الدرة
(( إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ، إِنْ سَاحَ طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ ))
الامام الشافعي
الأحد، 10 ديسمبر 2023
نظرة في أحاديث الفتن
نظرة في أحاديث الفتن
د. سلمان بن فهد العودة
ما المقصود بالفتن؟
بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الإخوة! موضوع هذه الليلة في غاية الأهمية، وسوف أتناوله في عدة نقاط، أولها: ما هي الفتن، وما هو المقصود بها؟
معنى الفتنة في اللغة
فأقول: الفتن مأخوذة من فَتَنَ الذهب، إذا وضعه في النار، وأوقد عليه حتى يتميز الذهب الصحيح من الذهب المغشوش، هذا أصل معنى الفتن. وللفتن في القرآن الكريم والسنة النبوية معانٍ منها: العذاب، فيقال: الفتنة بمعنى العذاب، كما في قوله تعالى: (( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ))[الذاريات:13-14]، (ذوقوا فتنتكم) يعني: ذوقوا عذابكم. ومن معاني الفتنة أيضاً: صرف الإنسان عن دينه، سواء كان هذا الصرف بالقوة والشدة والبطش، أو كان بالشبهات والشهوات والترغيب ونحوها، وهذا كثير في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: (( وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ))[البقرة:217]، وكما في قوله: (( إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا ))[البروج:10]، وكما في قوله: (( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ))[النساء:101]، وكما في قوله عز وجل: (( فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ ))[يونس:83]، (أن يفتنهم) يعني: يصرفهم عن دينهم، (( وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ))[الإسراء:73]، يمعني: يصرفونك عنه إلى غيره، (( وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ))[المائدة:49]، يعني: يصرفونك عن الدين والقرآن والوحي إلى شيء آخر غيره. ومن معاني الفتنة: الزيغ والضلال والانحراف، سواء كان ذلك بالكفر والشرك، أو بالمعصية مما دون الكفر والشرك، كما في قوله عز وجل: (( وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ ))[الحديد:14]، (فتنتم أنفسكم) يعني: أضللتموها، وكما في قوله: (( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ ))[آل عمران:7] ابتغاء الضلال، ابتغاء الانحراف، وكما في قوله: (( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ ))[النور:63]، يعني: زيغ فيهلكون، كما قال الإمام أحمد: [ لعله إن رد بعض قوله]- يعني: قول النبي صلى الله عليه وسلم- [أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ]. وأخيراً: فإن من معاني الفتنة: الابتلاء، والاختبار، والامتحان، كما في قوله عز وجل: (( وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ))[العنكبوت:3]، أي: اختبرناهم وبلوناهم، (( وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ))[الأنعام:53]، يعني: ابتلينا بعضهم ببعض، وكل هذا من معاني الفتنة.
معنى الفتنة في الاصطلاح
ومعناها في الاصطلاح -غالباً-: أن الفتنة تطلق على ما يقع في الأمة، ويعرض لها من آثار الشهوات والشبهات من الخلاف والقتال، فكل خلاف بين الأمة أو قتال، هو إما بسبب شهوة، يعني: إنسان يتسلط يريد العلو في الأرض ويريد الفساد. أو بسبب شبهة عرضت له فرأى فيها الحق باطلاً أو رأى الباطل حقاً، فيقع نتيجة ذلك اختلاف وتنازع وتطاحن، هذا الخلاف والتنازع والتطاحن والقتال يسمى: فتنة.
اهتمام العلماء بأحاديث الفتن
النقطة الثانية: اهتمام العلماء بأحاديث الفتن، والعلماء وعلى رأسهم الصحابة رضي الله عنهم، وقد اهتموا بأحاديث الفتن اهتماماً كبيراً، وإن لم تشغلهم عن ما هو أهم منها كما سيأتي، لكن من اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بأحاديث الفتن، ما رواه الشيخان عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: ( كان الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني ). عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه فـحذيفة رضي الله عنه، عرف الشر، لا للشر، لكن ليتقيه ويحذر منه، ولذلك كان حذيفة أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخبير بالمنافقين، وأحوالهم، وأسمائهم، وأوصافهم، وكذلك كان العالم بالفتن، ولذلك جاء في الصحيحين أيضاً: ( أن عمر بن الخطاب، قال يوماً لبعض الصحابة: أيكم يذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ فقال حذيفة رضي الله عنه: أنا أحفظه، قال: إنك عليه لجريء، اذكر لنا، فقال حذيفة رضي الله عنه: فتنة الرجل في أهله وماله تكفرها الصلاة والصوم والحج والصدقة، فقال عمر رضي الله عنه: ليس عن هذا أسألك، إنما أسألك عن الفتنة التي تموج كموج البحر، فقال: ما لك وما لها يا أمير المؤمنين! إن بينك وبينها باباً مغلقاً، بعيد أنت عنها، فقال له عمر رضي الله عنه: أيفتح هذا الباب المغلق أم يكسر؟ قال حذيفة: بل يكسر، قال: هذا حري ألا يغلق أبداً )، ما دام أن الباب يكسر معناه أنه لا يغلق بعد ذلك أبداً، قال بعض الرواة: [ فهبنا أن نسأل حذيفة مَنِ الباب، فأمرنا مسروقاً]- ومسروق هو أحد التابعين، وهو ابن الأجدع- [فجاء إلى حذيفة وسأله فقال له: من الباب؟ قال: عمر رضي الله عنه، هذا هو الباب الذي يحول دون الفتن، فقتله هو كسر الباب، فقال: هل كان عمر يدري أنه هو الباب؟ قال: نعم يدري، إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط ]، يقول حذيفة: أنا أخبرته بهذا، وأخبرته أنه هو الباب الذي يحول بين الأمة وبين الفتن. (إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط) إذاً: الصحابة رضي الله عنهم كان من بينهم من يهتم بأخبار الفتن وأحوالها، ويتتبعها ويسأل عنها ليحذرها ويحذر الناس منها، ثم جاء بعد ذلك العلماء فصنفوا الكتب، كما فعل البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم، فكانوا إذا ألفوا وجمعوا أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: كتاب الفتن، أو كتاب الملاحم وأشراط الساعة، ثم يذكرون بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الواردة في الفتن. ثم جاء علماء آخرون، فألفوا وصنفوا كتباً خاصة، كل الكتاب من أوله إلى آخره يدور حول أحاديث الفتن، وقد صنف في أحاديث الفتن جماعة كثيرة من أهل العلم، منهم: نعيم بن حماد، له كتاب مخطوط اسمه: الفتن والملاحم، ومنهم: حنبل بن إسحاق الشيباني، له كتاب اسمه: الفتن، وهو مخطوط أيضاً، ولا أدري أهو موجود أيضاً أم لا. ومنهم أيضاً: أبو عمرو الداني، صنف كتاباً سماه: السنن الواردة في الفتن، وهو مخطوط. ومنهم: أبو الغنائم الكوفي، صنف كتابا سماه: الفتن. ومنهم: الحافظ ابن كثير، له كتاب: النهاية في الفتن والملاحم، وقد يسميه بعض الناس: الفتن والملاحم، ومن هؤلاء كتاب: الملاحم لـأبي الحسين بن المنادي، وهناك الكتب الواردة في أشراط الساعة، مثل: الإذاعة فيما كان وما يكون بين يدي الساعة لـصديق حسن خان، وكتاب: الإشاعة لأشراط الساعةللـبرزنجي، وهناك كتب خاصة في أنواع معينة من الفتن. فمثلاً: الدجال، هناك كتب خاصة في أحاديث الدجال، ككتاب التصريح لما تواتر في نـزول المسيح، وهناك كتب خاصة في عيسى بن مريم عليه السلام، وهناك كتب خاصة في المهدي، قديمة وجديدة، هذه الكتب من كتب الملاحم، ويذكرون فيها كثيراً من كتب الفتن. ومن الكتب المعاصرة -وهى كثيرة- كتاب: إتحاف الجماعة في أحاديث الفتن وأشراط الساعة، للشيخ حمود بن عبد الله التويجري، وهو كتاب ضخم جامع حافل، جمع فيه كثيراً من الأحاديث الواردة في ذلك، وهناك كتاب جديد اسمه: مجموعة أخبار آخر الزمان وأشراط الساعة للشيخ عبد الله بن سليمان المشعلي، من علماء هذا البلد، وهناك كتاب: أشراط الساعة لـيوسف الوابل، وهو رسالة ماجستير في أم القرى، قسم العقيدة في كلية الشريعة عام (1404هـ)، إلى غير ذلك من الكتب الكثيرة جداً في الفتن والملاحم وأحاديثها.
أماكن الفتن
النقطة الثالثة: أماكن الفتن. وأماكن الفتن تقل وتكثر، فليس هناك مكان في الدنيا معصوم من الفتن كلها، قد يعصم مكان ما من بعض الفتن، كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر مثلاً: ( أن الدجال لا يدخل مكة، ولا المدينة، على كل بلد منهما وأنقابهما ملائكة يحرسونهما، لكن يتزلزل البلد ويرجف ثلاث رجفات، فيخرج إلى الدجال كل منافق ومنافقة )، فهذه البلاد معصومة عن الدجال، لكنها ليست معصومة عن الفتن الأخرى، فالفتن كثيرة.
بلاد المشرق من أماكن الفتن
ومن أهم أماكن الفتن التي تكثر الفتن فيها وتخرج الفتن منها بلاد المشرق، وقد ثبت في هذا أحاديث، من أشهرها وأصحها: ما رواه البخاري، ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو مستقبل المشرق -جهة المشرق بالنسبة للمدينة المنورة-: ( ألا إن الفتنة هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان، ويشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى جهة المشرق )، والمقصود بالمشرق: بادية العراق ونواحيها وما وراءها أيضاً، حتى بلاد فارس تدخل في ذلك، ولذلك كان المتقدمون يسمونها: عراق العجم، باعتبار أنها مرتبطة بها ومتصلة . وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى تلك البلاد: (نجداً) بلاد المشرق، وهى بادية العراق، وما حولها، سماها النبي صلى الله عليه وسلم (نجداً) وذلك لارتفاعها، و النجد هو: كل ما علا وارتفع، تقول: أنجد فلان؛ أي: ارتفع، وكذلك أتهم، يعني: دخل في تهامة ، وهكذا، فالنجد هو: المرتفع، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم بلاد العراق (نجداً) ، كما في قوله في الحديث الآخر، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، الذي رواه البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا، قالوا: وفي نجدنا يا رسول الله! قال: اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا، قالوا: وفي نجدنا يا رسول الله! قال في الثانية، أو في الثالثة: هناك الزلازل والفتن، حيث يطلع قرن الشيطان )، قال الإمام الخطابي رحمه الله: نجد من جهة المشرق، ومن كان بـالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها، فصرح الإمام الخطابي بأن المقصود بـنجد: جهة المشرق، وهى بادية العراق ونواحيها.
أماكن الفتن عبر التأريخ
وهذا هو الذي حدث فعلاً، فإنك لو قرأت التأريخ لوجدت كثيراً من الفتن التي ألمت بالمسلمين خرجت من العراق، خذوا على سبيل المثال الفتن الاعتقادية التي عصفت بالأمة ومزقت وحدتها وخربت عقول الناس، من أين خرجت؟ خرجت من الكوفة، والبصرة، وما حولهما. فمثلاً: الرافضة نشئوا في العراق، وكان لهم فيها هيمنة وسيطرة وعلو وفساد في أزمنة كثيرة، وإلى يومنا هذا وهم يشكلون كثرة فيها. مثلاً: المعتزلة الذين ألّهُوا العقل وحكّموه وعبثوا بالنصوص وخربوا عقول الأمة، وعبثوا بها أيضاً، خرجوا من البصرة وما حولها. وكذلك الخوارج أين كان ظهورهم وانتشارهم؟ من العراق، ولذلك [ لما جاءت المرأة إلى عائشة رضي الله عنها، وقالت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت لها عائشة: أحرورية أنت؟ ]، يعني: من أهل حروراء، وحروراء بلد في العراق، نشأ فيه الخوارج، وتغلبوا عليه وانتشروا فيما حوله. إذاً: الخوارج، والرافضة، والمعتزلة، وغيرهم من الفرق الضالة إنما خرجت من العراق، وانتشرت منه إلى أنحاء بلاد الإسلام، وهؤلاء أصحاب الفتن الاعتقادية -باستثناء المعتزلة- كان لهم وجود عسكري وقوة، فكانوا يقاتلون، مثلاً: الخوارج أقلقوا الخلافة الإسلامية زماناً طويلاً، وكان لهم دول في بلاد المغرب وما حولها، وأزعجوا المسلمين أيما إزعاج، وكانوا أهل بأس ونجدة وشدة وقوة، وتأريخهم معروف. أقول لها وقد طارت شعاعاً من الأبطال ويحك لن تراعي فإنك لو سألت بقاء يوم على الأجل الذي لك لم تطاعي فصبراً في مجال الموت صبراً فما نيل الخلود بمستطاعِ ويقول آخر منهم:
فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخضر المطارف
ولكن أَحِن يومي سعيداً بعصبة يصابون في فج من الأرض خائف عصائب من شيبان ألف بينهم تقى الله نزالون عند التزاحف إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف فـالخوارج كانوا أهل قوة وشجاعة وبأس ونجدة، وكان ظهورهم من العراق، وأقلقوا راحة المسلمين إقلاقاً عظيماً، فكلما تجمع عشرة منهم قاموا بثورة ضد الخلافة وحاربوا الجيوش، وقد ينتصرون على أضعافهم بما تميزوا به من القوة والشدة، وهذا معروف من شأنهم.
فتنة قتل الحسين
إضافة إلى أنه خرج من جهة العراق أو انساح إلى بلاد الإسلام من جهة العراق فتن كثيرة، لعل من أولها قضية الحسين رضي الله عنه، ورحمه الله، فإن أهل العراق كاتبوا الحسين أن يخرج إليهم، وكتبوا إليه الرسائل، قالوا له: تعال، فعندنا القوة والنجدة والبأس والشجاعة، نحن مستعدون أن نحميك ونقتل دونك، فقال له عبد الله بن عمر: دع هؤلاء لا تذهب إليهم، يابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تخرج إلى هؤلاء، فأصرَّ أن يخرج، فلما رآه عبد الله بن عمر مصرًّا خرج معه إلى أطراف المدينة، ثم ضمه إليه وبكى، وقال: أستودعك الله من قتيل. وهكذا كان، فإن أهل العراق لما جاءهم الحسين رضي الله عنه تخلوا عنه، وخذلوه في كربلاء، حتى قتل شهيداً رضي الله عنه، و( تحقق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حين نام مرة ثم استيقظ وهو يبكي، فقالت له أم سلمة: يا رسول الله! ما يبكيك؟ قال: >أُريت مقتل ابني هذا -وكان عنده فأشار إليه- وأُتيت بتربة من تربته حمراء ). أترجو أمة قتلت حسيناً شفاعة جده يوم الحساب فقتلوا حسيناً رضي الله عنه، والغريب في الأمر أنهم بعدما قتلوه صاروا يقيمون المآتم في مثل ذلك اليوم حزناً على قتله، ويضربون وجوههم وجنوبهم وظهورهم -هذا ما فعلتم بأنفسكم- المهم أنهم تسببوا في قتل الحسين رضي الله عنه، وتخلوا عنه وخذلوه أيما خذلان. ولذلك لما جاءوا إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنه يسألونه عن قتل البعوضة بالنسبة للمحرم، هناك مانع أن المحرم يقتل البعوضة؟ قال: قاتلكم الله يا أهل العراق، ما أجرأكم على الكبيرة وأسألكم عن الصغيرة! تقتلون ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسألون عن البعوضة! الذي قتل الحسين لا يحتاج أن يسأل عن البعوضة.
خروج هولاكو من جهة الشرق
فبلاد المشرق هي من مواطن الفتن، وقد ظهر منها مثل هذه الفتنة كما ظهرت فتن عظيمة، مثلاً: هولاكو جاء من جهة المشرق ومن تلك البوادي، وكانوا قوماً متوحشين التتار، فانساحوا إلى بلاد الإسلام، وهتكوا الأعراض، وأتوا على الحرث والنسل، والأخضر واليابس، وأسقطوا دولة الخلافة، وعاثوا في الأرض فساداً، وكانوا من أعظم الفتن التي مرت بالمسلمين.
الحرب بين العراق وإيران وحرب الخليج
ومن فتنهم المتأخرة تلك الحرب التي دمرت الأخضر واليابس، القتال بين العراق وإيران والتي استمرت ثمان سنوات، وذهب من قتلاها مئات الألوف، فضلاً عن الأموال الكثيرة التي ذهبت بسببها، هذا يدل على ما جبل عليه أهل تلك البلاد من البطش، والشدة، والعنف، والحب للحروب، وإثارة الفتن. وكذلك هذه الفتنة التي يعيشها المسلمون اليوم فإنها جاءت من قبل تلك البلاد. فما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم واقع لا محالة، وأقل البلاد فتناً وأكثرها اطمئناناً وأبعدها عن القتل والقتال وسفك الدماء، تلك المواطن التي أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها من مواطن الإسلام، وذلك كـبلاد الشام وبلاد اليمن والجزيرة العربية بشكل عام وخاصة أرض الحجاز، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن هذه المواطن أنها من الأماكن التي يفيء إليها الإسلام ويرجع إليها، وحين تتحقق الغربة يكون الإسلام في مجمله ومعظمه في تلك البلاد، وهذه ليست قاعدة مطردة، فقد يكون بلد من هذه البلاد يوماً من الأيام تغلب عليه أهل الشر والفساد وحكموه، كما حكمت النصيرية، وكما حكمت الشيوعية، وكما حكمت أديان وملل ومذاهب، لكن العبرة بالغالب، فلا يشكل على الإنسان أمام حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوجد وقت من الأوقات حكم فيه بعض هذه البلاد قوم غير مؤمنين، أو حكمت بغير ما أنـزل الله عز وجل، فالعبرة بغالب الأحوال.
أزمنة الفتن
النقطة الرابعة: أزمنة الفتنة. والفتنة قد تكثر في زمان، وتقل في زمان، أما بدايات النقص وظهور الفتن قديمة جداً.
موت النبي صلى الله عليه وسلم
والرسول صلى الله عليه وآله وسلم لما ذكر الفتن قال: ( اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي )، فاعتبر النبي صلى الله عليه وسلم أن موته هو من بدايات الفتن، فموت النبي صلى الله عليه وسلم كان من أشراط الساعة، ولذلك كان أول خلاف حدث بين المسلمين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بساعات، وهو الخلاف فيمن يكون أجدر بالخلافة والحكم، حتى استتب أمرهم واستقر لقوة إيمانهم، وصدقهم، ويقينهم، وبعدهم عن المطامع الدنيوية، سرعان ما انحل هذا الخلاف واتفقوا على أبي بكر رضي الله عنه فبايعوه أجمعون، ولم يختلف عليه منهم اثنان، لكن حصل بينهم في سقيفة بني ساعدة كلام وحديث ومجادلات فيمن هو أجدر بالخلافة.
مقتل عمر رضي الله عنه
بعد ذلك مقتل عمر رضي الله عنه، مقتل عمر هو من بدايات النقص أيضاً، وقد سبق أن ذكرت حديث حذيفة رضي الله عنه والذي ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن عمر هو الباب الذي إذا انكسر طلعت فتن جديدة على المسلمين.
انتهاء عهد الخلفاء الراشدين
انتهاء عهد الخلفاء الراشدين هو من بدايات النقص أيضاً، كما جاء في سنن أبي داود، وابن ماجه، ومسند الإمام أحمد، عن سفينة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء )، فأشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن انتهاء عهد الخلفاء الراشدين هو من بدايات النقص أيضاً. وفي الحديث الرابع أو الخامس حديث جابر بن سمرة وهو في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يزال هذا الدين قائماً إلى اثني عشر خليفة، ثم قال كلمة خفية: فسألوا عنها، فقال: كلهم من قريش )، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يمتد أمر الإسلام وقيامه ودوران رحاه إلى اثني عشر خليفة ثم بعد ذلك يبدأ النقص.
انتهاء عهد القرون المفضلة
نقص آخر أيضاً: انتهاء القرون المفضلة، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرون الأولى فاضلة، كما في حديث عمران بن حصين، وابن مسعود، وحديثه في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خير القرون قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم )، قال عمران: فلا أدري ذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك مجيء أقوام ( يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويظهر فيهم السمن )، يشتغلون بالدنيا والترف والمال حتى تكبر بطونهم وتكثر شحومهم، ويشتغلون بالدنيا عن الآخرة. فالمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن انتهاء القرون الفاضلة يعتبر من بدايات النقص التي تلم بالمسلمين، ومع هذا كله فإن الخير في الأمة كثير وسوف أشير إلى شيء من ذلك فيما يأتي.
بين الشرع والقدر
النقطة الخامسة: وهي وقفه مهمة مع أحاديث الفتن اخترت أن أضع لها عنوان (بين الشرع والقدر) هل نحن متعبدون بالعمل بالشرع أم متعبدون بالعمل بالقدر؟ أيهما الذي تُعبِّدنا بالعمل به؟ تعبدنا بالعمل بالشرع لا بالعمل بالقدر، فقد نجد شيئاً نهى الله تعالى عنه في كتابه ونهى عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومع ذلك أخبر الله تعالى أو أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا الأمر سيقع، فنحن لا علاقة لنا بكونه سيقع أو لن يقع، إنما علاقتنا أن نحمي أنفسنا من هذا الأمر ونجاهد وننهى غيرنا عنه، أما وقوعه أو عدم وقوعه فهو أمر إلى الله عز وجل.
وقوع الشرك في هذه الأمة آخر الزمان
ولعل من أبرز وأظهر الأمثلة: قضية الشرك، النصوص القرآنية والنبوية الواردة في النهى عن الشرك لا أظنها تحتاج إلى ذكر أو بيان؛ لأن الشرك هو أكبر الكبائر وأعظم الذنوب: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، ولذلك فإن معظم ما ورد من النصوص القرآنية والنبوية كانت في التحذير من الشرك بألوانه وأنواعه، سواء الشرك في الربوبية، أو الشرك في الألوهية، أو الشرك في الأسماء والصفات، أو الشرك الظاهر أو الخفي، إلى غير ذلك، فالشرك هو أعظم الذنوب على الإطلاق، وقد نهى الله ورسوله عنه أيما نهي، ومع ذلك أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الشرك سيقع، بل أخبر عليه الصلاة والسلام: أن الشرك سيقع حتى من المنتسبين للإسلام، بل حتى في جزيرة العرب، وخذ على سبيل المثال هذين الحديثين: الحديث الأول: ما رواه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس حول ذي الخُلَصة )، ذو الخلصة: صنم كانوا يعبدونه يسمى ذا الخلصة، وقد حطمه النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر مع ذلك أن الساعة لن تقوم حتى تأتي نساء دوس، يعني: قبائل من قبائل العرب في الحجاز، فتضطرب إلياتهن، ويدرن ويتحركن ويذهبن إلى ذي الخلصة، يعني: يعبد من دون الله عز وجل. فأخبر عليه الصلاة والسلام أنه في آخر الزمان تعبد الأصنام هذه في كل مكان، إذا كانت عبدت في هذه الجزيرة، فمن باب أولى أن تعبد في غيرها من بلاد الدنيا. مثل آخر: حديث ثوبان، وفي آخره قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان )، يعبدون الأوثان، سواء كانت أوثاناً حسية كاللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، أو أوثاناً معنوية مثل: عبادة الطاغوت، والقانون والحكم بغير ما أنـزل الله؛ هذه عبادة الوثن، أو عبادة البشر مثل: أن تطيعهم في معصية الله عز وجل، تطيع فلاناً لأنه عالم أو حاكم أو غير ذلك، وأنت تعرف في قرارة نفسك وبعلمك أن هذا الأمر الذي أطعته فيه هو في معصية الله عز وجل، فهذه من العبادة. أمتي كم صنم مجدته لم يكن يحمل طهر الصنم فاحبسي الشكوى فلولاك لما كان في الحكم عبيد الدرهم إذاً: قد يحدث أن يخبرنا الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم بأن أمراً من الأمور سيقع، ومع ذلك فهذا الأمر منهي عنه، فنقول: نحن متعبدون بأمر الله ونهيه عن هذا الأمر، أما كونه سيقع أو لا يقع هذا لا حيلة لنا فيه.
التشبه بالكفار
مثل آخر يتعلق بأحاديث الفتن: موضوع التشبه بالكفار، فالنهي عن التشبه بالكفار ورد فيه أيضاً آيات وأحاديث كثيرة، منها قوله عز وجل: (( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ))[الحديد:16] فنهى عن التشبه بـاليهود والنصارى. وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود، وأحمد، وغيرهما بسند جيد، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ومن تشبه بقوم فهو منهم )، فـ التشبه بالمشركين لا يجوز مطلقاً، سواء اليهود، أو النصارى، أو عبدة الأوثان، أو غيرهم، التشبه بهم لا يجوز فيما هو من خصائصهم سواء في أعمالهم، أو في أمور السياسة، أو في أمور الاقتصاد، أو في أمور السلوك، أو في الأخلاق، أو في الأفكار، لا يجوز التشبه بهم بحال من الأحوال، ومع ذلك فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن التشبه سيقع، فقال عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي سعيد المتفق عليه، ومثله حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه )، فجحر الضب لا يوجد أضيق منه، ومع ذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام لو حصل أن اليهود والنصارى دخلوا جحر ضب، فإنكم ستحاولون أن تدخلوا جحر الضب وراء اليهود والنصارى! ( قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ )، يعني: ليس هناك إلا هم: اليهود والنصارى، وفي الحديث الآخر: ( لتأخذن أمتي مأخذ القرون قبلها، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى إنه لو كان فيهم من يأتي أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك )، الله أكبر! نسأل الله العفو والعافية، إن الإنسان يستحي أن يتحدث بهذا أمام الناس، فضلاً عن أن يأتي زوجته، فكيف بمحرمه؟ فكيف بأمه والعياذ بالله؟! لو وجد في الأمم الأخرى من يصنع ذلك لوجد في هذه الأمة من يصنع ذلك، ( قالوا: يا رسول الله! فارس والروم؟ قال: من القوم إلا أولئك ). إذاً: اليهود، والنصارى، والروم، وفارس، وغيرهم من الأمم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هناك نوعاً من التشبه سوف يقع، فلا تعارض، نقول: ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم سيقع، لكن نحن مطالبون ومتعبدون بأن ننهى عن التشبه، نمتنع منه في نفوسنا، نمنع منه أولادنا وزوجاتنا وأهل بيتنا ومن نملك، نحذر الناس من هذا الأمر، نؤلف الكتب، ونلقي المحاضرات، ونتكلم عن هذا الأمر، ونبين للناس خطورته، ثم لا يضيرنا بعد ذلك أن يكون من هذه الأمة من لا يسمع لنا، لا يضيرنا بعد ذلك أن يكون في هذه الأمة أصحاب الفكر المستغرب، من الذين تربوا على موائد الشرق والغرب، وأعجبوا بالمفكرين الغربيين من اليهود والنصارى فحذوا حذوهم وساروا على نهجهم، وصاروا يعظمونهم ويعتبرون أن هؤلاء هم المفكرون الحقيقيون، وأن الحياة تفهم من خلال أفكارهم، لا يضيرنا بعد ذلك أن يوجد من أعجب بالأدباء والشعراء الغربيين، وليس المقصود مجرد الإعجاب بأدبهم وشعرهم بل الإعجاب بشخصياتهم وحياتهم، فصار يحاول أن يعيش وفق ما عاشوا حتى لو كانوا يعيشون في تعاسة وشقاء لأعجبه أن يعيش في هذه التعاسة والشقاء، مصداقاً لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: ( حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ). فإذا كان الغرب يعيش في شقاء وجحيم، ونسب الانتحار والتدمير نسب مرتفعة، أعجب كثيراً من المنتسبين إلى الإسلام ممن تربوا على موائد الغرب أن ينقلوا إلينا تعاسة هؤلاء الغربيين، ويحاولوا أن يدخلوها في هذه الأمة، لا يضيرنا بعد ذلك أن يوجد في الأمة من ينقل القوانين الغربية، ويحكمها في دماء المسلمين، أو أموالهم، أو أبشارهم، أو أخلاقهم، لا يضيرنا ذلك ما دمنا قمنا بما يجب علينا من التحذير من ذلك، والنهي عنه، وبذل ما نستطيع في منعه، وقمنا فيما يتعلق بأشخاصنا ومن نملك بالمنع من هذا الأمر، فإن الإنسان متعبد بالشرع واتباعه لا باتباع القدر. ولا يقعد هذا الأمر من هممنا، فإننا نعلم أن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس عاماً، لم يخبر أن الأمة كلها سوف تتبع اليهود والنصارى، بل أخبر أن من الأمة من يفعل ذلك، فئام من أمته، طوائف من أمته، ومعنى ذلك: أنه لا يزال في هذه الأمة فئام وطوائف أخرى كثيرةبقيت على الدين الصحيح، ولم تقبل لا ما كان عند اليهود، ولا ما كان عند النصارى ولا فارس والروم ولا غيرها، بل رضيت بمنهج الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
قتال اليهود
مثل آخر: قتال اليهود، لقد أخبرتكم في الدرس الماضي (المستقبل للإسلام) ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة: ( أن المسلمين سيقاتلون اليهود، حتى يختبئ اليهودي وراء الشجر والحجر، ويقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبدالله! اليهودي ورائي تعالَ فاقتله، إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود)، وبالمناسبة فإنني ذكرت لكم حديث (أنتم على نهر الأردن) وذكرت أنه لم يتيسر لي الوقوف عليه، وأبشركم- بحمد لله- أنني وقفت على هذا الحديث في بعض المصادر المعتمدة، وهو حديث يستحق العجب، فقد روى البزار بسند حسن، والطبراني، وابن منده في كتاب: معرفة الصحابة، وذكره الهيثمي في: مجمع الزوائد: (7/346)، وقال: رجال البزار ثقات، عن نهيك بن صريم السكوني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لتقاتلن المشركين حتى يقاتل بقيتكم الدجال، على نهر الأردن أنتم شرقيه وهم غربيه )، سبحان الله! صدق الله ورسوله، هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، يقول الراوي: ( ولا أدري أين الأردن يومئذ ). إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أننا سوف نقاتل المشركين -واليهود من المشركين- على نهر الأردن نحن على شرقيه وهم على غربيه، حتى إن آخرنا وبقيتنا يقاتلون المسيح الدجال، وذلك فيما بعد، والراوي يقول: أنقل الحديث وأنا يومئذٍ لا أدري أين يكون الأردن، لكن أنقل ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فيا سبحان الله! انظر: الآن اليهود يتجمعون لتحقيق موعود رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يثلج صدر كل مؤمن بحيث يقطع قطعاً جازماً لا شك فيه ولا ريب في تحقيق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن لنا مع اليهود جولة قادمة منتصرة، فنقول: يا معشر اليهود! اصنعوا ما بدا لكم، وألّبوا واجمعوا وتنادوا واصنعوا، فإن جيش محمد صلى الله عليه وسلم سوف يعود. وهذا الحديث الذي ذكرته فقط للتنبيه، لكن قصدي موضوع قتال المسلمين لليهود، الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، حين نعلم بهذا الحديث، هل يسرنا -مثلاً- أن اليهود احتلوا فلسطين وما حولها، ونقول: ما دام أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام جيد، الآن سنقاتلهم؟ أبداً لا يسرنا ذلك، أي مسلم يسر بأن تقع البلاد التي بارك الله حولها في أيدي اليهود؟! أيُّ مسلم يسره ذلك؟!
على منابت تاريخ وأرض هدى من الرسالات ذات الجذر والسمق
على الخليل وكم ضاءت منائرها في المسجد الحرم الأقصى من اليقق
على منابت قدس المجد باركها وحولها الله وهي اليوم في الربق
مسرى الرسول وأولى القبلتين بها وا حر قلباه ماذا للفخار بقي
عيناي عيناي ويل الهول صورته في أدمعي حيثما يممت من أفق
مالي أرى الصخرة الشماء من كمد تذوي وعهدي بها مرفوعة العنق
ومنبر المسجد الأقصى يئن أسى قد كان يحبو الدنا من طهره الغدق
واليوم دنسه فجر ألم به من غدر شعب اليهود الداعر الفسق
وللعذارى العذارى المسلمات على أعواده رنة الموفي على الغرق
لو استطاع لألقى نفسه حُمماً صوناً لهن ودك الأرض في حنق
يا نائمين انظروا فالله من أزل أرسى نواميسه في الخلق كالفلق
هم حاربونا برأي واحد عددٌ قِلٌ ولكن مضاء ثابت النسق
يحدوهم أمل يمضي به عمل ونحن وا سوأتا في ظلمة الحمق
زاغت عقائدنا حارت قواعدنا أما الرءوس فرأي غير متفق
البعض يحسب أن الحرب جعجعة والبعض في غفلة والبعض في نفق
إذاً: لا يوجد مسلم يسره أن ينتصر اليهود أو يحتلوا فلسطين؛ ليتحقق موعود رسول الله صلى الله عليه وسلم. طيب، هل يسرك أن تقرأ في الصحف اليوم أن مئات الألوف من اليهود يهاجرون من الاتحاد السوفيتي إلى إسرائيل، وتقول: الحمد لله هم يتجمعون حتى نقتلهم؟ كلا، لا يسر المسلم بذلك. هل يسرك ما تقرأ في الأخبار والصحف والتقارير من التقنية الهائلة، والتقدم العلمي، والقوة الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية والحضارية التي تتميز بها هذه الدولة، التي هي شوكة في جسم الأمة؟! كلا والله، فإن كل مسلم يسوءه ذلك ولا يسره. لكن إذا حزن لذلك واغتم له وامتلأ قلبه غيظاً وهماً وكمداً، حتى كاد الأمر أن يئول به إلى اليأس، قلنا له: لا تيأس (( إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ ))[يوسف:87]، هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر أنهم وإن فعلوا ما فعلوا إلا أن لنا معهم جولة نحن فيها المنتصرون بإذن الله عز وجل، وهذا ما قاله لك رسول الله عليه الصلاة والسلام. إذاً: نحن متعبدون بكراهية هذه الأعمال كلها، كراهية تجمع اليهود، الله تعالى يكرهه فنحن نكرهه أيضاً، وهذا الذي تُعبّدنا به، هذا هو الشرع، نحن متعبدون بالحزن لهذا الأمر، ومتعبدون بكراهية القوة التي يملكون، كراهية مجيئهم من أقاصي الدنيا إلى فلسطين، كل ذلك نحن نكرهه، ونحن متعبدون بذلك، بل نحن متعبدون بالحزن، فإن الحزن الذي تحزنه إذا سمعت بأخبار اليهود وتقدمهم وتجمعهم من كل مكان، هذا حزن محمود تؤجر عليه بإذن الله عز وجل. ولو كان لك قوة أو تأوي إلى ركن شديد، لكان يجب عليك أن تبذل ما في وسعك لمنع هذا الأمر، فلو أننا نحن المسلمين نملك قوة إعلامية، أو قوة اقتصادية، أو قوة سياسية، أو قوة عسكرية نستطيع بها أن نمنع مجيء اليهود من الاتحاد السوفيتي، أو من بلاد أوروبا إلى فلسطين، لكان يجب علينا أن نستخدم هذه القوة الإعلامية، أو الاقتصادية، أو غيرها في منعهم. إذاً: كان يجب أن نبذل ما نستطيع في ذلك، لكن إذا لم نستطع نقول لهم: لا بأس، انتظروا، هناك يوم قادم سوف يفصل الله تعالى بيننا وبينكم، وهو خير الفاصلين.
افتراق الأمة
أيضاً من أحاديث الفتن: الأحاديث التي أخبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بافتراق الأمة، قد أخبر عليه الصلاة والسلام: ( أن هذه الأمة سوف تفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة )، هذا حديث صحيح، روي عن أكثر من ستة عشر صحابياً، أن هذه الأمة سوف تفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة ( كلها في النار إلا واحدة )، هذا خبر أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وهي من الفتن، لكن في المقابل عندنا شرع، ما هذا الشرع؟ الشرع أن الله عز وجل يقول: (( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ))[آل عمران:103] ، إذاً: الله أمرنا بالوحدة والاعتصام بحبله وعدم الافتراق، ويقول عز وجل: (( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ))[الأنعام:159]، ويقول عز وجل: (( مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ))[الروم:31-32]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثاً ومنها: أن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ). إذاً: القرآن والسنة- الشرع- يأمرنا بالتوحيد والوحدة، وأن نجتمع على كلمة الله عز وجل، فيجب أن نسعى إلى الوحدة بين المؤمنين، وتوحيد الكلمة، وجمع الصف على الكتاب والسنة والعقيدة الصحيحة، وأن نبذل جهدنا في هذا بقدر ما نستطيع، ومع ذلك فعندنا يقين وقناعة راسخة أنه مع جهدنا وتضحيتنا وبذل ما نستطيع مع ذلك كله، فإننا نعلم أن ما نبذله له ثمرة طيبة، ولكن لن يكون من ثمرته أن الأمة كلها تجتمع على عقيدة واحدة، وعلى مذهب واحد، وعلى حكم واحد، وعلى رأي واحد في كل شيء، هذا لن يكون والله تعالى أعلم، إنما نحن نبذل ما نستطيع، وهذا هو الشرع الذي تعبدنا به، أما القدر الذي سيقع فهو أمر إلى الله عز وجل ليس لنا منه شيء. إذًا: هذه قاعدة مهمة.. مهمة.. مهمة.. أقولها ثلاثاً، وهي: أنه يجب أن نفرق بين الشرع والقدر، أخبر الرسول عليه السلام أن فتناً ستقع وأمرنا بأمور، فنحن نأتمر بما أمرنا به النبي صلى الله عليه وسلم، أما وقوع الفتن وعدم وقوعها فهذا أمر آخر لسنا منه في شيء.
بين الأصل والاستثناء
النقطة السادسة: وهي أيضاً أصل مهم كسابقه، وقد اخترت لها عنوانًا: (بين الأصل والاستثناء)، وأعني بهذا العنوان: أن عندنا أصولاً ثابتة لا يختلف عليها اثنان من المسلمين. فمثلًا من الأصول: وجوب الجماعة، والاجتماع على الطاعة، ومن ذلك طبعاً: صلاة الجماعة، لكن الاجتماع على الخير والطاعة وعلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ووحدة الصف -كما سبق- هذا من الأصول. كذلك صلة الرحم لا يختلف اثنان من المسلمين بوجوب صلة الرحم، وبر الوالدين والأقارب وصلتهم والإحسان إليهم وبذل ما تستطيع لهم. الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجب بإجماع المسلمين إما وجوباً عينياً أو وجوباً كفائياً، كل المسلمين يقولون: يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الجهاد في سبيل الله شريعة باتفاق المسلمين، ولو قال شخص: إن الجهاد ليس مطلوباً أبداً ولا في أي حال من الأحوال، يبين له الحق فإن أصر يكون كافراً. فالجهاد شريعة ماضية بإجماع المسلمين، هذا أصل ليس فيه خلاف، لكن هناك استثناءً من هذا الأصل، ما هو الاستثناء؟ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً من الأيام لأصحابه: ( كيف بكم وبزمان يغربل الناس فيه غربلة، وتبقى حثالة من الناس )، يغربل الناس غربلة: أي: ينخلون نخلاً فيذهب الطيب ويبقى الخبيث. (ويبقى حثالة من الناس) والحثالة: هي الوسخ الذي يكون في أسفل الإناء، بعدما يشربه الإنسان تبقى فيه حثالة، ( تبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فصاروا هكذا، وشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه هكذا، فقال له عبد الله بن عمرو بن العاص: يا رسول الله! بم تأمرني حينئذٍ؟ قال: تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم )، والحديث صحيح رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم، وقال الحاكم: صحيح، وكذا صححه جماعة من أهل العلم كـابن حجر، والعراقي، والمنذري، وغيرهم، وسنده حسن، وله طرق كثيرة، فهو حديث صحيح. المهم في هذا الحديث الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر أنه إذا كانت الفتن واختلف الناس ومرجت عهودهم وأماناتهم وصاروا هكذا، أَقبِل على أمر خاصتك، على نفسك وزوجتك وأولادك وقراباتك، واترك أمر العامة، هذا مثال. ومثال آخر في نفس الباب حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، أن أبا أمية الشعباني قال لـأبي ثعلبة الخشني: ماذا تقول في تفسير هذه الآية؟ قال له أبو ثعلبة: أي آية؟ قال: قول الله عز وجل: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ))[المائدة:105]، ماذا تقول في تفسير هذه الآية؟ قال له: لقد سألت عنها خبيراً، سألت عن هذه الآية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: ( ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل قبضٍ على الجمر، للصابر فيهن أجر خمسين يعملون مثل عمله، قالوا: يا رسول الله! منا أو منهم؟ قال: بل منكم )، والحديث رواه الترمذي، وصححه، ورواه ابن ماجه، والحاكم، وصححه أيضاً، ورواه البيهقي في شعب الإيمان، وغيرهم، والحديث له شواهد يصح بها. إذاً: في حديث عبد الله بن عمرو، وأبي ثعلبة ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم مجموعة صفات، إذا وجدت في شعب من الشعوب، أو أمة من الأمم، ففي ذلك الوقت أي مؤمن صادق يسعه أن يترك الناس ويقبل على نفسه، لا تأمر بالمعروف ولا تنه عن المنكر، ولا تتعلم، ولا تعلِّم، ولا تجاهد، ولا.. ولا، لكن متى يحدث هذا؟ الحديثان ذكرا لنا مجموعة صفات أذكرها لكم باختصار:
صفات أهل آخر الزمان الذين يشرع اعتزالهم
أنهم حثالة
أنهم حثالة، (إذا بقي في حثالة)، والحثالة هي بقية الإناء، ومعنى ذلك أن هؤلاء الناس لا خلق ولا دين ولا مروءةَ لهم.
أنهم يضيعون العهود والأمانات
الصفة الثانية: قوم مرجت عهودهم وأماناتهم، (مرجت) يعني: ضعفت، وصاروا ليس عندهم عهد ولا أمانة، يعدك ويخلفك، تأتمنه فيخونك، تحدثه ويحدثك فيكذب، وهكذا، ولذلك قال البخاري رحمه الله في صحيحه: (باب كيف الأمر إذا بقي في حثالة). ثم ذكر حديث حذيفة رضي الله عنه في نـزع الأمانة من قلوب الناس، وقال في آخره: أن حذيفة رضي الله عنه ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( حتى إنه ليقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً )، يعني: الناس كلهم ليس عندهم أمانة، حتى أصبحت القبيلة بأكملها ليس فيها أمين إلا واحداً، فالناس يتكلمون فيقولون: سبحان الله! قبيلة كذا فيها فلان رجل أمين، البلد الفلاني قد يكون سكانه مليون أو أقل أكثر فيه فلان رجل أمين، أما البقية فقد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا، فصاروا هكذا.
أنهم لا يزالون مختلفين متنازعين
الصفة الثالثة التي وصفهم بها النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم اختلفوا فصاروا هكذا، وهذا إشارة إلى شدة اختلافهم وتنازعهم، ومع الاختلاف فكل واحد يُخطّئ الآخر، وهذا يذم هذا، وهذا ينتقص هذا، وهذا يخطئ هذا، اختلفوا وصاروا هكذا لا تدري من المحق من المبطل، ومن الصادق من الكاذب، ومن الجاد من الهازل. ولا شك أن هذه الصفات التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو وجد شيء منها الآن! بل وجدت بدايتها منذ زمن بعيد، منذ عهود التابعين؛ بل منذ أواخر عهد الصحابة وجدت بداياتها، فمثلاً: ضعف الدين وجد، ضعف اليقين وجد، ضعف الأمانة وجد، نقض العهود وجد، اختلاف الناس وجد، وهو موجود الآن، فقد يقول بعضكم: هذا مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، اختلف الناس، اليوم كل إنسان يدعي أنه على الحق وغيره على الباطل. وكل يدّعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بوصل وضاعت الأمور فلا ندري من نصدق، ولا ندري الصواب من الخطأ، ولا ندري.. ولا ندري، فيأتي إنسان فيصور الواقع الذي يعيشه ويطبقه على هذا الحديث، نقول له: لا، رفقاً، انتظر قليلاً، المهم عرفنا الصفة الثالثة وهي (اختلفوا فصاروا هكذا).
أنهم تجتمع فيهم الصفات الواردة في حديث أبي ثعلبة الخشني
الصفة الرابعة: ذكر في حديث أبي ثعلبة: ( إذا رأيت شحاً مطاعاً )، الشح هو: الحرص مع البخل، رجل حريص وبخيل بالمال أطاع نفسه في الشح، وهذا الشحيح أصبح مطاعاً، لا تجد إنساناً كريماً إلا ما قل وما ندر. ( وهوى متبعاً )، يتبع الإنسان هواه، فيعرض عن الكتاب، ويعرض عن السنة، وعن الحق، ولا يطيع إلا هواه. ( ودنيا مؤثرة )، يؤثر الدنيا على الآخرة، وهذا بداية الكفر، كما قال الله عز وجل: (( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ))[الأعلى:16-17]، وقال: (( وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ ))[إبراهيم:2-3]، فيؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، ولا يبالي الواحد منهم ما أصابه في دينه إذا سلمت له دنياه. ( وإعجاب كل ذي رأى برأيه )، يعني: ما أحد يسمع لا آية، ولا حديثاً، ولا قول عالم، ولا شيخ، يكفيه ما عنده. أنا لست أنكر أن هذه الأمور كلها يوجد شيء منها الآن، خذ على سبيل المثال: الإعجاب بالرأي، والله الذي لا إله غيره إنني أشهد أنك إذا سمعت حديث بعض الناس في مجالسهم، أو في غير ذلك، تقول: سبحان الله! هذا إعجاب كل ذي رأي برأيه، يتكلم الواحد منهم عن قضية شرعية مختلف فيها، العلماء اختلفوا فيها، والصحابة اختلفوا فيها، والأمة اختلفت فيها، فيقرر رأيه وقوله حتى كأنه حق وما سواه باطل، حتى كأنه أتاه وحي بأن هذا الأمر حق وهذا الرأي حق، هذا من إعجاب المرء برأيه. حتى إنك تجد الإنسان والعياذ بالله قد يكون -أحياناً- عنده رأي خطأ وفاسد وباطل، ومع ذلك يتعصب لهذا الرأي، وتتشبع به نفسه، ويمتلئ به قلبه، حتى إنه إذا وجد من يخالفه في هذا الرأي يغضب ويكاد يتمزق من الحسرة، وربما من الغيرة، وربما من الغضب لله ورسوله أيضاً، لكن تلبس عنده الإعجاب بالرأي بما يعتقد أنه حق وشرع وصحيح. لكن هذا ليس عاماً، فما زال في الأمة بحمد الله من الكبار والعلماء، وطلاب العلم، والعامة من لا تجده معجباً برأيه، قد يعتقد برأيك إذا ناقشته فيه قال: جزاك الله خيراً، والله قد أصبت، وما ظاهرة رجوع الناس إلى مذهب أهل السنة والجماعة، واعتقادهم به، وتخليهم عن كثير من البدع، إلا دليل على ذلك، وما ظاهرة تراجع كثير من الناس عن المذاهب الفاسدة المادية من اليسارية، والقومية، والناصرية، والشيوعية، ومجيئهم إلى الإسلام إلا دليل على ذلك. وما رجوع بعض العلماء عن أقوالهم إلا دليل على ذلك، العالم قد يقول لك اليوم قولاً، وبعد أسبوع: من كنت أفتيته بكذا فليرجع إلي، فأنا رجعت عن قولي وتبين لي أن ما قلته له خطأ، وأن الصواب كيت وكيت، وهذا دليل على أنه لا يوجد إعجاب بالرأي عنده، وإلا لتمسك برأيه وما تراجع عنه. إذاً: الإعجاب بالرأي موجود، لكن لم ينتشر في الأمة بحيث أن الأمر وقع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وإعجاب كل ذي رأي ) كل من ألفاظ العموم، ( وإعجاب كل ذي رأي برأيه )، لا زال في الأمة خير كثير. إذاً: هذه الصفات السبع إذا وجدت أستطيع أن أقول لك: لا تأمر بالمعروف ولا تنه عن المنكر، لماذا؟ لأنه لا فائدة من الأمر والنهي، ما دام أن كل واحد معجب برأيه، والهوى متبع، والدنيا مؤثرة، والشح مطاع، وهؤلاء القوم صاروا حثالة، مرجت أماناتهم وعهودهم، واختلفوا وصاروا هكذا، إذا تحقق (100%) ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حينئذٍ لا يُؤمر بمعروف ولا ينهى عن منكر؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلاً إنما شرع للمصلحة، وما دام لن يتحقق الامتثال فلا فائدة، فنقول للآمر حينئذٍ إذا وجد هذا: أمسك عليك نفسك، أملك لسانك، واحفظ نفسك، حتى لا تصاب بأذى؛ تتعرض لاضطهاد، أو تضييق، أو إزعاج، أو تؤذى في نفسك، أو أهلك، أو ولدك، أو مالك، أو أصحابك، فلا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر. لكن متى يتحقق هذا؟ هذا هو السؤال الخطير، أو متى نحكم على واقع معين بأنه قد تحقق فيه هذا الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم؟ أريد أن أشير إلى أن أصول الأحداث وبداياتها كانت موجودة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال حذيفة -نفسه- في الحديث السابق -حديث نـزع الأمانة- قال: [ ولقد مر علي زمان ما أبالي أيكم بايعت ]، ليس عندي مانع أي واحد أبيع له ولا آخذ منه المال، يقول: إن كان مؤمناً يرده علي إيمانه، وإن كان كافراً يرده علي ساعيه، يعني: الأمور مضبوطة إذا كان مسلماً يرجع لي بالمال، وإذا كان غير مسلم الجهات المسئولة تحفظ لي مالي، هكذا ثم يقول حذيفة: [ أما اليوم فما أبايع إلا فلاناً وفلاناً وفلاناً ]، ذكر أناساً معدودين هم الذين يبايعهم، أما البقية فلا يبايعهم. إذاً: البدايات موجودة منذ عهد الصحابة، لكن متى تحقق الأمر الذي يجعلنا بمنجاة، ويبيح لنا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، هل تحقق هذا؟ كلا، لم يتحقق هذا، وما زلنا مطالبين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، فيما مضى وفي الوقت الحاضر أيضاً. وسوف أزيد الأمر إيضاحاً، فأقول: البداية وجدت منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم كما ذكر حذيفة رضي الله عنه، وأما فيما عدا ذلك فإن كل عالم في عصره يخيل إليه أن الأمر يوشك أن يكون. فمثلاً: أذكر أن ابن بطال رحمه الله أحد شراح البخاري وهو فقيه مالكي، لما تكلم عن حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويكثر الزنا ... ) إلى آخر الحديث، قال ابن بطال رحمه الله: جميع ما تضمنه هذا الحديث من أشراط الساعة رأيناها عياناً، فقد نقص العلم، وظهر الجهل، وألقي الشح، وعمت الفتن، وكثر القتل إلى آخر الحديث. عقب عليه الحافظ ابن حجر بقوله: إن الذي شاهده كان منه الكثير مع وجود مقابله، يعني: الشح مع وجود الكرم، الجهل مع وجود العلم، القتل مع وجود الأمن، ولم يكن أمراً عاماً. قال ابن حجر: وقد مضى على الوقت الذي تكلم فيه ابن بطال ثلاثمائة وخمسون سنة وهذه الأمور في ازدياد. ومن الطريف أن الخطابي في كتاب: (العزلة) روى حديثاً عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قال: إنها كانت تتمثل بهذه الأبيات تقول: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب يتحدثون مخافة وملاذة ويعاب قائلهم وإن لم يشرب أي: أنهم قوم يكثرون من الكلام، ويحاولون أن يخطّئوا الآخرين، وإن لم يكونوا مخطئين، هكذا تقول عائشة رضي الله عنها، تقرأ هذه الأبيات وهي للبيد، فتقول عائشة رضي الله عنها: ويح لبيد! كيف لو أدرك هذا الزمان! يعني الذي كانت فيه عائشة رضي الله عنها. يقول عروة بعدما روى الحديث: كيف لو بقيت عائشة رضي الله عنها حتى أدركت الزمان الذي نحن فيه؟! بعد ذلك يقول هشام بن عروة:كيف لو أدرك أبي- عروة- هذا الزمان الذي أنا فيه؟! ولما قالوا لـسلمة بن شبيب، وهو أحد رواة الحديث أيضاً قالوا له: يا أبا الفضل! كيف تقول أنت؟! فـعروة تكلم وهشام بن عروة تكلم وعائشة تكلمت، وأنت كيف تقول؟! تقول: كيف لو عاشوا -قال: ما عسى مثلي أن يقول! أنا أقول: (على رأسي التراب). التراب على رأسي، بل أنا لا أستحق أن أقول شيئاً أبداً، هؤلاء الذين ذكرتهم يقولون ما سبق: (كيف لو عاش فلان؟!). أنا لا أقول: كيف لو عاش فلان؟ أنا أقول: التراب على رأسي؟ يعني: كأنه رضي الله عنه يقول: أنا أذم نفسي وأوبخ نفسي ولا أتكلم في الآخرين. فهذا محمول منهم على ازدراء أنفسهم وواقعهم وذمه، ولا يلزم أن يكون هذا دليلاً على تحقق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
ما يلزم تحققه فيمن يحكم على الواقع
الذي يريد أن يحكم على الواقع ويقول: إن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو تحقق في هذا الوقت يلزمه أن يراعي ثلاثة أمور: الأمر الأول: ألا يحكم إلا إذا تحققت فيه هو الشروط، هل هو عالم بالشرع مثلاً؟ إذا لم يكن عالماً بالشرع فليس من حقه أن يحكم، وإلا اليوم مع الأسف بعض الجهال قد يرى هذا الوقت، فيقول: الواقع ممتاز، ونحن في أحسن حال، بل إن بعض المنحرفين قد يخيل إليه أن الأمة ما مرت بزمن أحسن من تلك الأزمنة التي يعيش فيها، لأنه يقيس الأمور ليس بمقياس الشرع بل بمقياس الهوى، مقياس الدنيا، إذًا: فلا بد أن يكون الذي يحكم على الواقع عالماً بالشرع. ولا يكفي العلم بالشرع -أيضاً- فقد يكون عالماً بالشرع لكنه غير عالم بالواقع، لا يدري ما الناس عليه، فإذا كان من البيت للمسجد ما رأى منكراً في حياته قط، يقول: والله الأمور- الحمد لله- جيدة، لكن لو أخذته مرة في رحلة وذهبت به إلى أحد الأسواق، أو الحدائق، أو المنتزهات، أو غيرها، فرأى من المنكرات لربما فقد وعيه من شدة ما فوجئ به. فلا بد من العلم بالشرع مع العلم بالواقع، أن يعرف الواقع. وهناك صفة أخرى لابد منها أيضاً، وهي: أن يكون الإنسان فيه اعتدال بطبعه، فبعض الناس حاد المزاج ينظر إلى الجانب المظلم، مثل ما يقولون في المثل: لو أتيت بكأس نصفه فارغ ونصفه ممتلئ بالماء، فتأتي به لإنسان فتقول له: صف لي هذا الكأس؟ فيقول لك: هذا الكأس نصفه فارغ، فهو نظر إلى الفراغ الموجود في الأعلى، فقال: نصفه فارغ، وهذه نصف الحقيقة. وتأتي لإنسان آخر، فتقول له: صف لي هذا الكأس؟ فيقول لك: هذا الكأس نصفه ممتلئ، فهو نظر إلى النصف الممتلئ. وتأتي لإنسان ثالث، فيقول لك: كلاهما أصاب، هذا وصف شيئاً وهذا وصف شيئاً آخر. إذاً: قد تأتي لإنسان عنده نوع من النظرة التشاؤمية للواقع، فيقول لك: الواقع فيه كذا وحصل من تبرج النساء وفساد الشباب وضياع الأمور، وكيت، وكيت، وكيت، فيذكر لك سلسلة وقائمة من الانحرافات، حتى يخيل إليك أن الدنيا كلها رقعة سوداء وليل مظلم ليس فيه بصيص من نور. وقد تأتي لإنسان آخر فيقول لك: يا أخي بالعكس المساجد ملأى، والدروس يحضرها جماهير غفيرة، والكتب فيها، والأشرطة فيها، والحمد لله، وإقبال الشباب، وتحجب الفتيات، ويبدأ يذكر لك الجانب المشرق. فنقول: كلاهما وصف بعض الواقع، والواقع فيه هذا، وفيه هذا. ولذلك حتى في الماضي عندما تقرأ مثلاً كتاب: الأغاني لـأبي الفرج الأصفهاني، يخيل إليك أن الواقع الذي كان يعيشه ويتحدث عنه واقع -والعياذ بالله- كله واقع زنا، ولواط، وفجور، وفساد، وغناء، لماذا؟ لأن الرجل يتكلم في أوساط من الفنانين والأدباء والمغنين، أوساط سيئة منتنة يتحدث عنها، لكن عندما تذهب إلى كتب الجرح والتعديل، وكتب الحديث، وكتب التاريخ تجد جانباً آخر مشرقاً. إذاً: ينبغي أن يكون الذي يحكم على الواقع ممن وهبه الله تعالى بفطرته وطبيعته اعتدالاً وتوازناً وانضباطاً، بحيث لا يكون من الناس الذين عندهم شدة عاطفة، أو قسوة تجعلهم ينظرون إلى جانب واحد فقط، ويغفلون عن الجانب الآخر، فلا بد من توافر هذه الشروط فيمن يحكم: أولاً: العلم بالشرع. ثانياً: العلم بالواقع. ثالثاً: الاعتدال الفطري في النظر. النقطة الثانية: أن الأمور تختلف من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، فمن الممكن أن تجد بلداً من البلاد يوماً من الأيام شاع فيه الفساد وعم وطم وغلب، حتى أصبح يقال للإنسان: اليوم ما أمامك إلا السكوت ولزوم البيوت، لماذا؟ قال: والله الآن إن تكلمت تضررت وما نفعت فاسكت، الزم بيتك وكف عليك لسانك. وبعد ذلك بزمن تأتي على البلد نفسه أمور جيدة فقد تحسنت الأمور وصلحت، فأصبحت الأحوال جيدة، وأصبح الإنسان مطالباً بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الله عز وجل، فيختلف الأمر من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان. نقطة ثالثة مهمة: وهو أنه إذا التبس عليك الأمر فارجع للأصل، فقد سبق أن ذكرت أن الأصل للإنسان أن يختلط بالناس إن كانوا جيراناً أو أقارب أو والدين، أو يصلي مع الجماعة، أو يحضر الجنائز ويتبعها، ويعود المرضى، إلى غير ذلك من الأمور التي هي من حق المسلم على المسلم، هذا هو الأصل، فإذا جاء أحدهم وقال: الزمن قد فسد، وأنا لن أعود مرضى، ولا أتبع جنائز، ولا أزور أقارب، لماذا؟ قال: فسد الزمان، نقول: يا أخي إن الزمان فيه خير وشر، والأصل أن هذه الأمور كلها واجبة عليك ولا تخرج من عنقك إلا بعدما تتيقن يقيناً لا شك فيه بأن الأمور وصلت إلى ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فحينئذٍ يسعك، ولا تحكم بنفسك؛ بل اذهب إلى أهل العلم الكبار الذين تدين الأمة برأيهم وسلهم عن مثل هذه الأمور، أما أن تأخذ بنفسك، فلا، فالأصل وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوب أن يختلط الإنسان بالناس في حدود إقامة وأداء الحقوق المطلوبة لهم، وما أشبه ذلك، ولا تنتقل عن هذا الأصل إلا بيقين.
بين اليأس والأمل
الوقفة السابعة: وهذه وقفة أخرى وقد اخترت لها عنواناً اسمه: (بين اليأس والأمل). كثير ممن يتكلمون في الفتن لا يتقنون إلا الأحاديث التي تدل على اليأس. مثلاً: إذا تكلم أحد في الفتن، أو سمع كلاماً حول أحاديث الفتن تبادر إلى ذهنه، حديث أنس رضي الله عنه: ( لا يأتيكم زمان إلا والذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم )، والحديث لا شك فيه صحيح رواه البخاري، أو حديث: ( لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا الدنيا إلا إدباراً )، أو حديث: ( يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أكل أمن حلال أو من حرام )، هذا في صحيح البخاري أيضاً، فيدب اليأس إلى نفوس الناس، وكأن القائل منهم يقول: هذا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قد وقع وآل الأمر إليه، فلا فائدة، ولا حيلة، ولا داعي لأن نقوم نحن بواجبنا في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة، والجهاد، وغير ذلك؛ لأن الأمور قد انتهت وهذا فيه عدة أخطاء:
النظر إلى الأحاديث الدالة على اليأس دون غيرها خطأ
الخطأ الأول: أن الإنسان غفل عن الجانب الآخر من تلك الأحاديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: ( لا يأتيكم زمان إلا والذي بعده شر منه ) مثلاً، هو نفسه الذي قال: ( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها )، فأخبر أن الأمة يتجدد لها الدين في رأس كل مائة سنة، وتتحسن الأمور والأوضاع والأحوال، لكن في الإجمال لاشك أن الأمة تسير في طريق تنازلي إجمالاً، لكن يكون في الأمة زمان أحسن مما قبله، كما هو الحال بالنسبة لعصور المجددين. مثلاً الإمام محمد بن عبد الوهاب جاء إلى بلاد نجد، وهم يعبدون الأوثان والأصنام، وبينهم من الحروب والتطاحن ما هو معروف في تاريخ نجد، فدعاهم وجمعهم على كلمة الإخلاص، ووحد الله تعالى به قلوبهم وصفى به عقائدهم، وأقام دعوة راسخة قوية صلبة على مر العصور. إذا: ليس الأمر مطرداً، فالذي قال: ( لا يأتيكم زمان إلا والذي بعده شر منه )، هو الذي قال: ( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ). وهو عليه الصلاة والسلام الذي قال في حديث عمران: ( خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم )، هو الذي عليه الصلاة والسلام قال كما في حديث أنس، وهو حديث صحيح: ( أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره )، ليس المقصود أن آخر الأمة مثل أولها (100%) سواء بسواء، إنما المقصود أن آخر الأمة في الخيرية والقوة -حتى لا يلتبس على الناس- أهو خير أم أوله، وإلا ففضل الأولين مشهود لا يشك به أحد، فالذي قال هذا، هو الذي قال هذا، فلماذا تأخذ الأحاديث التي فيها اليأس وتترك الأحاديث التي فيها الأمل؟ أقول: ينبغي أن ننظر في هذه الأحاديث نظرة أمل، وألا نسمح لليأس أن يتسرب إلى قلوبنا، خاصة إذا تذكرنا المبشرات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، والتي ذكرت طائفة منها في الأسبوع الماضي، ومنها قضية الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية، وبقاء الجهاد والتجديد، وبقاء الخيرية في هذه الأمة، وانتصار هذه الأمة على الروم والترك واليهود والدجال وغيرهم. ومنها ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن الصابر من هذه الأمة على دينه له أجر خمسين يعملون مثل عمله من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم )، ومع ذلك يجب الاعتدال، فحينما نقول هذا لا نعني أننا ننتظر رجالاً كرجال القرن الأول يظهرون اليوم فيما بيننا! كلا، يجب أن ننظر نظرة واقعية، وندرك أن كل عصر له رجاله، وليس صحيحاً أن نطلب المحال بحيث إذا قيل للإنسان: أين العلماء؟ قال: في (الثلاجة)، والثلاجة هي مقبرة معروفة بـبريدة، هذا صحيح الثلاجة فيها علماء، لكن أيضاً الحمد لله الأمر كما قال الأول: إذا مات فينا سيد قام سيد قؤول لما قال الكرام فعول فالأمة فيها خير كثير، وفيها علماء فطاحل جهابذة يستسقى بدعائهم المطر من السماء، ويتعبد الله تعالى بسؤالهم وفتياهم واتباعهم وطاعتهم فيما بلغوا من دين الله وشرعه، وهم أئمة وقفوا أنفسهم على هذا الدين، وهناك طلاب علم كثيرون نذروا أنفسهم لهذا العمل. ليس صحيحاً أن أرحام النساء عقمت فلا تلد! ليس صحيحاً أن نتصور أن الأمة -مثلاً- بعد شيخ الإسلام ابن تيمية انتهت، صحيح أن ابن تيمية علم راسخ ربما لم يأتِ بعده مثله، بل أجزم أنه لن يأتي بعده مثله، لكن مع ذلك هناك رجال كثير في هذه الأمة، هناك علماء، وهناك جهابذة، وهناك مصلحون، وهناك دعاة، وهناك مجاهدون، وهناك أئمة، بل إنني أقول: إن الأمة نفسها تشارك في صناعة هؤلاء الأئمة، فإن العالم إذا كان في وسط قوم يعظمونه ويقدرونه ويوقرونه ويعرفون له قدره، فإن هذا يزيد من ارتفاعه ومكانته كما قال أحدهم: إنما عَظُمتَ بصغار عظموك. فالعالم إذا أحاط به الناس وأخذوا عنه وقدّروه وبجلوه احترمته الخاصة والعامة، وأصبح له مكانته، وليس من السهل أن يخطئه أحد أو يعارضه أحد أو يقف في وجهه أحد، لكن إذا كان هذا العالم مركوناً لا يلتفت إليه أحد أصبح في الأمة مثل الذهب الذي في معدنه لم يعلم به أحد، فحينئذ الأمة هي التي تشارك في صناعة العلماء والقادة والدعاة وإعدادهم وإخراجهم، فينبغي ألا نقوم دائماً بلوم الآخرين، وننسى الدور الذي كان يجب علينا أن نؤديه .
الاعتماد على الأحاديث الضعيفة من أسباب اليأس
إذا هذه نقطة، الخطأ الثاني الذي يقع فيه أولئك الذين ينظرون نظرة يأس للأحداث والأحاديث: أنهم أحياناً يستأنسون ببعض الأحاديث الضعيفة بل والموضوعة، وذلك لأن العلماء الذين صنفوا في الفتن تساهلوا، مثل نعيم بن حماد -مثلاً- وأبي عمرو الداني، ومثله الحكيم الترمذي، والديلمي، وكثير من هؤلاء العلماء يذكرون في الفتن خاصة أحاديث ضعيفة وأحياناً أحاديث موضوعة، فإذا قرأته تدرك أنه موضوع، أحياناً حديث ربما يكون أربع صفحات أو خمس صفحات يذكر الفتن، هذا الحديث غالباً لا يصح، فلا تتساهل في رواية تلك الأحاديث، خاصة إذا كانت أحاديث تذم الواقع. فمثلاً: بعض الأحاديث تتكلم بذم الناس ( ذهب الناس وبقي النسناس )، ( رأيت الناس أخبر تقله )، ( بعد مائة سنة لا يبقى مولود لله فيه حاجة )، مثل هذه الأحاديث لا تصح، لكن بعض الناس يفرحون بها، من أجل يعرض عن الناس ويتركهم ويقول: هؤلاء الناس لا خير فيهم ولا تلتفت إليهم، هؤلاء الناس فيهم وفيهم، وقال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كذا، فيعتمد على أحاديث ضعيفة أو موضوعة في ذم الناس. وإذا انتقل إلى العلماء بدأ يذم العلماء وينتقص منهم، ويقول: هؤلاء لم يفعلوا ولم يفعلوا وفيهم وفيهم، ثم يذهب يستأنس بحديثين أو ثلاثة أحاديث موضوعة، في ذم أهل العلم وأن من أهل العلم من يمسخ في آخر الزمان قردة وخنازير، وأنهم يتعلمون العلم لغير وجه الله تعالى.. إلى آخره، فيستشهد ويستأنس بهذه الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة في الحط من أقدار علماء عصره، ولا شك أن هناك أحاديث صحيحة في هذا الباب؛ وهناك علماء ينطبق عليهم الكلام، لكن ينبغي أن توضع الأمور في مواضعها. هناك -مثلاً- من يترك الزواج ويترك إنجاب الأولاد، فتقول له: لماذا؟ يقول: هذا الزمان زمان مظلم، الولد تتعب فيه لا تدري كيف يتربى، ولا تدري.. ولا تدري، ثم يأتي لك بحديث مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يأتي على الناس زمان لأن يربي أحدهم جرو كلب، خيرٌ له من أن يربي ولداً من صلبه )، هذا الحديث رواه الحاكم وغيره وفيه ضعف، يقول: أنا لا أريد أن أربي أولاداً ولا أهتم بهم، لماذا؟ الكلاب خير منهم. هذا ليس منطقاً، وليس صحيحاً، هذه نظرة تشاؤمية، نظرة سوداوية، ينبغي لطلبة العلم أن يحرصوا على إخراج الناس من هذا النفق المظلم، وجعلهم يعيشون في النور.
كثرة اشتغال الناس بأحاديث الفتن
نقطة ثامنة: قضية الاشتغال بأحاديث الفتن، فمن الأشياء التي يطول عجبي منها كثرة اشتغال الناس بأحاديث الفتن، ولو فرزت لكم هذه الأسئلة التي جاءتني منكم الآن، بل أسئلة المجلس السابق والذي قبله لوجدنا (50%) منها تدور حول أحاديث الفتن، وجاءتني أسئلة شفوية كثيرة تدور حول بعض الأحاديث الواردة في أمور الفتن، لماذا يهتم الناس بأحاديث الفتن؟ يهتمون بها في نظري لسببين:
أسباب اشتغال الناس بأحاديث الفتن
السبب الأول: استكشاف المجهول، فالإنسان من طبيعته يحب أن يعرف المستقبل، ويستكشف المجهول، فيحاول أن يعرف ذلك من خلال بعض النصوص الواردة والتي تكشف ما قد يقع في المستقبل، فلذلك يقرأ في هذه الأحاديث. السبب الثاني -وهو أهم-: أن الناس يؤثرون دائماً ألا يعملوا، فنحن دائماً نحب ألا نعمل، نحب أن نتكلم لكن لا نحب أن نعمل، فأحاديث الفتن -أحياناً- يتخذها بعض الناس مهرباً من العمل. مثلاً: إذا وجد الأحاديث الواردة في المهدي، قال: لا داعي.. ننتظر، نسينا أن كل واحد منا يجب أن يكون مهدياً يدعو إلى الله عز وجل، يهتدي بهدي الله عز وجل ويدعو إلى الله عز وجل، أما المهدي الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فنحن ما تُعُبدنا بأن ننتظره، متى يأتي؟ بعد مائة سنة، أو مائتين، أو أقل أو أكثر، الله أعلم، هذا غيب عند الله عز وجل، ما تعبدنا بأن ننتظر شخصاً معيناً، إنما تعبدنا بأن نقوم بالواجب، ندعو إلى الله، ونتعلم، ونتعبد، ونجاهد، هذا هو المطلوب، نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، أما انتظار شخص معين فهذا لم نتعبد به كما تفعله الرافضة، فهم منذ مئات السنين وهم عند سرداب سامراء ينتظرون مهديهم الذي لا يخرج أبداً، حتى ضحك منهم الناس، وقال لهم أحد الشعراء: ما آن للسرداب أن يلد الذي أوجدتموه بجهلكم ما آنا فعلى عقولكم العفاء فإنكم ثلثتم العنقاء والغيلانا يقول: أنتم مجانين، منذ مئات السنين وأنتم تنتظرون! والغريب أن عندهم فرساناً وخيولاً ربطوها ينتظرونه، وكلما حصلت حركة قالوا: جاء، جاء، ويدعون في كتبهم يقولون: عجل الله فرجه وسهل مخرجه.
هل يصلح أن يكون أهل السنة ينتظرون مهدياً بهذه الطريقة، المهدي سيخرج، لكن متى؟
هذا علمه عند ربي في كتاب، نحن مطالبون بأن نعبد الله تعالى بالدعوة والجهاد والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وألا ننتظر أحداً، لا ننتظر أحداً يقوم بهذه المهمة بالنيابة عنا.
حاجة الناس في هذا الزمن إلى زيادة العمل بدل الاشتغال بأحاديث الفتن
بعض الناس يهربون بأحاديث الفتن من الواقع، ويهربون من العمل، وينسون أنه في أزمنة الفتن الأمر يستوجب زيادة. مثلاً: إذا كثرت الفتن مثل زماننا هذا، فليس معناه أن يترك الإنسان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل بالعكس زاد الأمر وجوباً! وليس معناه أن يترك الإنسان الجهر بكلمة الحق في زمن الفتنة، لا. زمان الفتنة يوجب أن يزيد الناس من الجهر بكلمة الحق، وإعلانها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الناس أحوج ما يكونون إليها، وإلا إذا اتضحت الأمور وبانت لم تعد هناك فائدة من الكلام، وإذا استقام الناس والتزموا بالمعروف فلا فائدة من النهي عن المنكر. فالناس أحوج ما يكونون إلى الأمر بالمعروف إذا تركوه، وأحوج ما يكونون إلى النهي عن المنكر، إذا وقعوا فيه، وأحوج ما يكونون إلى بيان الحق إذا التبس الأمر عليهم، فإذا ظهر الأمر لم يبقَ لأحد فضل ولا كلام.
تطبيق أحاديث الفتن على الواقع
من الأحاديث التي وردت -وكنت ذكرتها، وجاءت في بعض الأسئلة الواردة الآن- كثير من الناس يرددون حديثاً في هذه الأيام رواه مسلم في صحيحه يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( يوشك ألا يجبى إلى العراق قفيز ولا درهم، قالوا: يا رسول الله! ممَ ذاك؟ قال: من قبل العجم، يمنعون ما بأيديهم ). فبعض الناس يطبق هذا الحديث على الواقع، وأنا أرى أنه ينبغي ألا يتسامح المبتدئ أو الإنسان العادي أو العامي في تطبيق هذا الحديث، العلماء لهم شأنهم إذا رأوا ذلك، لكن بالنسبة لنا أرى أنه ينبغي ألا ندخل في هذا الباب؛ لأن هذا الحديث نفسه لو تأتي إلى عالم قديم مثل النووي -مثلاً- راجع شرح الحديث في شرح مسلم قال النووي: وقد وقع هذا في زماننا، وأخبر أن العجم استولوا على العراق في زمانه ومنعوا أن يجبى إليه شيء، هذا مثال. مثال آخر كثيراً ما يردده الناس أيضاً في هذا الزمان وفي غيره: وهو ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أن المسلمين يصالحون الروم صلحاً آمناً، ثم يغزون هم وإياهم عدواً من ورائهم فيغدرون، ويأتون في ثمانين غاية تحت، كل غاية اثنا عشر ألفاً )، ويشترط المسلمون شرطة على الموت، وينتصر المسلمون في النهاية. وهناك أحاديث أخرى من هذا القبيل. أيضاً بعض الناس يطبقون هذا الحديث على الواقع، وهذا الحديث وإن كان أهل العلم ذكروا أنه لم يقع، كما قال ابن المنير فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر قال: (أما قصة الروم فلم تجتمع إلى الآن، ولا بلغنا أنهم غزوا في البر إلى هذا العدد، فهي من الأمور التي لم تقع بعد، وفيه بشارة ونذارة، وذلك أنه دل على أن العاقبة للمتقين مع كثرة ذلك الجيش، وفيه إشارة إلى أن عدد جيوش المسلمين سيكون ضعف أو أضعاف ما هو عليه الآن). هكذا يقول ابن المنير انتهى كلامه. لكن نجد أحد المؤلفين المعاصرين وهو الغماري فسر هذا في كتاب له سماه: (مطابقة الاختراعات العصرية) فسره بحلف الأمريكان والعرب لقتال الروس. فإذاً أقول: لسنا متعبدين بتطبيق أحاديث الفتن على الواقع، لا، لا نطبق الأحاديث على الواقع، بل ندع الواقع هو الذي ينطق، فإذا وقع الأمر قلنا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، ويزيدنا الأمر إيماناً وتسليماً، أما أن نأتي نحن ونتكلف -أحياناً- في تأويل النصوص وتطبيقها على واقع معين، فأرى أن هذا لا يصلح للعلماء، وإن صلح للعلماء أو طلبة العلم المتقدمين المبرزين الفقهاء فإنه لا يصلح للعامة ولا ينبغي لهم أن يشتغلوا بهذا الأمر، مع أن هذا الأمر يدعوهم -أحياناً- إلى ترك الاشتغال بالعمل والجد والاجتهاد، وأن يعتمدوا فقط على الانتظار، والانتظار وحده لا يصنع شيئاً، بل هذا قد يوحي لهم بأن يتصرفوا -أحياناً- تصرفات غير مشروعة، يعني: إيحاء لا شعوري أنهم يتصرفون تصرفاً غير جيد بسبب توقعهم أن هذا هو الحال الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم. ولو نظرنا إلى الصحابة رضي الله عنهم لوجدنا أن اشتغالهم بأحاديث الفتن لم يصرفهم عن الاشتغال بالحلال والحرام، ومعرفة الشرع، ولذلك قال حذيفة رضي الله عنه: ( خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما ترك فيها شيئاً إلى قيام الساعة إلا ذكره، علمه من علمه، وجهله من جهله )، حتى قال حذيفة رضي الله عنه: ( إن كنت لأرى الشيء قد نسيته فأعرفه كما يعرف الرجل الرجل إذا غاب عنه )، والحديث متفق عليه، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم جميع الفتن، ومع ذلك نقل حذيفة لنا شيئاً منها ونسي شيئاً منها.عمرو بن أخطب يقول كما في صحيح مسلم: ( صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر ثم صعد المنبر فخطب حتى جاء الظهر، فنـزل وصلى الظهر ثم صعد وخطب حتى جاء العصر، فنـزل وصلى العصر وصعد المنبر فخطب حتى غربت الشمس، فأخبرنا صلى الله عليه وسلم بما كان وما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا )، يعني: من الصحابة من علم وحفظ ومنهم من نسي. المشكلة إذاً مشكلة تطبيق النصوص على الواقع، كم من قوم ضلوا -مثلاً- بسبب تطبيقهم للنصوص على واقع معين، ولعل من أظهر الأمثلة المهدية، كم من قوم ادعوا المهدية في زمن بني أمية وبني العباس، ومهدي المغربالمهدي بن تومرت، ومهدي السودانمحمد بن أحمد الذي ادعى المهدية وكون مجموعة لا تزال معروفة إلى اليوم باسم الأنصار، حزب الأمة كما يسمونه في السودان، وغيرهم كثير، ادعوا المهدية بالباطل بسبب أنهم طبقوا النصوص على الواقع وهم ليسوا أهلاً لذلك. من الطريف حديث: (نجد قرن الشيطان ) الذي ذكرته قبل قليل، وأن العلماء ذكروا أن المقصود بنجد نجد العراق، من المغرضين الحاقدين من فسروه بأن المقصود نجد هذه التي نحن فيها الآن، وفسروا قرن الشيطان بالدعوات الإصلاحية التي خرجت في هذه البلاد، وهذا من سوء رأيهم وصنيعهم وفساد قصدهم. وهناك مؤلف أحببت أن أنبه إليه في نهاية هذه المحاضرة اسمه: (مطابقة الاختراعات العصرية لما جاء به سيد البرية) لمؤلف اسمه أحمد بن محمد بن الصديق الغماري، وهذا المؤلَّف طريف وغريب في نفس الوقت، فإن مؤلفه تجشم الأمر الذي حذَّرت منه، وحاول أن يطبق النصوص على الواقع بطريقة غير صحيحة في كثير من المواضع. مثلاً: تكلم عن قضية الطائرات والسيارات، وكما يقول: (الأوتوموبيل) والقطارات، والمطر الصناعي، وقضية المغاسل، وأشياء كثيرة جداً مما جاء في هذا العصر، حاول أن يبحث لها عن حديث يدل على أنها سوف تظهر، وتكلف لذلك تكلفاً عظيماً يُذَم ولا يُحْمد. حتى إنه من العجائب أنه فسر قوله عز وجل: (( وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ))[التكوير:4]، العشار هي النوق، يقول: تعطيل العشار لوجود (الأوتوموبيل) و(بوابير سكة الحديد)، يعني: الناس استغنوا عن ركوب الإبل لوجود السيارات والقاطرات وسكك الحديد -مثلاً- مع أن هذا يوم القيامة. ومثله: (( وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ))[التكوير:5]، هذا -أيضاً- يوم القيامة، تحشر الوحوش فيقتص من الشاة القرناء للشاة الجماء؛ ثم يقال لها: كوني تراباً، وهو يقول: (( وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ))[التكوير:5]، يعني: جمعت في حديقة الحيوان كما هو واقع، ثم أخذ يتكلم عن حديقة الحيوان، وأنه لا يجوز جمع الحيوانات في الحدائق، إلى آخر ذلك. وفعل مثل ذلك بأحاديث كثيرة، فأردت أن أنبه إلى أن هذا مسلك خطير، والغريب أنه في آخر الكتاب لما تكلم عن الطائفة المنصورة وأنها باقية قال- غفر الله لنا وله-: وبنا وبأمثالنا يدفع الله الضلال عن هذه الأمة، بل لا نبالغ إذا قلنا -طبعاً (نا) هذه نون المتكلم لكنه عظم نفسه- لا نبالغ إذا قلنا قد وردت الإشارة إلينا والحمد لله على نعمته، وذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا ظهرت فيكم السكرتان: سكرة الجهل وسكرة المال؛ فالقائمون بكتاب الله سراً وعلانية كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار )، يقول: فليس في مغربنا بل ولا في الشمال الإفريقي أحد قائم بالكتاب والسنة إلا أنا! هذا لا شك أنه غير صحيح. فنقول: سامحه الله وغفر الله لنا وله.
الأسئلة
هذا ما أحببت أن أقوله لكم، ونمر مروراً سريعاً على بعض الأسئلة.
الرجوع إلى الله والاستمساك بالدين وقت الفتن وغيره
السؤال: عندما حصلت أحداث أزمة الخليج دب إلى الناس في البلاد الهلع والخوف، وحسبوا لهذه الأحداث ألف حساب، وبالغوا في هذا الأمر حتى ارتكبوا مخالفات شرعية، وقد استبان خلل كثير من الناس وظهر لهم بعض الأغلاط والأخطاء سواء عن جهل أو خوف، مثل الخوف على ممتلكاتهم وأموالهم، والخوف من أعدائهم، والتهيؤ للفرار، وضعف التوكل وعدم الثقة بالله عز وجل؟ الجواب: نعم، هذه نقطة مهمة جداً، حتى حين تنظر إلى واقع عامة الناس.. أقول لبعض الإخوة: لما حصلت الأحداث زاد المصلون في المساجد، ففي مسجدنا -مثلاً- زاد عدد المصلين في صلاة الفجر النصف، بعد ذلك بدأ العدد يتناقص حتى آل الأمر وأصبح شيئاً عادياً، لماذا؟! أنا أعتقد أن عذاب الله عز وجل لن يندفع عنا بقوة من قوى الأرض، إذا كنا مؤمنين فعلاً ونعتقد أن العذاب إن نـزل بنا فإنما ينـزل بذنوبنا، فهل نعتقد أن عذاب الله يدفع عنا بالوسائل المادية! فالله عز وجل عنده من الجنود ما لا يعلمه إلا هو، (( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ))[المدثر:31]. فإذا كتب على أمة من الأمم العذاب فوالله لا تدفعه عنها قوة مهما تكن، فينبغي للعبد أن يخاف الله عز وجل وأن يظل مرتبطاً بهذا، وأن يكون في قلبه توكل على الله، وثقة به، وخوف منه، وأن يراجع نفسه ويصحح أعماله. وأنبه إلى أمر من هذه الأمور: الله عز وجل لما ذكر العقوبة للأمم في كتابه ذكر أنه يأخذ الأمم على غفلة، (( أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ))[الأعراف:97]، (( ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ))[الأعراف:98]. إذاً: العذاب إذا أتى يأتي على غفلة، فإذا رأيت الأمة تأتيها المحن والفتن والزلازل والتنبيهات مرة بعد مرة، وهي تنتبه لحظة ثم تعود إلى نومها، فَخفْ من ذلك. علينا أن نوعي الناس، علينا أن نهز قلوبهم، ونقول لهم: عودوا إلى الله عز وجل، توبوا إلى الله توبة نصوحاً.
الوقت الذي لا يجدي فيه أمر بمعروف ولا نهي عن منكر
السؤال: هل ينعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا وجدت هذه الأدوات السبع أو الصفات السبع؟ الجواب: إذا وجدت وتحققت فعلاً فحينئذٍ ما عاد يؤمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر، وحينئذٍ قربت الساعة، فيبعث الله عز وجل ريحاً طيبة تقبض أرواح المؤمنين، ويرفع القرآن من المصاحف وصدور الرجال، ويأتي ذو السويقتين من الحبشة إلى الكعبة فيهدمها، فحينئذ هذا آخر الزمان، ولا يبقى أحد في الأرض يقول: الله، الله.
عبادة بعض أهل الجزيرة للشيطان
السؤال: هذا يسأل عن الحديث الذي ذكرته قبل قليل، وذكر عبادة الأصنام وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في الجزيرة؟ الجواب: أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة، بعضهم قال: أيس الشيطان، لكن مع يأسه فإن الله أخبر أن الشيطان سوف يعود إليه الأمل من جديد، يعود إليه الأمل في آخر الزمن إذا رأى فساد الناس، وبعضهم قال: أن يعبده المصلون، يعني: المؤمنون التائبون العابدون، هؤلاء لا ينحرفون إلى الوثنية، بل يعبد الشيطان والأوثان قوم كانوا على الشرك أو نشئوا عليه إلى غير ذلك.
حديث الجساسة
السؤال: في أي كتاب يوجد حديث الجساسة؟ الجواب: يوجد في صحيح مسلم.
فتنة الشهوة
السؤال:... بعض المرات عن طريق التليفون بالنساء، فلماذا لم تشيروا إلى هذه الفتنة؟ الجواب: هذه فتنة الأهل والمال، فتنة الشهوة، تحتاج إلى حديث خاص. السؤال: ( لا تقوم الساعة حتى تعبد الأصنام )، هل ما حصل قبل دعوة الشيخ داخل في ذلك؟ الجواب: أجبت عليه سابقاً.
مدح الخصال الطيبة في الكفار
السؤال: ما رأيك فيمن يعجب بالتزام الكفرة في مواعيدهم ويمدحهم؟ الجواب: مدح الكفار بما فيهم من الخصائص الطيبة، هذا من العدل، ولذلك لما ذكر عمرو بن العاص رضي الله عنه، قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( تقوم الساعة والروم أكثر الناس قال رضي الله عنه: أما إنهم على ذلك، إن فيهم خصالاً خمساً، وذكر من خصالهم: أنهم أصبر الناس عند المصيبة، وأسرع الناس إفاقة، وأعدل الناس مع المسكين والفقير، وأرحم الناس على الولد، وقال رضي الله عنه: خامسة حسنة جميلة؛ أمنعهم من ظلم الملوك )، يعني: أن فيهم من القوة والاجتماع ما يمنعهم من أن يتسلط عليهم باغٍ أو طاغٍ، فذكر الكفار بأن فيهم خصالاً حسنة، هذا لا يعني الإعجاب بهم.
توجيه لمن يتكلف في متابعة الأخبار ومطالعة الصحف
السؤال: ما رأيك فيمن يجعل أكثر وقته لسماع الأخبار ومطالعة الصحف خاصة في هذه الأيام؟ الجواب: لا، العدل مطلوب، وحتى الذي يسمع الأخبار أو يقرأ الصحف يجب أن يسمع ويقرأ بتمحيص، لا يدخل كل شيء إلى عقله وقلبه، بل يمحص بعض الأشياء فيقبل ويرد وفق مقياس سليم دقيق.
استئصال أمة الإسلام
السؤال: هل يمكن أن يحصل استئصال لأمة الإجابة؟ الجواب: لا يحصل إلا قبيل قيام الساعة عند ظهور الأشراط الكبرى، ( يبعث الله تعالى ريحاً طيبة فتقبض أرواح المؤمنين، مسها مس الحرير، وريحها ريح المسك، تقبض أرواح المؤمنين فلا يبقى في الأرض إلا شرار الناس وعليهم تقوم الساعة ). والله تبارك وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق