عبد القادر الحسيني.. خريج الجامعة الأميركية الذي أشعل جذوة المقاومة الفلسطينية
كان من الممكن لهذا الشاب أن يختار حياةً أخرى، فهو ابن حسب ونسب ومال، وصاحب علم درس في أحسن الجامعات، ولكنه ترك كل ذلك لقضية أخرى، عاش في سبيلها حين تراخت الجيوش العربية، ومات في سبيلها فكان آخر عقبة تقف في وجه الصهاينة قبل إعلان قيام إسرائيل على أرض فلسطين.
الحديث عن عبد القادر الحسيني، قائد المجاهدين وابن شيخ المجاهدين من أجل قضية القدس. أبوه كان يحمل لقب "باشا" للمهامّ الكبرى التي تولاها لصالح الدولة العثمانية، في الأناضول، ونجد، وعسير، وشرقي نهر الأردن، وكان آخر مناصبه رئاسة بلدية القدس التي تولاها عام 1918، ليقود النضال ضد الإنجليز ويحرك المظاهرات احتجاجًا على وعد بلفور حتى عزلوه عن منصبه أولًا، ثم نال الشهادة ضربًا بهَراواتهم عام 1934.
كان هذا هو الأب، فماذا عن الابن؟
درس الابن عبد القادر المولود عام 1908 القرآن في زاوية في القدس، ثم في مدرسة روضة المعارف الابتدائية، ومنها إلى مدرسة "صهيون" الإنجليزيّة في القدس (نسبة إلى التلة التاريخية المشرفة على المدينة)، وعندما جاء أوان الجامعة، سافر إلى لبنان ليلتحق بالجامعة الأميركية في بيروت، لكنه كان- كوالده في ذلك الوقت- منخرطًا في النشاط السياسي، مطالبًا باستقلال فلسطين، ومحتجًا على وعد بلفور، فما لبثت الجامعة أن طردته، فشدّ رحاله إلى القاهرة، ليدرس في الجامعة الأميركية بها، وهناك أسس رابطة للطلاب، ولكنه كتم مواقفه السياسية حتى لا يحرم من نيل شهادته، وبالفعل، عندما نال شهادة في الكيمياء، قام في احتفال التخرج بالجامعة ليعلن أن تلك الجامعة لعنة بما تبثّه في عقول الطلاب من سموم، فما كان من الإدارة إلا أن أعلنت تجريده من شهادته، فخرجت مظاهرة كبرى انتصارًا له، فتراجعت الجامعة عن قرارها، ولكن رئيس الوزراء المصري إسماعيل صدقي قرّر إبعاده عن البلاد عام 1932.
في بلاط الصحافة
خلال دراسته الجامعية وبعدها، بدأ في كتابة المقالات الصحفية.. مقالاته كانت جريئة حادة، وإغلاق الصحف كان الحل الدائم للمستعمرين.. حدث هذا في جريدة "الجامعة الإسلامية" التي أنشأها الشيخ سليمان التاجي الفاروقي، وكان عبد القادر سكرتير تحرير لها، ثم في جريدة "الجامعة العربية" التي أصدرها منيف الحسيني في القدس، ثم في جريدة "اللواء" لسان حال الحزب العربي الفلسطيني الذي شارك في تأسيسه.
وفي مرحلة تالية من حياته سيؤسس محطة إذاعية في رام الله، هدفها حشد الناس للانضمام للمقاومة المسلحة، ودعمها بالمال والعتاد، وفي تلك الأيام شهدت فلسطين أطول إضراب في تاريخها، وكان إرهاصًا بموجة عاتية من الجهاد المسلح، بدأ في التخطيط له وتفعيله عبد القادر الحسيني.
وقد عمل بعد عودته عام 1932 تحت قيادة والده الذي كان أحد قادة الحركة الوطنيّة الفلسطينية، ودفع ثمنًا لها منصبه كرئيس لبلدية القدس، لكن بعد عامين فقط استشهد والده الشيخ الكبير متأثرًا بهراوات الإنجليز التي لا توقر شيخًا ولا ترحم ضعيفًا، فسقط مغشيًا عليه أولًا، ثم ما لبث أن فارق الحياة بعد أيام، وترك لعبد القادر مواصلة العمل.
انضمّ بعدها إلى الشيخ عزالدين القسام، فتولى تدريب مجاهدي وحدات "الجهاد المقدس" لبدء الجهاد المسلح ضد الإنجليز والعصابات الصهيونية، وقاد معه- ثم بعد استشهاده عام 1936 وحتى العام 1939- كثيرًا من العمليات الفدائية ضد القوات البريطانية، وتقول بعض المراجع: إن الحسيني كان أول من أطلق النار إيذانًا ببدء الثورة على الاستعمار البريطاني عام 1936 عندما هاجم في مايو/أيار من ذلك العام ثُكنة عسكرية إنجليزية في "بيت سوريك" شمال غربي القدس، ثم انتقل من هناك إلى القسطل، بينما تحركت خلايا الثورة في كل مكان في فلسطين.
وفي العام 1946 وصل إلى مصر في رحلة قيل إن هدفها المعلن هو علاج جراحه القديمة التي أثرت عليه، ولكنه في واقع الأمر لم يكتفِ بذلك، فسرعان ما كان على اتصال بالقوى المصرية والعربية المهتمّة بقضية فلسطين التي كانت تدخل منعطفًا جديدًا مع قرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة عام 1947
ومن أهم ما نفذه هو ورجاله في تلك الفترة، إلقاء قنبلة على منزل السكرتير العام لحكومة فلسطين تلتها قنبلة على المندوب السامي البريطاني، ثم محاولة اغتيال قائد الشرطة البريطاني في القدس آلان سيكريست التي نفذها رجاله، ومهاجمة القطارات الإنجليزية، حتى كانت معركة "الخضر" (1936) التي أصيب فيها إصابة بالغة، وأسره الإنجليز، وساقوه إلى المستشفى العسكري في القدس مكبلًا بقيوده، لكنه أفلت من الأسر وفرّ إلى دمشق مستكملًا علاجه هناك.
وبعد تصاعد الثورة المسلحة في فلسطين عام 1938، تسلل الحسيني عائدًا إلى بلاده، وشارك في القتال، لكنه أصيب إصابة خطيرة أخرى في معركة كبيرة بمنطقة بني نعيم، فتم نقله سرًا إلى مستشفى الخليل حيث تلقى العلاج.
لم يعش الحسيني حياته القصيرة إلا مجاهدًا ومدافعًا عن الحرية، سواء كان في ميدان القتال في فلسطين الذي أصيب فيه عدة مرات، أو في المنفى الذي اضطر إليه مرات عديدة، ولا سيما وقد أصبح محكومًا بالإعدام من القوات البريطانية في فلسطين.
بعد إحدى إصاباته داواه أصحابه في مستشفى الخليل، ثم نقلوه سرًا إلى لبنان، ومنها إلى العراق بجواز سفر "عراقي"، وكان ذلك في مرحلة دخلت فيها الثورة المسلحة التي بدأت عام 1936 في الفشل بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية التي جعلت الحصول على السلاح صعبًا ومكلفًا، ونقلت اهتمام العرب والعالم إلى مناطق أخرى.
في بداية وصوله للعراق، عمل مدرسًا للرياضيات، ولكنه انتهز الفرصة عام 1940 ليدرس في كلية الضباط الاحتياط هناك، ويتخرج فيها ضابطًا بعد ستة أشهر، ثم ما لبث بعد ذلك أن انخرط في أعمال مقاومة مسلحة ضد الإنجليز في العراق؛ دعمًا لحكومتها الشرعية التي يقودها رشيد كيلاني، فأدى ذلك إلى أحكام بالسجن والنفي، استمرت نحو عامين، قبل أن يتدخل ملك السعودية عبد العزيز آل سعود للإفراج عنه عام 1943، فأقام هناك نحو سنتين ضيفًا على حكومتها.
وفي العام 1946 وصل إلى مصر في رحلة قيل إن هدفها المعلن هو علاج جراحه القديمة التي أثرت عليه، ولكنه في واقع الأمر لم يكتفِ بذلك، فسرعان ما كان على اتصال بالقوى المصرية والعربية المهتمّة بقضية فلسطين التي كانت تدخل منعطفًا جديدًا مع قرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة عام 1947، وهكذا أنشأ مركزًا لتدريب المجاهدين على الحدود بين مصر وليبيا، وبدأ ينظم عمليات تدريب وتسليح وتمويل المقاومة في فلسطين، وانضم إليه المتطوعون من أحزاب كمصر الفتاة وجماعة الإخوان، وحاولت الحكومة المصرية إبعاده فلم تستطع تحت الضغط الشعبي، وفي هذه المرحلة أشرف على تأسيس "جيش الجهاد المقدس" الفلسطيني، وبدأ المقاتلون ينضمون له من داخل فلسطين ومن مصر وسوريا وغيرها من الدول العربية.
الحسيني نفسه تسلل مجددًا في تلك الفترة الحرجة إلى فلسطين، وجعل من "بير زيت" مركزًا لعملياته، وأنشأ محطة إذاعة للحشد للقتال ودعم الروح المعنوية للمقاتلين، وأنشأ أيضًا محطة لاسلكية وطوّر شفرة للتواصل بين المجاهدين، ونظم فرق مخابرات لجمع المعلومات عن التحركات الصهيونية، كما أنشأ معملًا لتصنيع المتفجرات، وحقق في تلك الفترة انتصارات متتالية وأوقع خسائر مؤلمة بالعصابات الصهيونية، لكن هذا لم يكن كافيًا.
لم ينقص الحسيني الدعم الشعبي، فقد حظي بحفاوة جارفة في العالم العربي الذي يحس بالخطر الداهم، لكنْ خذله أمران: المال والخلافات بين الدول العربية، حيث لم يوفر له هؤلاء ما يحتاجه الجيش من سلاح وتمويل بعد أن طالبهم مرارًا، فكتب للجامعة العربية رسالته الأخيرة التي قال فيها: إنني ذاهب إلى القسطل، وسأقتحمها وأحتلها، حتى لو أدّى ذلك إلى موتي، والله لقد أصبح الموت أحب إليّ من هذه المعاملة التي تعاملنا بها الجامعة العربية.. أصبحت أتمنى الموت قبل أن أرى اليهود يحتلون فلسطين".
كانت القسطل هي الانتصار الأخير للحسيني قبل سقوط فلسطين، وإعلان قيام الدولة اليهودية، وشاء له الله ألا يرى ذلك اليوم، فقد سقط شهيدًا في هذه المعركة بعد أن نجح مع رجاله في تحرير القسطل بأسلحتهم البدائية، وقتلوا أكثر من 150 صهيونيًا، وذلك في الثامن من أبريل 1948، وكان عمره وقتها 40 عامًا.
في اليوم التّالي، الجمعة 9 أبريل 1948 احتشدَ عشرات الآلاف في جنازة كانت الكبرى في تاريخ فلسطين، وبحضور رسميّ كبير، ونعته الهيئةُ العربية العليا لفلسطين، فقالت: إنه البطل الذي خاض معارك الجهاد في سبيل الدفاع عن فلسطين منذ عام 1936م، ولم يخسر معركة واحدة في حياته حتى التي استشهد فيها"، وقد دفن في القدس إلى جوار والده في اللحظة نفسها التي كان الصهاينة فيها يرتكبون مذبحة "دير ياسين".
بعد شهر واحد من ذلك التاريخ، وفي الرابع عشر من مايو 1948 حلّت النكبة، وأُعلن قيام دولة الكيان الصهيوني، بعد أن سقط الرجل الذي كان حجرَ عثرة كبيرًا أمامها، ولكن هل مات، حقًا، رجل أشعل جذوة للجهاد والمقاومة لا تزال قائمة حتّى اليوم؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق