الأربعاء، 13 مارس 2024

بيني وبينك.. ما الّذي يُبكِيه؟!

 

بيني وبينك.. ما الّذي يُبكِيه؟!

ينظر الأبُ من خلال عينَين مَلِيئتَين بالدّموع لا يَكادُ يَرى. لم يكنْ يُبكيه أنّ رمضان قد هَلّ وليس على (الطّبليّة) إلّا البطاطا المسلوقة الّتي جَمَعها من الأرضِ من بقايا قد تعفّنَتْ أو تعفّنَ أكثرُها. ولا طَعامَ إلّا ما يسدّ الرّمق، ولا يسدّه، مع أنّ الجوع الّذي لا ينتهي في غزّة يُبكّي الحجر. الجوع الّذي بدأ يسحبُ معه إلى وادي الموت كلّ يومٍ عشرةً أو عشرين، وَمَنْ يدري؟ ربّما في هذا الشّهر سيزداد الموتُ جوعًا، فيسحب معه المئات غيرَ عابِئ بأعمارهم، فالموت لا يرى، إنّه بلا عيون، وحينَ يبتلع لُقمته يبتلعُها بصمت، ودون أنْ يفرّق بين طفلٍ وامرأة أو بين شابٍ وعجوز… وإذا لم يكن الجُوع ما يُبكيه. فما الّذي يُبكيه إذًا؟!
ينظر من جديدٍ إلى (الطّبليّة) وتغرورق عيناه بالدّموع، يمسحها بطرفِ كُمّه المُتّسِخ، تنهمر أسرعَ كلّما تذكّر، يُحاول أنْ يُبطِّئ جَرَيانها فلا يكادُ ينجح، يكتم شهقةً حتّى لا يسمعه المُتحلّقون حول المائدة الّتي ليسَ فوقَها إلّا صنفٌ واحدٌ من البطاطا غير الصّالحة للأكل، ورغيفان عُجِنا من علف الدّواب، وكوزِ ماءٍ آسن… تخرجُ شَهقتُه رَغمًا عنه. ليسَ الماء المالح ولا الخُبز العفن ما يُبكيه، وإنْ كانا سببًا للبُكاء لو أراد أمام عائلته الّتي تتضوّر جُوعًا وتنتظر منه أنْ يؤمّنها من خوف ويُطعِمها من جوع، ولكنْ هيهات… فما الّذي يُبكيه إذًا؟!
يرى الشّحوبَ بادِيًا على وجه طِفلته، يتذكّر كيفَ كيفَ كانتْ تحتضنُه ضاحِكةً مُشرِقة الوجه كلّما عادَ لها بقِطعةٍ من الحلوى أو الشّيكولاتة، غاضَ اليوم ماءُ وجهها، وذابتْ ضَحِكتُها، وأُطفِئَ النّور في عينَيها.. لكنّ ذلك ليسَ ما يُبكيه. ينظر إلى أخيها الّذي يجلِسُ إلى جانِبها ينتظر أنْ يأذنَ له بالبدء بالطّعام، فمنذُ خمسةِ أيّام لم يدْخلْ جوفَه غيرُ الماء، وها هما عيناه أشدّ شحوبًا من عينَي أخته، قد غارتا في مَحجرَيهما كأنّهما لا تريدان أن تَرَيا هذا العالَم الظّالم، وقد بدأتا تنوسان كأنّهما لم تَعُودَا تكترثان إذا سقَطَتا في الظّلام ما دامت الحياة ظالِمةً مُظلِمة… ينظر إليهما أسِيًّا لكنّهما ليسا سببًا في بُكائِه، وإنْ كانا سببًا في بُكاء كلّ أبٍ؛ فما الّذي يُبكيه إذًا؟
إنّها هي، هي سببُ هذه الدّموع، لقد فرغَ مكانُها مُذْ رحلتْ، لم يكنْ رحيلُها كأيّ رحيلٍ، كانتْ له الحياةَ كُلَّها، فلمّا رحلتْ أخذتْ معها هذه الحياة، فلم يعدْ لها مِن بَعدِها طعم، وأظلمتِ الدُّنيا في عينيه فما أشرقتْ من بعدِها شمس… إنّ الطّاولةَ تشهدُ على غيابها، كانتْ جدار روحه، فلمّا انهارَ الجِدارُ بموتها انهارتْ معه روُحه؛ فعلى أيّ نحوٍ يُمكن للحياة بعدَ ذلك أنْ تُعاشَ… نعم إنّه يبكي رفيقةَ دربه، تلك الّتي كانَ يُمكن أنْ تُعوِّضَ كلّ شيءٍ، ولا يُعوّض عنها اليومَ أيّ شيء!

AymanOtoom@

otoom72_poet@yahoo.com

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق