الأحد، 17 ديسمبر 2023

عقول رجال الدين سطحية أم مسطحة؟

 عقول رجال الدين سطحية أم مسطحة؟

الدكتور عزت السيد أحمد
كاتب ومفكر 


منذ ثورة فصل الدِّين عن الدَّولة تمَّ تدريجيًّا تسطيح عقول رجال الدِّين وتجويفها وتجريفها لتُعزل عن المحيط العلمي وعن الفضاء الحضاري، كي تظلَّ منغلقة عَلىٰ ذاتها في دائرة تسمَّىٰ الدَّائرة الدِّينيَّة والفقه الشَّرعي وأحكام العبادة والطَّهارة وهلمَّ جرًّا… 

حَتَّىٰ صار من السَّهل قيادة رجل الدِّين وتوجيهه لخدمة السِّياسة على حساب الدِّين، فصارت مهمَّة رجل الدين البحث عن مبررات بلاهة السِّياسي واستبداده وأي فعل يفعله، ولأنَّ الشَّرع غنيٌّ واسعٌ يجد فيه كلُّ وصوليٍّ مبتغاه. 

بَيْنَما العالمُ الحقُّ الذي وسعت إحاطته وعلمه ودرايته لا يقبل هَٰذه التَّبريرات ولا يمرِّرها ولذَٰلكَ غالباً ما يدفع الثَّمن من التَّهميش إلىٰ التَّغييب فالاغتيال المعنوي أو حَتَّىٰ المادِّي. 
وهٰذا ما أفسح في المجال أمام الوصوليين والمتسلقين ليسدوا الفراغات والفجوات التي يحتاج إليها المجتمع والدَّولة إثر غياب وتغييب أصحاب العقول الرَّاجحة والكفاءات الجديرة، وساعدت الأنظمة السِّياسيَّة عَلىٰ ذَٰلكَ وقامت هي ذاتها بفعل وتفعيل سدِّ الفراغ والفجوات برجالها من المنافقين والمتسلقين وحَتَّىٰ رجال استخباراتها من تعزيز تغييب رجال العلم والدِّين الحقيقيين وتعزيز ثقافة الدِّين السَّطحي الخالي من الدَّسم والفارغ من القدرة ومن القوَّة ومن الفعل… وغير ذَٰلكَ مما ينجلي بالضَّرورة عن سيادة هٰذا الأنموذج الرِّعاعي في التَّعليم الدِّيني والتَّنظير والإفتاء والحوار… 
من قبيل تشتت الناس العقلي والتَّفتت الإدراكي وضياع المفاهيم والاضطراب النَّفسي وانزياح محاور التَّوازن الأخلاقي ولاجتماعي والدِّيني والنَّفسي والفاعلي والانفعالي. فيما قبل ما سمِّي ثورة العلمانيَّة وفصل الدِّين عن الدَّولة بالكاد تجد رجل دين إسلامي أو مسيحي غير متقنٍ السِّياسة والاقتصاد والعلوم الطبيعية بعضها أو كثيراً منها، وإذا رجعت إلىٰ كتب السِّياسة والاقتصاد والتَّاريخ وأي علم من العلوم الاجتماعيَّة في الماضي تجد أنَّ الفقهاء ورجال الدين هم أصحاب هَٰذه الرُّؤىٰ والنَّظريَّات.
 
الحقيقة الأكيدة هي أنَّهُ لا انفصال بَيْنَ الدِّين والسِّياسة كما يوهم الكثيرون أنفسهم ويجاولون إيهام النَّاس بذَٰلكَ من أجل تهميش الدِّين وإحكام التَّحكُّم بهم. 
فقط الإسلام والمسيحيَّة من ثَمَّ تكريس الطلاق فيهما بَيْنَ الدِّين والسِّياسة لأكثر من سبب وبفعل فاعل مخطَّط لا بالمصادفة ولا بالتَّقدم العلمي أو التَّاريخي كما يحاولون إقناعناً… 
هل يوجد فصل الدِّين عن الدَّولة عند اليهود أو فصل السِّياسة عن الدِّين؟ 
هل تنفصل السِّياسة والدِّين عن الدولة عند الشيعة؟ عند الهندوس ماذا يوجد وماذا يمكن أن نسمِّي قيام الدَّولة البوذيَّة بحرب الإبادة ضدَّ المسلمين؟ 
منذ أيام فقط وتحديداً في 5/ 7/ 2019م أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي أفيكتور ليبرمان قائلاً بوضوح صريح: في إسرائيل يتعذر فصل الدين عن الدولة. وفي أوروبا كل عام يجتمع البابا بكل رؤساء أوروبا ما عدا رئيس تركيا لأنَّهَا مسلمة. 
وقبل بضع سنوات وتحديداً في 24 أيلول/ سبتمبر2015م أعلن الرَّئيس المجري شخصيًّا أن وقوفه ضدَّ المهاجرين ومنعهم من المواصلة إلىٰ أوروبا ناجم عن خوفه من كثرة المسلمين في أوروبا، وتخوفه من أن يصبحوا أكثرية بعد سنوات. 
علماً أن المجر دولة شيوعية لسبين سنة، وهي دولة علمانية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. 
هَٰذه أمثلة سريعة خاطفة من عشرات بل مئات، وهٰذا ما دعا ويظل يدعو إلىٰ التساؤل عَلىٰ الأقل: إذن أيُّ علمانيَّة هَٰذه التي تدعون، وأي شيوعية هَٰذه التي كنتم تمارسون؟ 
كله كذب بكذب فيما يتعلق بالحرب عَلىٰ الإسلام. مهما كانت الاختلافات والتوافقات بَيْنَ جميع غير المسلمين فإنَّهُم مجتمعون متفقون متوافقون عَلىٰ محاربة الإسلام بكل الوسائل والسبل والأدوات الممكنة. 
الأمور في الحقيقة واضحة أكثر مما يتطلب الفهم، وأكثر مما يستدعي الحال، وأن لا يفهم ذَٰلكَ أو لا يقبله هٰذا أو ذاك فالعيب في عقله وإرادته لا في وضوح الحقيقة، ليس عيب الحقيقة أن لا يدركها من لا يريد أن لا يدركها أو من كان جاهلاً أو أحمقاً… 
من البلاهة بمكان العدوان عَلىٰ الحقِّ أو الحقيقة إرضاء لفاجر أو بهيم أو جاهل، بل إن تشويه الحقيقة إرضاء للبهيم أو غير الفيهم هو مشاركة في العهر والفجور. 
ومن المهم التذكير من جديد بما بدأت به، وهو الحرب عَلىٰ الإسلام في وجهها الأوَّل جزءٌ من الحرب عَلىٰ الدِّين. 
والحرب عَلىٰ الدِّين لها وجهان أو مدخلان أولهما الكافرون وهَٰذه طبيعتهم وغايتهم، وثانيهما قوم يزعمون أنَّهُم مؤمنون بالله أو حَتَّىٰ يعتقدون ذَٰلكَ ولٰكنَّهُم يحاربون الدِّين بالجملة والدِّين السَّماوي تحديداً لأسباب تتعلَّق بعقيدتهم وهٰذا أمر ليس هٰذا مكان مناقشته وإن مان يمكن أن يكون أوانه. 
استطاع هَٰؤلاء كلاهما تهميش المسيحية والقضاء عليها نوعاً ما. 
ولٰكنَّهُم حَتَّىٰ الآن عاجزن عن القضاء عَلىٰ الإسلام، عن تحريفه وتشويهه وتسطيحه كما فعلوا بالمسيحية ولم يفعلوا باليهودية. 
ولذَٰلكَ لم يتقفوا ولن يتقفوا عن التفكير في السبل والطرائق والأدوات الممكنة والمحتملة لتدمير الإسلام وتحويل تدين المسلمين إلىٰ تدين سطحي مثلما فعلوا بالمسيحيين، ومن هَٰذه الطرق الجديد طريقة تسطيع عقول الأئمة وحصرهم بالعلم الشرعي العابر الآني ومنعهم من الثَّقافة العامة في بقية العلوم لحصر قدراتهم التَّفكيرية والحيلولة دون استفادتهم من بقية العلوم وخاصة السياسية عَلىٰ اعتبارها علوم دنيوية لا تسمن ولا تغني من جوع، وإقناعهم وحَتَّىٰ إقناع المسلمين بهَٰذه التفاهة، وجعلهم أنفسهم يقودون المسلمين إلىٰ مثل هَٰذه القناعات السَّطحيَّة. 
بهذه الطريقة يتمُّ تسطيح عقول رجال الدين، وبتسطيح عقول رجال الدين يكسب أعداء الدين من كل الجوانب؛ أخطر من يمكن أن يكون لدىٰ تسطيح عقول رجال الدين هو إعطاء الانطباع للناس المؤمنين وغير المؤمنين بأنَّ الدِّين ذاته سطحيٌّ وفارغ وعاجر، فإذا كان رجال الدين بهَٰذه السطحية والسذاجة فكيف سيكون الدين وكيف سيكون حال الناس. 
وعَلىٰ ذَٰلكَ يأتي الأمر الثاني وهو أنَّ تعليمهم ووعظهم سيكون سطحيًّا. 
والأمر الثالث هو أن توجيه رجال الدين وقيادتهم من قبل غيرهم سيكون أمراً سهلاً، وهٰذا ما يخدم أيضاً الأنظمة العاهرة بتحكمها برجال الدِّين بمحض إيحاءات بسيطة. 
في هٰذا السِّياق يجب أن نتذكر قيام الأنظمة الحاكمة في العالم ا لعربي والإسلامي، بإيحاء أو غير إيحاء من سادتهم الغربيون، قاموا منذ عشرات السِّنين بالعمل عَلىٰ تصنيع فقهاء في أقبية المخابرات هم جزء ممن يسمون علماء السَّلاطين لا يقومون بتشويه الدين وحسب بل يعلمون عمل المخابرات عَلىٰ الناس التي تصلي في المسجد وحَتَّىٰ خارج المسجد. 
علماء السلاطين اصطلاح مقزز في أفواه التافهين والأغبياء. مقزز ومقرف لأنَّهُ لا يرون إلا علماء الدين علماء للسلطان علماً أنَّهُم ليسوا علماء دين وإنَّما هم العلماء الذين صنعتهم المخابرات إما من عساكرها المباشرين أو بطريقة تسطيح العقول عَلىٰ نحو ما سبق. 
علماء السَّلاطين السَّلاطين ليسوا علماء الدين وحسب، هناك علماء نفس، وفيزياء وجغرافيا وجيولوجيا وفبركلوجيا وتزويرلوجيا… 
إنَّهُم من مختلف الاختصاصات، الذي يميِّزهم هو طبيعة تفكيرهم التَّبريريَّة للسُّلطان، والتلفيقيَّة لأعداء السُّلطان… 
الحقيقة الأكيدة أنَّ علماء السَّلاطين عناصر مخابرات لا أكثر يلبسون قبعة الاختصاص الذي يتناسب مع شكلهم. 
ولٰكنَّ الناس أكثرها، بسبب الضَّخِّ التِّشويهي التَّحريضي عَلىٰ الإسلام، عندما يسمعون لفظ علماء السُّلطان لا يخطر في بالهم إلا الشيوخ ورجال الدِّين الإسلامي تحديداً. 
إنَّهَا جزء من الحرب عَلىٰ الإسلام تحديداً. 
الحرب عَلىٰ الإسلام أعظم الحروب وأشنعها وأفظها لأنَّ جميع هَٰؤلاء السابقون المحارِبون والمحارَبون يحاربون الإسلام ومعهم الديانات الوثنية حَتَّىٰ يكمل النقر بالزعرور. 
فحسبنا الله ونعم الوكيل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق