الأربعاء، 16 أغسطس 2023

“عطلة الجمعة” في تركيا على خط التجاذب السياسي

 “عطلة الجمعة” في تركيا على خط التجاذب السياسي

قطب العربي

تحديد العطلة الأسبوعية بيومي السبت والأحد هو جزء من ميراث علماني تليد في تركيا بدأ منذ العام 1935 في عنفوان الجمهورية الكمالية وبعد عشر سنوات من تأسيسها، وكان ذلك أحد مظاهر انخلاع تركيا من هويتها الإسلامية لحاقا بالحداثة الغربية والسوق العالمية.

قبل أيام وخلال خطبة جمعة دعا رئيس إدارة الشئون الدينية علي أرباش إلى تعديل مواعيد العطلات لتشمل الجمعة، قائلا “دعونا نساعد موظفينا وزملاءنا الطلاب على أداء صلاة الجمعة، وهي واحدة من أهم الفرائض، دعونا نرتب ساعات العمل وبرامج الدروس في مدارسنا حسب وقت صلاة الجمعة”، لم تمر دعوة أرباش مرور الكرام حيث تفاعلت معها منابر التواصل الاجتماعي بين مؤيد ومعارض، ليست هذه المرة الأولى التي يثار فيها الجدل، ويأخذ طابعا هوياتيا وسياسيا حول عطلة الجمعة في تركيا، فقد  أثير الأمر من قبل ولكنه عادة لا يصمد طويلا أمام قوة الصوت العلماني، وليس معروفا إن كانت هذه المرة ستلحق بشقيقاتها السابقات أم أن التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها تركيا خلال العقود الثلاثة الأخيرة يمكن أن تكسب الدعوة هذه المرة زخما خاصا، وتمنحها طاقة جديدة؟

رد الفعل العلماني

تركيا التي يمثل المسلمون أغلبيتها الساحقة (98%) لا تعتمد الجمعة عطلة أسبوعية بينما تعتمد يومي السبت والأحد وهما يومان مقدسان لدى اليهود والمسيحيين، وهو ما أشار إليه خطيب مسجد أيًا صوفيا.
وهذه الدعوة الجديدة لعطلة الجمعة تنطلق من هذه الحقيقة الدينية والديموغرافية، فيوم الجمعة هو العطلة الرسمية في غالبية البلاد العربية والإسلامية، لكن للحقيقة فإن تركيا ليست الدولة الإسلامية الوحيدة التي لا تعطل الأعمال يوم الجمعة بل يشاركها في ذلك دول أخرى مثل: إندونيسيا وماليزيا وتونس والمغرب وموريتانيا  وأخيرا الإمارات، ولكن هذه الدول تأثرت بالاستعمار الأوروبي على خلاف تركيا التي لم تقع تحت هذا الاستعمار الأوروبي أو غيره.

وكما كان رد الفعل مع الدعوات السابقة فقد سارعت القوى العلمانية لإعلان رفضها للدعوة الجديدة، وعبرت عن ذلك بشكل واضح صحيفة جمهوريات التي اعتبرت الدعوة خطوة جديدة نحو حكم الشريعة، كما اعتبرها  اتحاد الجمعيات النسوية منافية للعلمانية، بل وصل الأمر بأحد الأحزاب العلمانية (حزب التحرير الشعبي) إلى تحريك دعوى قضائية ضد رئيس هيئة الشؤون الدينية، بتهمة انتهاك الدستور وإساءة استخدام منصبه، ولكن الموقف المناهض في مجمله بدا أقل زخما أيضا مقارنة بحالات أخرى، وليس معروفا إذا كانت رئاسة الشئون الدينية ستكرر دعوتها، أو إذا كانت جهات ومؤسسات أو جماعات ذات طابع دعوي أخرى ستتبنى هذه الدعوة بشكل عملي، وكيف سيكون الرد المقابل.

معركة الحجاب

هذه الدعوة هي حلقة في بحث تركيا عن هويتها الحقيقية التي تنصلت منها لعقود طويلة تحت الحكم العلماني، وقد سبقتها عدة خطوات على طريق استعادة هويتها الإسلامية كانت أبرزها معركة الحجاب الذي مُنع بقرار سياسي، وتعرضت النساء اللاتي خالفنه لعقوبات وملاحقات وتضييق في الدراسة والعمل، حتى أن رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان حينها، ووزراء آخرين اضطروا إلى تعليم بناتهم في الولايات المتحدة حتى يحافظن على حجابهن، وحتى أن البرلمان رفض قبول نائبة محجبة منتخبة (مروى قاوقجي) وتم طردها في مشهد لا يزال محفورا في الذاكرة، لكن معركة الحجاب انتهت أخيرا لصالح المحجبات إذ صار مسموحا لهن بالدراسة في الجامعات الحكومية، والعمل بالدواوين الرسمية بما في ذلك الجيش والشرطة، ووصل الأمر إلى حدوث مزايدات سياسية بين العلمانيين والمحافظين في تثبيت حق الحجاب، فقد دعا كمال كليشيدار أوغلو زعيم المعارضة العلمانية لسن تشريع يحمي حق الحجاب وتحداه رئيس الدولة رجب طيب أردوغان لتثبيت هذا الحق في نص دستوري وليس قانونيا فقط، وغالبا سيكون ذلك جزءا من الدستور الجديد الذي يستعد أردوغان لطرحه قريبا.

التداخل أو الاحتكاك بين مظاهر الهوية الإسلامية والعلمانية في تركيا واضحة، وهي في تصاعد للحالتين، ففي الوقت الذي لا يزال دستور البلاد قائما على العلمانية وحاميا لها، فإن أردوغان يعتزم طرح مشروع دستور جديد يخفف من مظاهر الهيمنة العلمانية، وفي الوقت الذي تنتشر فيه حانات الرقص والخمور وحفلاتها الماجنة في كل مكان؛ فإن المساجد تنتشر بصورة واضحة أيضا مع اهتمام خاص بعمارتها وخدمتها، وفي الوقت الذي تواصل المدارس التقليدية عملها؛ فإن المدارس الدينية آخذه في التمدد، وفي الوقت الذي تنتشر الملابس النسائية المتحررة فإن الحجاب يكسب كل يوم أرضا جديدة ودعما جديدا كما ذكرنا، وبينما كان محروما (الحجاب) من قبل من دخول الجامعات والهيئات الرسمية فهو اليوم في قلب القصر الرئاسي ( زوجة الرئيس وبناته، وبعض الوزيرات والمسئولات)، وحتى التحية اليومية أصبحت التحية الإسلامية” السلام عليكم” منافسة للتحايا التقليدية صباحا ومساءً، الطريف أن تجد في تركيا مظهرين متناقضين في نفس الوقت ومع نفس الأشخاص كما يحدث في رمضان حين يتجمع الكثيرون حول موائد الإفطار في المطاعم ينتظرون حلول الفطر دون أن يكونوا صائمين!!

هكذا هي تركيا التي لا تزال في مفترق طرق بين الغرب والشرق لحسم هويتها، لكن الجميل أن هذه المعركة بين القيم المتصارعة تجري وفق قنوات شرعية، وبطريقة سلمية في أغلب الأحيان خصوصا في العقود الثلاثة الأخيرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق