الثلاثاء، 12 مارس 2024

بين يدي رمضان.. اعتذارية إلى أهلنا في غزة

 

بين يدي رمضان.. اعتذارية إلى أهلنا في غزة


يا أهلنا في غزة..

فتحت صفحة هذه المقالة ودونت أول كلمة في هذا النص، ولا أدري ما أقول ولا ما سأكتب، ولا أعلم إن كان للاعتذار في ظل المحرقة المستمرة -حتى وإن كان باسم أمة- معنى وقيمة. فهو لن يصد قذيفة أو يمنع قصفا، ولن يوفر رشفة ماء أو كسرة خبز، ولن يحبس دمعة أم أو يدفع إحساسا بالفقد. لكنها سلوى نتعزى بها عن هذا الذي بدواخلنا وما باتت الكلمات قادرة على وصفه، وهي لربّما حاجتنا إلى قول الاعتذار أكثر من حاجتكم يا أهلنا إلى سماعه.

أخط هذه الكلمات المرتجفة الوجلة في أول ليلة من رمضان 1445هـ، وكلي إحساس بعجز الكلام بين يدي مصابكم، وقصور الحروف عن أن ترقى إلى عظيم صنيعكم، صنيع طوق عنق أمة أنتم قلادتها الثمينة وتاجها الذهبي وقلبها النابض بالحياة رغم كل أسباب الموت.

نعتذر إليكم لأننا عاجزون، لأننا مغلوبون ومستسلمون. نعتذر إليكم لأننا أمة كثيرة العدد قليلة الشأن خفيفة الوزن غثاء كغثاء السيل

يا أهلنا في غزة..

اعتذارنا إليكم نابع عن إحساس عميق بالتقصير في حقكم؛ أن تستمر حياتنا على ما هي عليه وأنتم فيما أنتم فيه تقصير، أن نأكل ونشرب وننام ونلهو ونلعب ونضحك ونشاهد الشاشات -ونحن نفعل كل ذلك- تقصير، أن نعد ونستعد بما جرى به العرف الحسن، والقبيح أيضا، من شراء للحاجيات والأطعمة والمواد الغذائية وأن تعد نساؤنا ما لذ وطاب من الأكلات التي نزيّن بها موائد إفطارنا تقصير، أن ننهمك في كل ذلك، وفي حياتنا اليومية الاعتيادية، حتى الثمالة، ثم نفكر في مصابكم للحظات أو نحوقل ونحن نشاهد صور القتلى أو نقرأ خبر التجويع للحظات ونمضي، تقصير وأي تقصير.

يا أهلنا في غزة..

نعتذر إليكم لأننا عاجزون، لأننا مغلوبون ومستسلمون. نعتذر إليكم لأننا أمة كثيرة العدد قليلة الشأن خفيفة الوزن غثاء كغثاء السيل، ترى أبناءها يجرون يوميا إلى ساح الذبح في غزة، وهي ترى وتسمع ولا تتكلم. والغصة أن ما يشبه هذا الهوان يتكرر كل حين؛ في العراق وأفغانستان، كما في سوريا وليبيا واليمن، كما في غزة والضفة وكل فلسطين، تعددت السياقات والقهر واحد.

نعتذر لأننا أمة خاضعة مقهورة، قهرها حكامها الظلمة الذين باعوا الدين بالتين وارتضوا العاجلة على الآجلة، وها أنتم يا سادتنا ترون كيف أنهم يواصلون حصاركم في سقوط مخز، وكيف أنهم لم يحرّكوا ساكنا رغم كل الأهوال التي تعرضتم وتتعرضون لها، والتي حركت -يا للمفارقة المحرجة- دولا ورؤساء وحكومات غير عربية وغير مسلمة، في صنيع سيخلدهم غير مأسوف عليهم في مزابل التاريخ.

نعتذر إليكم لأننا لم نكن في مستوى المرحلة، ونستسمحكم أننا لم نرق إلى ما تستوجبه اللحظة. نعم، وقفنا وصدحنا واحتججنا وقاطعنا ودعونا وبكينا، ولكن نعلم جميعا أن كل ذلك أقل مما كان ينبغي

يا أهلنا في غزة..

نعتذر إليكم بشدة، لأننا تركنا العدو يفعل بكم كل هذا الذي يفعل؛ يقصف المدنيين الآمنين وهو مطمئن، ويقنص الشيوخ والأطفال وهو آمن، ويقتلهم تعطيشا وتجويعا حتى يلجئهم إلى علف الدواب وهو غير آبه، ويأسر النساء ويغتصبهن وهو غير مكترث بنا ولا بتهديداتنا. إلى هذا الحد بلغ بنا الهوان والضعف: أن نترككم إلى مصيركم، وأن نسلمكم إلى عدوّكم، وأن نرفع راية الاستسلام عند أول منعطف، وأن نمضي إلى حال سبيلنا وأنتم في معمعان الموت الزؤام؟!

كنتم تستحقون بشرا غيرنا، أكثر إيمانا، وأقوى شكيمة، وأشد بأسا، وأرصّ صفا، وألصق بقضيتهم. ولكننا قدركم كما أنتم قدرنا الجميل، فاقبلوا عذرنا أيها الكرام، وغضوا الطرف يا شعب الجبارين، وتجاوزوا عن التقصير يا أحب شعوب الأمة إلى الأمة، واصبروا حتى نرشد كما رشدتكم ونشب كما شببتم ونقوى كما قويتم، واقبلوا منا قليل الضعيف العاجز حتى يستوي الزرع على سوق القوي القادر.

يا أهلنا في غزة..

نعتذر إليكم لأننا لم نكن في مستوى المرحلة، ونستسمحكم أننا لم نرق إلى ما تستوجبه اللحظة. نعم، وقفنا وصدحنا واحتججنا وقاطعنا ودعونا وبكينا، ولكن نعلم جميعا أن كل ذلك أقل مما كان ينبغي، ودون ما يجب، وأضعف مما كانت تقتضيه المعركة. لقد تفوقتم علينا كثيرا، وقطعتم أشواطا طويلة على الطريق، حتى بدا الفرق واضحا بينكم وبيننا؛ مقاومتكم الباسلة الصلبة المعطاءة حفرت في الصخر وصنعت شيئا إعجازيا أقرب إلى "معجزات الأنبياء"، وشعبكم الصبور المحتسب المتوكل قدم صورة أسطورية هي أحجية الزمان.

نعتذر إليكم على ما فات، ونعتذر إليكم فيما هو آت، إذ سنواصل تقديم "ما نستطيعه"، وهو قليل وقاصر وغير مؤثر، وستواصلون ما تحسنونه؛ المقاومة والصمود والرسوخ وتقديم النفس راضية زاكية إلى ربها بين يدي قضيتكم وقضيتنا العادلة. سيمضي الأمر على هذا المنوال وهكذا؛ أنتم في معركتكم الوجودية لوحدكم، ومعكم ربّ كريم يسوق الأمر إلى قدر مقدر بعلمه وحكمته سبحانه، ونحن معكم بقلوبنا المنفطرة المكلومة وبسيوفنا الخشبية المكسورة.

يا أهلنا في غزة..

نعتذر إليكم يا أشرف الناس وأعز الناس وأكرم الناس.

آواكم الله، حفظكم الله، نصركم الله، ثبَّتكم الله، أيَّدكم الله. نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله.


عبد الرحمن خيزران شاب من المغرب، أصالة عن نفسه ونيابة عن كل من يشعر بالعجز، لعله يجد في هذه الاعتذارية شيئا من السلوى في الدنيا وبراءة بين يدي ربه في الآخرة.

الليلة الأولى من فاتح رمضان 1445 هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق