الخميس، 7 مايو 2015

إنحطاط 64 عاما فى 24 ساعة !!

إنحطاط 64 عاما فى 24 ساعة !!
أحمد القاعود


تشاء الأقدار أن أعيش تلك التجربة، التى طالما قضّت مضجعي، ولا تذهب عن مخيلتي ليل نهار، وهي معاناة عشرات الألاف من المعتقلين والثوار الذين يدفعون الثمن غاليا من حريتهم من أجل هذا الوطن ولحرية هذا الشعب.

كلنا على يقين أن الشهداء مصيرهم الجنة، وأنهم مختارون من المولي جلّ وعلا، ليجاوروا النبيين والصديقين فى جنات ونهر، أما أولئك المختارون أيضا ليكون مصيرهم الأسر وتحمل ويلات العذاب المادي والمعنوي من سلطة إرهابية، فانهم إلي جانب بلائهم وبلاء أسرهم الصابرة المحتسبة، يمثلون أيضا بلاء لفئة أخرى، تنتمي لطبقة الضمير، تشعر بهم وتحس بألامهم وتناضل من أجل تخليصهم من هذا البلاء.

يأتي غربان الشر وجنود السطان فجرا، لاقتحام المنزل، ضابط صغير السن والقيمة أيضا، يقود عددا من الشبيحة، مدججين بالأسلحة، البعض مقنع والبعض لا، لا إذن نيابة ولا إذن قضاء، لا حرمة لمنزل ولا حرمة لأسرة ولا حرمة لمصري، تحت حكم نظام خياني، يكره بالضرورة المصريين ويعمل ضد مصالحهم.

يقتحم الارهابيون المنزل، يدخلون بلا استئذان يوقظون الجميع، يطلب قائدهم صغير القامة والقيمة بصلافة ووقاحة، من والدي أستاذ الأدب العربي المرموق والناقد المعتبر فى مجاله، أن ينهض من على السرير للتفتيش تحته، بينما تكيل والدتي الدعاء عليهم وهم لا ينطقون.

يعلم الهجامة الأشرار أن ما يفعلوه أبعد ما يكون عن الحق والحقيقة، فباعتراف كثيرن منهم يؤكدن أنهم لا ذنب لهم فيما يحدث لأنها الأوامر الصادرة باستقدام “فلان” واتهامه بتهم جاهزة يعلمها الجميع، ومع ذلك فانهم مستمرون فى ارتكاب الجريمة.

بعد الاعتقال يصطحبني عشرات الارهابيين، إلى سيارة شرطة مملوكة للشعب وأنا جزء منه، تمضي السيارتان فى القرية لجلب مزيد من الأبرياء، ومنذ وعيي على الحياة لم أشهد ولم يصل إلى علمي أن هناك مظاهرة واحدة نظمت فى المركز كله، ناهيك عن قرية يختفى البشر من شوارعها فى حوالي الساعة التاسعة مساء، اللهم إلا مظاهرة، نادرة الحدوث، للتضامن مع فلسطين، وقت أن كنت فى المدرسة الثانوية، شاركت فيها وذهبنا إلى مجلس المدينة حيث التقى بنا رئيسها.

تصل السيارة إلى بيت شيخ جليل، يعمل مفتشا بوزارة الأوقاف، ليحضره السرّاق من مخدعه إلى “البوكس” محمر العينين، لا يدرك مالذي يحدث ولماذا أخذ من منزله، تدور القوة الهمجية للاتجاه إلى منزل شاب أخر يعمل إماما وخطيبا، و أمام ناظري، أشاهد عملية إرهاب السلطة ضد مواطنين أبرياء. 

لا يطرق الجناة الأبواب، يحمل أحدهم كتلة من الحجارة ويضرب بابا خشبيا حتي ينكسر، يدخلون، ينتشرون فى المنزل، يرهبون أهل الضحية المنتظر، قبل استقدامه، تبكي الأم بحسرة وهم ينتزعون منها فلذة كبدها بدون سبب وبدون اتهام.

نذهب إلى منزل برىء أخر، لحرمانه من حريته، فلم يجدوه يأتي “الصغير” مغتاظا من عدم وجود ضحيته الرابعة، فالشهوة للظلم تتسع باتساع المدى الزمني للخدمة تحت إمرة الشيطان.

تخرج المليشيا للمدينة “الأم” لتستقدم محاميا بلغ من العمر 65 عاما، عرفت فيما بعد ومن خلال المشاهدات أنه معلوم لدى القاصي والداني، يقدرونه ويحترمونه، سواء كانوا فى الشرطة أو النيابة، أو المواطنين.

عندما كنا فى النيابة، كان الجميع يذهب لمصافحته والتضامن معه، محامون أمناء شرطة مواطنون، يتضامنون معه، لكنه العبث السائد، يعترف الجميع ببرائته، ومع ذلك يصمتون أيضا على محنته.

فكل ما يحدث لا علاقة له بالقانون، أو حتى دستور 2014 الذى أقر تحت جنازير الدبابات وقصف الدعاية السوداء المسماة زورا فضائيات.

وصلنا إلى مركز الشرطة فى حوالي الثانية ونصف صباحا، دخلنا نحن الأربعة الأبرياء إلى غرفة فى الطابق الثاني، بها مكتبين اداريين، جلسنا على أريكة خشبية، كان أول ما وقعت عليه عيناي نتيجة ورقية تصدرتها الأية الكريمة ” قل لن يصينا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون” كانت كلمة هو مولانا فى مركز الصورة، وبالتالي أراحت البال وسكنّت الخاطر.

بعد فترة طلبت دخول دورة المياه، وسمح لنا بسماحة أمين شرطة، فيما أعتقد. ذهبنا واحدا تلو الأخر، عندما عدنا قيدنا بالكلابشات، واعتذر لمفتش الأوقاف وهو يغلقها على يده ” أنا أسف ياعم الشيخ”، تبادلنا أطراف الحديث مع الأمين ولحق به بعد فترة زميل أخر له، كان الجميع يتناقش سويا فى أمور الحياة، إلى أن جاء الشبيحة، بعد فترة، برجلين أخرين، منهم واحد انضم إلينا وأصبحنا خمسة، وأخر ضبط بمسدس صوت.

ظللنا على حالنا حتى الساعة السابعة والنصف تقريبا أنزلونا بعدها إلى الحجز فى الطابق الأرضي، باب حديدي ضخم يكشف عن طرقة طويلة كئيبة المنظر، على جانبيها عدد من الأبواب الحديدية، أول ما ورد إلى ذهني، الأقفاص الخلفية فى حديقة الحيوان التى تبيت بها الوحوش بعد نهار من العرض المهين أمام البشر.

فى الزنزانة أو القبو الكئيب سيئ الرائحة، كان هناك ثلاثة أشخاص ينام اثنان منهم فى ركنين من الغرفة، وثالث مستيقظ ينتظر إخلاء سبيله بعد 13 شهر سجنا عقوبة، فى قضية حشيش، عرفت من خلال نقاشه مع الشخص المحتجز بمسدس صوت، أنه واع لما يحدث فى مصر ويعرف كمية النصب والتزييف التى يمارسها الاعلام، ومدرك لفشل قائد الانقلاب ونظامه فى النهوض بالبلد.

بعد نحو ساعة خرجنا من الزنزانة غير الأدمية، لسيارة الترحيلات التى لاتقل عداء للبشر عن القبو الذى كنا نحتجز فيه، أخرجنا من الحجز ضابط برتبة نقيب سيئ الخلق ووجه للبعض شتائم.

أول ما خرجت من باب المركز رأيت أمي وأختي، لوحت إليهم ولحوا إلي، لمست حقيقة المعاناة التى تعانيها أسر المعتقلين، ومدى الضرر الذى يلحق بهم، وتحول الاحساس المعنوي بألام هؤلاء إلى احساس على أرض الواقع.

فى سيارة الترحيلات المنفرة انتابني شعور 37 شهيدا قضوا خنقا بالغاز نتيجة وحشية المليشيا التى كانت تقلهم، عندما بدأ البعض فى التدخين لم أتصور كيف لإنسان ينتمي لبني البشر، أن يطلق قنابل الغاز فى علبة صفيح، بها 37 انسانا لا يستطيعون التنفس فى الظروف الطبيعية من عدة فتحات فى جوانبها لادخال الهواء.
حادث سيارة الترحيلات الرهيب، الذى تلا مذبحة رابعة المروعة بحق الانسان، كان علامة فارقة على وحشية وإجرام سلطة 30يونيو، فى هذا اليوم فقدت مصر ما بقي من إنسانية، وانتزع منها الضمير.

في المحكمة صعدنا إلى النيابة فى الطابق الثالث، أوقفونا مكبلين بجوار الحائط جاءت الأسر بالطعام والعصائر والماء، افترشنا الأرض من التعب فى انتظار صنف أخر من صنوف أنصاف الألهة الذين ابتليت بهم مصر المحروسة، التى أصبحت خرابة فى عهد انقلاب العسكر المشؤوم.

انتظرنا من حوالي التاسعة أو قبلها إلى ما قبل العصر، ونحن نفترش الأرض كان العديد من المواطنين فى المحكمة والموظفين يأتون لالقاء السلام، فهناك محام مقيد يعرفه الجميع، وإمام أيضا له شهرة معقولة ومكانة تسمح للناس باعلان التعاطف وإلقاء كلمات الدعم والثبيت. كان الجميع يدرك المهزلة ويقرون بها.

عندما أدخلونا لوكيل النيابة، تجادلت معه كثيرا بعد معرفة التهم الموجه إلينا وهي تهم أحيكت بواسطة شيطان، كان أبرزها التظاهر الساعة عشرة ونصف ليلا، أمام مسجد القرية وحمل السلاح والملوتوف ورفع لافتات تحرض على نظام الحكم، والمطالبة باعلان الخلافة الاسلامية بقيادة الرئيس محمد مرسي، أجبرته فى النهاية على الاقرار أمام الجميع بأن ما يحدث لا علاقة له بقانون، فهي بالنسبة إليه قضية سياسية، لا يمكنه فيها اتخاذ إجراء، وأمام الاصرار على عدم منطقية الحدث، تحدث بصفاقة وقال لى إذا تحدثت أكثر من ذلك “سأقل أدبي عليك”.

بعد ساعات من الإدلاء بالأقوال عدنا إلى مركز الشرطة مع أذان المغرب، لانوم من يومين ولا راحة، ولا طعام رغم كثرة ما أحضر لنا، بعد ساعات وبعد تدخل نقابة الصحفيين وصدور بيانات عن مراكز حقوقية، وانتشار خبر الاعتقال فى وسائل الاعلام وتضامن العديد من الزملاء والأصدقاء معي، تقرر إخلاء السبيل مع الأربعة الأبرياء، الذين لم يكن يعلم مصيرهم إلا الله، عندما هممنا بالخروج من القبو، نظرت إلى نافذة حديدية فى قبو أخر بجاورنا وجدت من يلوح لي، كان أحد شباب القرية المحترمين معتقل منذ أربعة شهور، ويعمل صيدلي فى وزارة الصحة، عندما رأيته أثار الموقف حزني، على مصيره، فكيف لانسان أن يحيا فى هذا المكان أربعة أشهر، وينتظر الحكم عليه فى نفس التهم الموجهة إلينا، ووضع تاريخ حدث الاتهام له بعد أربعة أيام من الاعتقال، صافحته ودعوت له وبشرته بقرب الانتصار.

أربعة وعشرون ساعة كانت مختصرا لنحو أربعة وستين عاما من الحكم الاجرامي، ذلك الحكم العسكري البغيض الذي لم يجلب لمصر سوى الخراب وإهانة الانسان، بدءا من عهد السفاح عبدالناصر وانتهاء بعهد السفاح السيسي، تمثل فيها الغياب المطلق للعدالة والكرامة والأمن، وكانت نموذجا لاحتقار المصريين، ظهرت فيها الطبقية والخسة والظلم وشهادة الزور، وكيف يسيطر أسوأ من فى مصر على أفضل من فيها، وكيف يعلم الجميع براءتك وكيف يقومون بادانتك.

هذه الصورة ليوم كامل من العذاب لاتعتبر شيئا يذكر، ويكون من الوقاحة مقارنتها، بتضحيات عشرات الألاف من المصريين من أجل حرية هذا البلد، عمليات القتل والتعذيب والانتهاك والاعتقال والاهانة اليومة، مستمرة بحق هؤلاء، إذ يعتبرهم من فى السلطة كائنات بلا حقوق، ومع كل هذه المأسي هناك من يقف مع سلطة النصب والدجل والشعوذة، ويردد فى بلاهة “تسلم الأيادي”.

استمرار الحكم العسكري لن يدوم، والتضحيات مستمرة والثبات أسطوري، يوما ما سيحاكم كل هؤلاء القتلة المجرمين ويقتص الشعب منهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق