الثلاثاء، 22 يناير 2019

عودة جبران

عودة جبران

 مهنا الحبيل
في ذلك المساء البارد في ميساساغا عاصمة الكنديين العرب، ابتسمت داخل وجداني، في حوار ضميرٍ لم ينتبه إليه الرفاق. 
كان بيني وبين جبران، وأنا أشاهد الحضور المزدحم في افتتاحنا مقهى المهجر الكندي، في قاعة صغيرة لا تُمثل نموذج التجمعات الكبيرة، لبعض الفعاليات العربية المختلفة في المراكز الإسلامية، أو التحشيد الانتخابي للعرب، خصوصا مع الحزب الليبرالي (الحاكم).
والحضور هنا كلهم مسلمون من انتماءات مختلفة، جاءوا ليستمعوا عن جبران، وعن رسالته إلى الشرق، فاستحضرت هنا روح التحدّي الملهم لجبران، وإصراره على أن يكون أدبه وخطابه حيّاً بين ظهراني الناس، حتى بعد رحيله، فأعدتُ مشهد قوله الذي أوصى أن ينصب على قبره: "أنا حيٌ مثلك، وأنا واقف الآن إلى جانبك؛ فأغمض عينيك والتفت؛ ترني أمامك"، فابتسمت، وقلت ها أنت حيٌ بأحرفك، تبعث رسالتك إلى الشرق من جديد، يا جبران. 

ولستُ أرى هدف جبران في هذه الرسالة إلى ما بعد الرحيل أنها جزءٌ من الغوص في الجدل عن فلسفته وعلاقتها بالتقمّص، بقدر ما هو إصرارٌ وعزيمةٌ على أن تبقى ذاكرته، بين الشعوب، حاضرة. 
وقد قلتُ، في المقدمة، إن درس جبران الأول لأبناء المهجر، أياً كانت توجهاتهم، هو روح التحدّي لرحلته التي لم توقفها مأساته في أسرته، وتمكّن المرض منه، حتى أباح لصديقته الراعية الوفية، وحبّه الأبرز في رحلات عشقه التسع، ماري هاسكل، أنه يقرأ


 مصيره. ولذلك أوصاها، وأوصى بها، بكلماته، لعله يحسم الجدل الذي دار بعد موته أي حدائق الهوى أخذت قلبه! ومع ذلك لم يفعل. 
أبى جبران أن يكون ضيفاً عابراً على الأدب والفلسفة الشعرية في الغرب. وهنا رسالة التحدي، فلم يكتف بالحضور والرسم والفنون، ورسائل فلسفة الشرق التي أعاد تصديرها، بصناعةٍ لغويةٍ وفكريةٍ غربية، بل انكفأ على منافسة أساطينهم، وهو يُعد لنبوءته الفلسفية، وليس اللاهوتية، فقد كان جبران يعتقد أن لديه نبوءته الخاصة من تعمّقه في تصوف الشرق وفلسفته التي بعثها برداء أدبي غربي، وظلت بصمته الشرقية فيها حاضرة. وكان يقول إنه لم يعتن بنصٍّ كما هي رسالة النبي، والتي كتبها بالإنكليزية بعد مراجعةٍ وتدقيق، خصوصا مع ماري هاسكل، ثم نشرت، وطبع منها في الولايات المتحدة الأميركية، تسعة ملايين نسخة، وهو التحدّي الذي كسبه جبران، والرسالة اليوم للمشرقيّين في المهجر، ما هي بصمتكم التي ستتركونها للأجيال وللإنسانية جمعاء؟
لا يُمثّل هذا اللقاء في مقهى المهجر الكندي أمراً لافتاً لحركة الاعتناء الضخمة بأدب جبران وفلسفته، والكتب والمحاضرات ودراسات كثيرة، لكن اللقاء سلط الضوء على قضيةٍ، هي اليوم من أهم معالم احتياجات الوعي الإسلامي الجديد.
إننا اليوم بإعادتنا بعث رسالة جبران إلى المسلمين، وحديثه عن شق قلبيه، الأول للسيد المسيح والثاني للرسول الأمين، عليهما الصلاة والسلام، أمام بعثٍ فكريٍّ متدفقٍ، لم يقف عند رسالة جبران، المعنونة برسالةٍ من شاعر مسيحي إلى المسلمين، وإنما كان يتسلسل في كل نصٍّ وقفت عليه.
قبل اللقاء، وخلال الأيام التي عشتها معه، وجدتُ في بوح جبران أدباً وروحاً شرقية، استوعَبَت باعتزاز وإجلال معنى احتضان الحضارة الإسلامية التنوعات الدينية والمذهبية والفكرية، وجعلتها ترسل مساهمتها في باقةٍ واحدة، ليست مفتتة، ولكن موحدة بإنسانيتها، من دون التخلي عن الرسالة الإسلامية الخالدة.
كان زهو جبران بالشيخ الرئيس ابن سينا، ومجادلته في فلسفة قصائده الشعرية، أن بعضها يتغلب حتى على شكسبير. وأن فلسفة التصوّف للغزالي أعمق من نظرائه في التصوّف المسيحي وحديثه عن ابن خلدون، وموسوعة ضخمة من أعلام التراث العربي والإسلامي، كانت تحمل قناعة فخر وإعجاب بإرثه العربي، لا ينفصل أبداً، عن أن هذا الإرث ينتمي  

للحضارة الإسلامية التي شملت المسيحيين العرب، شركاء الأخوّة والجوار، والانتماء القومي الوجودي في هذه الأرض.

لم يكن جبران أديبا مصمتا مع الإبداع الغربي الأدبي والفلسفي مطلقاً، بل كان مندمجاً إلى حد الإتقان والتحكيم، ثم الإبداع في شعره الفلسفي، كما هي رسالة النبي، لكنه كان، فيما يَبرز في سطور عديدة، يرى أن للشرق بصمة عُليا متميزة. ولم أقرأ في نصٍّ من نصوصه خطاب الهزيمة النفسية، وهو يتحدّث عن التراث العربي. ولننتبه هنا، كيف أن جبران رأى هذا التراث غنيا فلسفيا عميقاً، وهو من أبرز دعاة التمرّد على اختطاف الدين، كل دين، وتسليمه للوعاظ المرتزقة. ولم يتحول جبران، في أي من المصادر التي قرأتها وتناولها الباحثون، إلى منبرٍ يغض فيه من الإسلام، ويُعيّر المسلمين بتخلف أصليٍّ مزعومٍ لدينهم. إطلاقاً لن تجد ذلك. في المقابل، تجد هذه الظاهرة حاضرةً في بعض العلمانيين المسلمين، فبمن يقتدي المثقف العربي اليوم، أيا كانت أيديولوجيته؟
أما الرسالة الكبرى التي بعثها، فكانت واضحةً، وكأنه يهتف اليوم في رياح الخريف العربي ودمائه المتناثرة، حين يقرن الأزمة في بعدين، وأن صراعه مع الاستبداد العثماني ليس كراهيةً للعثمانيين، بل يُحب الأتراك ضمن الأسرة الإنسانية، ولكنه يكره سلطة الاستبداد. والعجيب أن هذه الفلسفة متطابقة تماماً مع الفقيه المصلح عبد الرحمن الكواكبي الذي استنفد حياته ضد الاستبداد العثماني، وبعض مجرمي الحرب الذين تولوا حكم الأقاليم العربية وغيرها باسم الأستانة.
وتعني هذه الفلسفة أن وعي هذا التاريخ والمأزق العميق يجب أن يُفهم أنه ليس في سياق العداء لإخواننا الأتراك، كقومية شريكة للعرب في الشرق وشركاء الرسالة، وإنما بقضية الاستبداد ومن يُمثله. ثم يختم جبران للمسلمين بأن عدم النهوض بقيم الإسلام وحريته وعدالته وتقدّمه هو الطريق إلى تمكّن الأفرنجة، في إشارة واضحة إلى الغرب الاستعماري، وليس صراعاً مع مسيحيي الغرب الذين يتحد معهم في الديانة، فيا للعرب، وهذا النصب الحي، يا جبران، لا يزال حبرك غضّاً طرياً كأنه يُكتب اليوم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق