.. بالمناسبة هو ليس إخوانياً
وائل قنديل
يتحدث أحدهم بكلمات تفيض عذوبة، ورهفا، وحسا إنسانيا طاغيا، وهو يسرد واقعة ظلم أو تعذيب أو تنكيل، تعرض لها مواطن على يد أجهزة القمع في الدولة، وتكاد، من فرط إبداء تألمه وامتعاضه من الوقائع التي يرويها، والتي، في العادة، تخص قريباً أو جارا له، تكاد تنسى أن الشخص ذاته كان متورطا يوما في تأييد سفك دماء خصومه السياسيين، بل ومحرضا على ذلك، بل وتوشك أن تصدق أن الرجل استرد أدوات الإحساس المعطلة، وتخلص من طبقة الجلد السميكة التي كانت تحول بينه وبين الشعور بأوجاع البشر.
غير أنه، فجأة، يخرجك من كل تصوراتك، ويخلع قناع الإنسانية، حين يطعنك بجملة في نهاية القصة تقول "وبالمناسبة هذا الذي تعرض للظلم والإهانة ليس من الإخوان، كي يحدث معه كل ذلك".
وبلغة الدراما، تلك هي الجملة المفتاح، أو المعيار الأمثل لتعيين الحد الفاصل بين الإنسانية وسواها، إذ تفضح مثل هذه الجملة زيف الحالة الإنسانية المصطنعة وهشاشتها، وتكشف عن أن من يرددها يكون إنسانياً ومرهفاً، فقط في ما يتعلق بأصدقائه ومعارفه، ولا مانع أن يكون فاشياً وعنصرياً، إذا كان الأمر يتعلق بخصومه.
وكأن كون الإنسان إخوانياً يوجب عليه اللعنة، بينما كونه ضد الإخوان، أو ليس منهم، يمنحه صك النجاة من القمع والبطش والظلم.
ولقد طفحت هذه المظاهر العنصرية، كأوضح ما يكون في فترة التمهيد للانقلاب العسكري، حين اعتمدت ورش الدولة العميقة قائمة تصنيفات وتعريفات مجتمعية، وزعتها بوفرة على وسائل إعلامها، وفرضتها كـ (Style book) لا يخرج عنه أحد، ومع الإلحاح المتكرر على هذه المفردات، تكرست عقيدة استحلال حياة الخصوم، الأعداء، الخرفان، الإخوان، لدى مجموعات الثورة المضادة، ورأينا ناشطين سياسيين، يمارسون الحرق والسحل وإلقاء الحجارة، وتشجيع القتل على الهوية، في محطات عدة، كان أبرزها ما جرى في حي المقطم مارس/ آذار 2013، من عمليات تحريق وتنكيل وتقتيل لكل من يحمل ملامح تشير إلى احتمالية أن يكون من الإخوان المسلمين.
وأذكر، في ذلك اليوم البائس، أن زميلا صحافيا شابا كان يغطي الأحداث، وبالمصادفة، لم يكن حليق الذقن في ذلك اليوم، وحين حاول الخروج من مسرح الكارثة الإنسانية، عائدا إلى مقر صحيفته، الليبرالية الثورية، استوقفه بعض سكان الحي، وتوسلوا إليه ألا يتحرك بهيئته هذه التي تجعله قريب الشبه بالإخوان، وإلا سيتم الفتك به، ودعاه أحدهم للصعود إلى منزله، لحلاقة ذقنه، لكي يستطيع المرور من كمائن الفاشية المدعومة إعلامياً، وقد حدث.
وبالأمس، اشتعلت حقول الميديا بقصة سيدة المطار التي أهانت ضابط شرطة، بدا سعيداً وهو يتجرع كأس الإهانة، حريصاً كل الحرص على التأكد من دقة تصوير واقعة تعدي السيدة عليه لفظياً وبدنياً، لتنطلق بعدها بكائية في وسائل إعلام السلطة على الشرطة الرقيقة البتول التي تتعرض للعدوان، كي تحفظ للوطن والمواطن أمنهما، لتنساب دموع الألم والتأثر على وجه صحافة كانت تضع عناوين تصفية الشرطة لمواطنين مصريين "إخوان" بالأحمر الفاقع، وتكاد تعلق في كل كلمة من العنوان وردة، ابتهاجا بالقتل السعيد.
هي الازدواجية ذاتها التي جعلت مرهفي الحس المزيف من رموز الإعلام الأمني يذرفون الدموع على كلب شارع الأهرام في منطقة شبرا، ولا يتوقفون عند واقعة قتل محامٍ، بعد تعذيبه في قسم شرطة المطرية، على الرغم من التزامن بين الواقعتين.
وهي، أيضاً، تلك العنصرية البغيضة التي تجاهلت واقعة استشهاد الصغيرة المحجبة، سندس رضا، في الإسكندرية، وصنعت من استشهاد شيماء الصباغ ملحمة ثورية.
الإنسانية الحقة هي أن تكون مع الإنسان بما هو إنسان، وتحترم حقه في الحياة، وفي الحرية والكرامة، لا أن تكون مع الذين تحبهم، وضد الذين لا يعجبونك، فتصير لديك حياة الأصدقاء والمعارف غالية ومصونة ومقدسة، بينما حياة الخصوم لا تهم.
أما الاستبسال في الدفاع عن حقوق "إنسان تحيا مصر"، والتفاني في المطالبة بحرية وكرامة "إنسان السيسي" وحده، بينما الآخرون لا حقوق لهم، فهنا قمة الفاشية، ومنتهى الانسلاخ عن الإنسانية.
ويبقى السؤال الأهم في هذا السقوط الاجتماعي المشين: كيف لمصر أن تنهض من هذا الوحل الاجتماعي والإنساني، حتى إذا زال الانقلاب؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق