خواطر في زمن الحرب
(1)
ذكَّرتني غزَّة بحرب الشيشان!
لا أنسى ما حييت المشهد الذي رأيت حينما دخلت العاصمة غروزني؛ بنايات مدمرة عن بكرة أبيها، وكميات من الصواريخ مزروعة في الأرض، أسقطتها الطائرات الروسية ولم تنفجر، قيل لي: إنها منتهية المفعول أخرجوها من مخازنهم السوفيتية العتيقة، فسقطت وغُرزت في الأرض ولم تنفجر.
ليس هناك أبشع من سلاح الطيران، ينقضُّ عليك من السماء فجأة، لا يدعك تهرب أو تلجأ إلى مكان آمن، يُحدث الدمار والموت ويرحل في غمضة عين.
في الطريق من داغستان المجاورة إلى الشيشان حذَّروني من الطائرات المروحية، لكن لم يخبروني ماذا أفعل، قيل لي: قد يحدث معك ما قد حدث لغيرك؛ تعبر الجبل، محشورًا في سيارة رافعًا العلم الأبيض، تصل إلى مرتفعه، فإذا بطائرة روسية مروحية تستقبلك من الجهة الأخرى، وكأنها تخرج من باطن الأرض لا تنزل من السماء، يرصدك ربانها فيطلق قذائفه، ثم يضحك ويرحل.
حافلة كاملة بنسائها وأطفالها وعلمهم الأبيض وجدوها على الطريق مدمرة ومحروقة، أي وحشية تلك؟!
إنها من نفس فصيلة الوحشية التي وقعت في سوريا، وذاتها الجارية في غزَّة.
حرب غزَّة تحمل من كل حرب عاصرتُها شيئًا مُريعًا، الدمار الشامل في الشيشان، القتل الجماعي في البوسنة، الوحشية في الكونغو (زائير سابقًا)، العنف في جنوب السودان، وهلم جرا.
(2)
حرب غزَّة غير
مَن كان يتخيل أن يهتف الناس في شوارع لندن أو نيويورك لفلسطين «من النهر إلى البحر»؟ مَن كان يتصور أن يخرج تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات في الغرب تضامنًا مع قضية عربية؟ مَن كان يظن أن أساتذة جامعات وفنانين وكتَّابًا، يجاهرون بمواقفهم الداعمة لفلسطين، ويتحملون عقاب الغرب -الديمقراطي- بحرمانهم من وظائفهم وامتيازاتهم؟ مَن كان يعتقد أن يهود أوروبا وأمريكا يتضامنون بهذا الشكل مع فلسطين المحتلة ضد محتل يحمل نفس معتقدهم؟
بل مَن كان يتخيل أن فتيات ومراهقين يخرجون على المنصات يحكون تجاربهم في قراءة القرآن، بعد أن فتحت غزَّة شهيتهم للتعرف على هذا الدين الذي منح أهل غزَّة كل هذا الصبر وكل هذا الرضا؟ أسأل نفسي عما إذا بات علينا أن نتوقف عن الأحكام الجماعية، وألا نتعامل مع الغرب ككتلة واحدة، وأن نفصل بين الحكومات والمؤسسات الرسمية من جهة وبين الناس العاديين من جهة أخرى.
أليس علينا أن نستثمر هذه الحالة، ونمد الحوار «الشعبي» بيننا، متجاوزين حكوماتنا وحكوماتهم؟ أليس واجبًا علينا أن نستفيد من هذه اللحظة الاستثنائية فنجعلها دائمة، وألا نهدر الفرصة؟ فالغرب الآن غربان؛ غرب حكومي مشدود إلى مصالحه، وغرب شعبي بدأ يسمع لنا، وهو أمر عظيم، وتحول كبير.
(3)
سؤال: لماذا عندهم وليس عندنا؟
أشرح لك سؤالي:
ثمة أناس في الغرب، عندما يمرون بموقفٍ ما في حياتهم فإنهم يتوقفون ويبدأون البحث بإخلاص عن الحق، فإذا وجدوه انتصروا له، غير مهتمين بهوية الذين يدافعون عنهم ولا دينهم. وثمة أناس عندنا لا يفعلون ذلك، وإنما ينتصرون لمن يقضي على خصومهم، وينكِّل بهم، ويريهم صنوف العذاب، حتى لو كانوا على يقين أن خصومهم في هذه النقطة بالذات على حق.
لذلك وجدنا عندنا من يتمنى أن ينتصر الكيان على المقاومة، نكاية في صفتها «الإسلامية»، وهم أنفسهم ربما الذين أغمضوا عيونهم عن مذبحة في مصر؛ نكاية في ضحاياها الذين هم خصومهم. ولا أتحدث في ذلك بشأن أناس تحركهم مصالحهم، فهذا -على قبحه- مفهوم، ولكن عن أناس عاديين، لا يستفيدون شيئًا، سوى التلذذ بإيقاع الظلم على خصومهم. لماذا لا نستطيع التفريق بين رفضنا المشروع لأفكار حركة ما، وبين وجوب الدفاع عنها إذا تعرضت لظلم، أو إذا دافعت عن حق؟! لماذا عندنا أناس لا يستطيعون ذلك وعندهم أناس يفعلون ذلك؟!
(4)
غزَّة أعادت ذاكرتنا إلى الوراء قرونًا!
الأبطال الذين كنَّا نسمع قصصهم في التاريخ، ولم نكن نتصور إمكانية أن يكونوا نماذج حقيقية، أو أن هناك من البشر من بوسعه أن يقوم بهذه البطولات، رأيناهم في مقاطع مصورة حقيقية وليست خيالاً ولا تمثيلاً.
المنافقون، المرجفون، الذين كان يصعب تصور أشكالهم وهيئاتهم وكيف يجرأون على أن يقولوا ما يقولونه أو أن يفعلوا ما فعلوه وهم منَّا، وجدناهم جيرانًا لنا، ونجومًا في الإعلام، بل ومؤسسات إعلامية كاملة.
المكابرون الذين ما كنَّا نتصور أن ينصتوا ولو لآية، إذا بهم يدخلون في الإسلام بعواطف جارفة!
وأخيرا..
نعم.. جيفارا مات، لكنه بُعث من جديد في شكل بلد كامل اسمه فلسطين، والذين كانوا يحملون صوره رمزًا للحرية وعداء للمستعمرين، باتوا يحملون أعلام فلسطين، ويتباهون بها!
المقاومة غيرت كل شيء.
إلا عقول الذين لا يريدون أن يفهموا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق