحكومة، ولم يتعلموه ولم يعلموه أبناءهم، فما أسرع ما زال أثره.
أفرأيتم هذا الوصف القوي من الحافظ ابن كثير- في القرن الثامن- لذلك القانون الوضعي، الذي صنعه عدو الإسلام جنكيز خان؟ ألستم ترونه يصف حال المسلمين في هذا العصر، في القرن الرابع عشر؟ إلا في فرق واحد، أشرنا إليه آنفاً أن ذلك كان في طبقة خاصة من الحكام، أتى عليها الزمان سريعاً فاندمجت في الأمة الإسلامية، وزال أثر ما صنعت، ثم كان المسلمون الآن أسوأ حالاً وأشد ظلماً منهم، لأن أكثر الأمم الإسلامية الآن تكاد تندمج في هذه القوانين المخالفة للشريعة والتي هي أشبه شيء بذلك "الياسق"(٣) الذي اصطنعه رجل كافر ظاهر الكفر، هذه القوانين التي يصطنعها ناس ينتسبون للإسلام ثم يتعلمها أبناء المسلمين ويفخرون بذلك آباء وأبناء ثم يجعلون مردّ أمرهم إلى معتنقي هذا "الياسق العصري" ويحقرون من يخالفهم في ذلك، ويسمون من يدعوهم إلى الاستمساك بدينهم وشريعتهم "رجعياً" و"جامداً"!! إلى مثل ذلك من الألفاظ البذيئة، بل إنهم أدخلوا أيديهم فيما بقى في الحكم من التشريع الإسلامي، يريدون تحويله إلى "ياسقهم الجديد" بالهُوَينا واللين تارة، وبالمكر والخديعة تارة، وبما ملكت أيديهم من السلطات تارات، ويصرحون - ولايستحيون- بأنهم يعملون على فصل الدولة عن الدين!!
... إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، هي كفر بواح، لا خفاء فيه ولا مداراة ولا عذر لأحد مما ينتسب للإسلام -كائناً من كان- في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر امرؤ لنفسه، وكل امرئ حسيب نفسه، ألا فليصدع العلماء بالحق غير هيابين وليبلغوا ما أمروا بتبليغه غير موانين ولا مقصرين".
وقال رحمه الله في تفسير سورة النساء (٥٩-٦٥)(٤): " انظروا أيها المسلمون، في جميع البلاد الإسلامية، أو البلاد التي تنتسب إلى الإسلام في أقطار الأرض- إلى ما صنع بكم أعداؤكم المبشرون والمستعمرون، إذ ضربوا على المسلمين قوانين ضالة مدمرة للأخلاق والآداب والأديان، قوانين إفرنجية وثنية، لم تُبنَ على شريعة ولا دين...
هذه القوانين التي فرضها على المسلمين أعداء الإسلام السافرو العداوة، هي في حقيقتها دين آخر جعلوه ديناً للمسلمين بدلاً من دينهم النقي السامي؛ لأنهم أوجبوا عليهم طاعتها وغرسوا في قلوبهم حبها وتقديسها والعصبية لها، حتى لقد تجري على الألسنة والأقلام كثيراً كلمات "تقديس القانون"، "قدسية القانون"، "حرمة المحكمة"، وأمثال ذلك من الكلمات التي يأبون أن توصف بها الشريعة الإسلامية وآراء الفقهاء الإسلاميين، بل حينئذ يصفونها بكلمات الرجعية والجمود والكهنوت وشريعة الغاب، إلى أمثال ما ترى من المنكرات في الصحف والمجلات والكتب العصرية...
ثم صاروا يطلقون على هذه القوانين ودراستها كلمة "الفقه" و"الفقيه" و"التشريع" "والمشرع"، وما إلى ذلك من الكلمات التي يطلقها علماء الإسلام على الشريعة وعلمائها.
وينحدرون فيتجرؤون على الموازنة بين دين الإسلام وشريعته وبين دينهم المفترَى الجديد!!
ثم نفوا شريعتهم الإسلامية عن كل شيء، وصرح كثير منهم في كثير من أحكامها القطعية الثبوت والدلالة بأنها لا تناسب هذا العصر، وأنها شرعت لقوم بدائيين غير متمدينين، فلا تصلح لهذا العصر...
فترى الرجل المنتسب للإسلام، المتمسك به في ظاهر أمره، المُشرَب قلبه هذه القوانين الوثنية يتعصب لها ما لا يتعصب لدينه، بل يجتهد ليتبرأ من العصبية للإسلام خشية أن يُرمى بالجنود والرجعية! ثم هو يصلي كما يصلي المسلمون، ويصوم كما يصوم المسلمون، وقد يحج كما يحج المسلمون، فإذا ما انتصب لإقامة القانون، لبسه شيطان الدين الجديد، فقام له قومة الأسد يحمي عرينه، ونفى عن عقله كل ما عرف من دينه الأصلي! ورأى أن هذه القوانين ألصق بقلبه وأقرب إلى نفسه!
وقد ربى لنا المستعمرون من هذا النوع طبقات، أرضعوهم لِبان هذه القوانين، حتى صار منهم فئات عالية الثقافة، واسعة المعرفة في هذا اللون من الدين الجديد الذي نسخوا به شريعتهم، ونبغت فيهم نوابغ يفخرون بها على رجال القانون في أوربا، فصار للمسلمين من أئمة الكفر ما لم يُبتلَ به الإسلام في أي دور من أدوار الجهل بالدين في بعض العصور".
وقال رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم) المائدة:٣٨ (٥):
"هذا حكم الله في السارق والسارقة، قاطع صريح اللفظ والمعنى، لا يحتمل أي شك في الثبوت ولا في الدلالة، وهذا حكم رسول الله تنفيذاً لحكم الله وطاعة لأمره، في الرجال والنساء: قطع لليد، لا شك فيه، حتى ليقول صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي-: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقتْ لقطعتُ يدها"(٦).
فانظروا إلى ما فعل بنا أعداؤنا المبشرون المستعمرون!
لعبوا بديننا، وضربوا علينا قوانين وثنية ملعونة مجرمة، نسخوا بها حكم الله وحكم رسوله، ثم ربوا فينا ناساً ينتسبون إلينا، أشربوهم في قلوبهم بُغض هذا الحكم، ووضعوا على ألسنتهم كلمة الكفر: أن هذا حكم قاسٍ لا يناسب هذا العصر الماجن، عصر المدنية المتهتكة! وجعلوا هذا الحكم موضع سخريتهم وتندرهم! 
فكان عن هذا أن امتلأت السجون في بلادنا وحدها بمئات الألوف من اللصوص، بما وضعوا في القوانين من عقوبات للسرقة ليست برادعة، ولن تكون أبداً رادعة، ولن تكون أبداً علاجاً لهذا الداء المستشري.
ثم أدخلوا في عقول الطبقة المثقفة- وخاصة القائمين على هذه القوانين الوثنية- ما يسمونه: "علم النفس"، ولقد جادلت منهم رجالاً كثيراً من أساطينهم، فليس عندهم إلا أن حكم القرآن لا يناسب هذا العصر!! 
وأن المجرم إن هو إلا مريض يجب علاجه لا عقابه، ثم ينسون قول الله سبحانه في الحكم بعينه: ( جزاء بما كسبا نكالاً من الله)، فالله سبحانه -وهو خالق الخلق، وهو أعلم بهم وهو العزيز الحكيم- يجعل هذه العقوبة للتنكيل بالسارقين، نصاً قاطعاً، فأين يذهب هؤلاء الناس؟!
هذه المسألة -عندنا نحن المسلمين- هي من صميم العقيدة ومن صميم الإيمان، فهؤلاء المنتسبون للإسلام، المنكرون حد القطع، أو الراغبون عنه سنسألهم: أتؤمنون بالله وأنه خلق هذا الخلق؟ فسيقولون: نعم. أفتؤمنون بأنه يعلم ما كان وما يكون، وبأنه أعلم بخلقه من أنفسهم وبما يصلحهم ويضرهم؟ فسيقولون: نعم. أفتؤمنون بأنه أرسل رسوله محمداً بالهدى ودين الحق، وأنزل عليه هذا القرآن من لدنه هدى للناس وإصلاحاً في دينهم ودنياهم؟ فسيقولون: نعم.
أفتؤمنون بأن هذه الآية بعينها (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) من القرآن؟ فسيقولون: نعم. أفتؤمنون بأن شريعة الله تعالى قائمة ملزمة للناس في كل زمان وفي كل مكان، وفي كل حال؟ فسيقولون: نعم. إذن فأنى تصرفون وعلى أي شرع تقومون؟!...
ولو عقل هؤلاء الناس -الذين ينتسبون للإسلام- لعلموا أن بضعة أيدٍ من أيدي السارقين لو قُطعت كل عام لنجت البلاد من سُبة اللصوص، ولما وقعت كل عام إلا بضع سرقات كالشيء النادر، ولخلت السجون من مئات الألوف التي تجعل السجون مدارس حقيقية للتفنن في الجرائم، لو عقلوا لفعلوا، ولكنهم يصرون على باطلهم ليرضى عنهم سادتهم ومعلموهم! وهيهات!! (7)

(1) ولد الشيخ رحمه الله عام ١٨٩٢م، وأبوه هو الشيخ محمد شاكر وكيل مشيخة الأزهر، وقاضي قضاة السودان. حصل على الشهادة العالمية من الأزهر عام١٩١٧م، واشتغل بالتدريس فترة قصيرة، ثم عمل بالقضاء، حتى اختير نائباً لرئيس المحكمة الشرعية العليا، انتهت إليه إمامة الحديث في مصر. توفي عام ١٩٥٨ م تاركاً ما يزيد عن خمسين مصنفاً.
(٢) "عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير" مختصر تفسير القرآن العظيم، للشيخ أحمد شاكر (١/٦٩٦،٦٩٧) دار الوفاء، الطبعة الثانية.
(٣) هو دستور دولة "التتار" جمعه قائدهم "جنكيز خان" من شرائع شتى.
(٤) المصدر السابق (١/٥٣٤،٥٣٥).
(٥) المصدر السابق (١/٦٧٧،٦٧٨).
(٦) أخرجه البخاري (٣٤٧٥)، مسلم (١٦٨٨) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(7) نقلاً عن كتاب: فتاوي كبار علماء الأزهر حول وجوب تحكيم الشريعة وتعظيمها، لمجموعة من العلماء، ط: دار اليسر، القاهرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق