شكرًا معتز.. تغريدةٌ ستحبها إسرائيل!يوسف الدموكي @yousefaldomoukyصحفي، وطالب بقسم التلفزيون والسينما في كلية الإعلام بجامعة مرمرة
بينما يعيش المقاومون -أو يموتون بالأحرى- داخل الأنفاق منذ عشرين عامًا، وبينما يرابطون ولا يشمون الهواء منذ ما يزيد على 160 يومًا، منذ اليوم المشهود الذي كان من أيام الله، وبينما يقاتلون فيَقتلون ويُقتلون، ويفقدون أحبابهم وأهليهم وأزواجهم وذرياتهم وديارهم، ويعضّون على الجوع بأنيابهم، وتقرقر بطونهم، وهم حاملين أسلحتهم، يذودون عن الوطن المسجّى، المخضّب بالدماء، المسجون بالاحتلال، المسيّج بالجدران الفاصلة العازلة، المطموس بآثار الأقدام النجسة للغاصب المدلل، يحاولون رفع نيَر الاستبداد عنه، وقول "لا" في خانيونس وجباليا والشجاعية ودير البلح ورفح، في وجه من قالوا "نعَم" في أوسلو وكامب ديفيد ووادي عربة، يطلّ البعضُ من خلف الأقنعة المستوردة، المشتراة قديمًا، المجدَّدَة حديثًا، المدعومة من أجندات في داخل فلسطين وخارجها، لتحميل "المقاومة" نتائج فعلها المقاوم، كأن تلومَ حرةً نبيلةً لم ترضَ بما رضيت به أخريات، في الكثير من الأسرّة المنصوبة، لا تحت الطاولات فقط!
يطلّ علينا الغابرون، العابرون على جثث الضحايا، الشاهدون المجازر والمذابح والمَقاتل، الناقلون للعالم الكثير من الحقائق، المشكورون على الجهود والتوثيق بحد ذاته، لا مشكورون لذواتهم، يخوّنون الماجدين، الثابتين، الصابرين، الصادقين، القابضين على طين الوطن ولو كان جمرًا، اللافظين حلاوةَ "التعايش" ولو كان تمرًا وخمرًا وعُمرًا وزهرًا، الماسكين بما تبقى لهم من طاقة، ما تبقى لهم من عتاد، يدقّون أقدامهم، يغرسونها، في الأرض كالأوتاد، يقولون بملء الفم الجريح: سنبقى هنا أبدًا.
يخرج البعض من غزة ليعالَج بعدما حضر المشاهد العظام كلها، ويخرج البعض مرغمًا خشيةً عليه بعد أداء أعظم الرسالة وفقدان أقرب الأهل ودفعه أبهظ الثمن، ويخرج البعض لينجو من المصير الحتميّ وقد فقد ماله وعياله، ويخرج البعض لهدفٍ آخر، ربما هو أكبر من تستوعبه مخيلة ملايين المتابعين -ولست مخوِّنًا لكني أقرأ الشواهد-، ليطعن من رآهم ثابتين هناك، يحاولون التمسك بالأرض التي باعها الآخرون، وهؤلاء الآخرون تحديدًا، هم من ينتمي إليهم بكل ما في قلبه من تلوث، ويلتقط الصور مع أبيهم، الذي يحافظ في الضفة المحتلة على أمن إسرائيل!
لم يطعن معتز عزايزة رئيسَ السلطة الفلسطينية محمود عباس، ولم يحمله نتائج الاستيطان والاحتلال والتوغل في الضفة وفي أماكن سيطرة السلطة، ولم يحمله نتائج التنسيق الأمني بمطاردة المقاومين في الأراضي الصامدة، ولم يحمّله نتاج عقود من الهوان تحت سلطة أوسلو، ولم يحاسبه على الحقوق التي أتلفها الهوى في أوسلو، ولم يحسب لنا نسبة الأراضي التي ضيعتها حركته المقدسة، أمام تلك التي أبقتها المقاومة حرةً كريمةً طاهرة من دنس الاحتلال واقتحامات الجيش كل ليلة، لكنه في المقابل يلمح إلى الفصائل المقاوِمة في القطاع، بأنها "ما يفرق معها جوع وموت شعبها"، وهي التي جاعت واستماتت دون منٍّ ولا أذى، دفاعًا عن ذلك الشعب المحاصر الذي كان يموت بالجوع فعليًّا ويُقتل من قبل السابع من أكتوبر، وهي تريد أن تنتقم له، وتصفع من يحاصره صفعتها الكبرى، التي هي مجرد تجربة مبدئية لتحرير كبير شامل، تحرير من الاحتلال ومن ذيوله.
يهاجم البعضُ المقاومة بدعوى أنه من غزة أو عاش ما عاشته، رغم أن غزة وأهلها أنفسهم، بغالبية منقطعة النظير، لا يؤيدون المقاومة وحسب، وإنما هم أهل هؤلاء المقاومين، هم آباؤهم وأمهاتهم، وأولئك الشباب أبناؤهم وفلذات أكبادهم، الذين ودّعوهم ليلحقوا بالجبهة، في أياديهم مصاحفهم وفي قلوبهم العهد الذي قطعوه لله، وللأرض، وللوطن، وللأهل، يدافعون بكل خليةٍ فيهم، عن ذلك الحق المقدس، وهم لا يعنيهم مقدار ما سيدفعونه فداءً لتلك القضية، وإن كان يعنيهم ذلك تضحيات ذلك الشعب المكلوم، يبكونه دمًا، لكن لا حيلة للمحتل إلا أن يقاوم!
أن تلوم المقاوم على مقاومته، أن ترضى بالذل و"التعايش"، أن ترضى بالواقع المفروض وتنصهر معه، أن تكف عن الوقوف ثابتًا، راضيًا بالانحناء على القياس الذي يحدده لك المستعمر، أن تتخيل إسرائيل أكبر منك، وحكمها بإذعانك أكبر من حكم الله عليك برفض الهوان، وأن ترضى بالسلطة التي وضعتها، وترضى عنها تل أبيب، ولا تريد لها زوالًا منذ عشرين عامًا، بينما لا تتحمل أن تحكم حماسُ جزءًا ضئيلًا من الوطن ولو ليوم واحد، وأن تقول "نعم، حاضر، شالوم"، هذا تحديدًا هو ما تريده إسرائيل، لا تريد أكثر منه، حتى لو نقلتَ للعالم مجازرها وجرائمها، لا بأس؛ الخيانة تجب ما قبلها!
والذي يقرأ الواقع، لن يغفل أن بيان "حركة فتح" بعد التزامها السكوت المطبق طيلة 6 أشهر من العدوان والإبادة في غزة، مخونةً غزة نفسها، محملةً إياها ذنب دمائها، كأنها جنَت على نفسها حين لم تسلك طريق السلطة الفلسطينية الذليل، جاء بالتزامن مع الحديث عن تقديم شخصيات مخابراتية محسوبة عليها، بالاتفاق والتنسيق مع العدوّ، لحكم غزة في مرحلة ما بعد الحرب، مع تحركات "عربية" لموافقة الهوى العبريّ، بتدعيم ذلك المقترح، وإحلاله بدلًا من مقاومة غزة، ذلك كله لا يأتي منفصلًا عنه إثارة اللغط هذا، عبر تلك التغريدات وما يماثلها، كبالونة اختبار، لما سيُطرح خلال الأيام القادمة، من رام الله، وربما من عواصم عربية أخرى، ربما، ربما.
نهايةً، لا يلوم المقاومة على المقاومة إلا من رضي بالاحتلال حاكمًا، ولا يدّعي البطولة من فصل بين الإنسان الجريح وفطرته في الثأر ممن جرحه، وغزة ليست صك غفران، ولا مبرر دروشة، ولا دلالة طهارة كاملة، ولا خاتم عصمة، لأي أحد، وإنما هي شرفٌ للشرفاء ولو لم يطؤوها يومًا، وحجة على الخائنين، ولو عايشوا فيها عشرين حربًا، والله المستعان على ما يصفون، لا أدنى من ذلك، ولا أكثر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق