معنى “لا إله إلا الله” وآثارها
محمد إلهاميكان أول ما طلبه النبي حين بُعِث في مكة أن يشهد الناس بأنه “لا إله إلا الله”، ولأن القوم كانوا يعرفون معنى هذه الكلمة، ويدركون فيها انتزاعًا لسلطانهم، وكبحًا لأهوائهم، وتسوية بينهم وبين عبيدهم، وإلزامهم بما لا تشتهيه نفوسهم من أخلاق وشرائع وأوضاع، فإنهم نفروا من هذه الكلمة وحاربوها أشد المحاربة(1)، وطفقوا يلتمسون عيبًا في القرآن بعد أن اعترفوا ببلاغته وقوته وعجزوا عن مثله، كما طفقوا يلتمسون عيبًا في النبي، على الرغم من أنهم شهدوا له طوال أربعين سنة بالصدق والأمانة والعفاف، تُرى ما السر في كل هذا؟!
أولاً: التحرر
السرُّ في أن القوم كانوا مثل “المذنب في ساحة القضاء بعدما انكشفت جريمته وثبتت إدانته”، فإن القوم الذين كثرت بأيديهم الأموال عجزوا جميعهم عن جمع مال حلال يكفي لإكمال بناء بسيط كالكعبة فتركوه ناقصًا(2)، ففي ذلك دليل اعترافهم على أنفسهم بالغرق في الباطل والحرام، فكان أقسى ما يأتيهم دعوة تنطق بالحق، وتبغي تغيير الأوضاع وإتمام مكارم الأخلاق! فالتوحيد “هو قاعدة الفكر الإسلامي، ومن ثَمَّ القوة المُحَرِّكة والمُوَجِّهَة لفلسفة ونظام المجتمع الإسلامي، فنقطة الانطلاق هي تحرير الإنسان من عبودية الإنسان، وعبودية الأوهام، وعبودية الكائنات والطبيعة، فهو حرٌّ مطلق، منذ لحظة تسليمه بالعبودية المطلقة لله سبحانه وتعالى، أو بقبوله شرح معنى “لا إله إلا الله.. نفي وإثبات” وطرح هذا الفهم وقبوله، يقود إلى رفض الاستكانة لاستبداد السلطة”(3).إن عقيدة التوحيد تدمر سلطان البشر، فلا سلطان لأحد على أحد إلا بما أمر الله، وذلك يعني سقوط شرائع الاستعباد والإذلال، وسقوط مسالك الغلبة والقهر والظلم، وهي روح هادرة تنبعث في نفوس المظلومين والمقهورين لتحررهم من سلطة الملوك أو الكُهَّان أو السادة؛ لتجعلهم وجميع البشر سواءً، كلهم أمام الله سواء، كلهم يخضعون لمنهج الله ودينه، كلهم يتفاضلون بالعمل الصالح الذي يملكونه لا بأحساب وأنساب لم يخترها أحدٌ لنفسه. إنه التحرر الكبير الذي يخلق جيلاً حرًّا، مخلصًا، ثائرًا، مصلحًا، متفجر الطاقات والمواهب، مستعينًا بالله تبارك وتعالى على مهمته الجليلة.
ثانيًا: المسئولية
والمسئولية ابنة التحرر، فهو يُنْتِجها، بل هي التطبيق العملي له، فلا معنى للتحرر من دون استشعار واجب تحرير الناس من أغلالهم وقيودهم، وهذا المفكر الفرنسي الشهير الذي انتهى إلى الإسلام – رجاء جارودي – يتحدث عن التوحيد؛ فيكون أول ما يلفت نظره هذه الحركية التي تنشأ عن استشعار المسئولية، والتي تنافي التواكل والسلبية، يقول: “سوف يكون غريبًا اعتبار عقيدة – قادت المسلمين في غضون ثلاثة أرباع القرن إلى تجديد أربع حضارات كبرى، وإلى الإشعاع على نصف العالم – عقيدةً قَدَريةً منقادة، هذه الدينامية في الفكر والعمل هي عكس القدرية؛ لقد اقتادت ملايين الناس إلى التأكد من أنه كان يمكنهم أن يعيشوا على نحو آخر”(4).وكما أن التحرر يقود المسلم إلى أن لا يقهره أحد، ولا يتحكم فيه أحد، فإنه يقوده – أيضًا – إلى ألا يمنعه عن القيام بواجبه أحد(5)، فهو خليفة الله في أرضه لرفع الظلم عن المظلومين جميعًا، هذه هي الخلاصة التي شرح بها ربعي بن عامر مهمة المسلمين أمام رستم قائد الفرس قائلاً: “الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج مَنْ شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان
إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمَنْ قبلَ منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدًا؛ حتى نفضي إلى موعود الله”(6).
ثالثًا: انتفاء الواسطة بين الله وعباده
وانتفاء هذه الواسطة يدعم “المسئولية” من جهتين؛ الأولى: رفع القيود والعوائق عن القائم بالمهمة؛ فلا يتوقف لانتظار إذن من أحد في تنفيذ تكليف إلهي، ولا يُسَلِّم لأحد قياده في غير معروف؛ إذ “السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى المَرْءِ المُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ”(7)، و”لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ”(8).
والثانية: هو وضع المسلم أمام رقابة ربه، لا أمام ملك أو رئيس أو كاهن أو شيخ، فيعجز عن الخداع والالتفاف والمناورة، بل يستقر في ضميره أن يقوم بواجبه على الوجه الذي يرضاه الله، فإذا أخطأ أو قَصَّر أو تكاسل لم يسعَ في إخفاء هذا أو تبريره أو التنصُّل منه، فكل هذا مكشوف عند الله الذي {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7]، و{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]، بل يكون السعي في التوبة والرجوع ورفع آثار الخطأ والتقصير.
رابعًا: تحديد مصدر المعرفة
وذلك أن التأسيس للتوحيد يستتبعه الإجابة عن الأسئلة الوجودية: ما الإنسان؟ ما الطبيعة؟ أين كنا قبل الوجود؟ وأين نصير بعد الموت؟ وما معايير الصواب والخطأ؟ وكيف نفرق بين الحسن والقبيح؟ وكيف ينبغي أن نحيا في هذه الدنيا؟ وما دورنا فيها؟ وما علاقة الإنسان بغيره من البشر أو بغيره من الكائنات؟وهذه الأسئلة الثلاثة الأخيرة هي ما يهمنا أن نركز عليها في مقام بحثنا الآن، وسنجد في كتاب الله الجواب، وموجز هذا الجواب وخلاصته الأخيرة تجمعها آيتان في كتاب الله؛ قال تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وقال تعالى {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} [الأحزاب: 72].
وبهذا سنبصر كيف أن الله حَمَّل بني آدم مسئولية وأمانة الأرض كلها، بكل ما عليها من مخلوقات: البشر والحيوان والنبات وحتى الحشرات والجماد! وذلك أرفع معنى وأسمى مقام في قضية “استشعار وتحمل المسئولية”، وهو ما نتعرض له بتفصيل أكبر في المقال التالي إن شاء الله تعالى.
المصادر
(1) محمد الغزالي: فقه السيرة ص79.
(2) ابن هشام: السيرة النبوية 1/194 وما بعدها.
(3) محمد جلال كشك: السعوديون والحل الإسلامي ص89، 90.
(4) رجاء جارودي: وعود الإسلام ص32، 33.
(5) يقول الشيخ محمد عبد الله دراز: "حق الوالدين (وهو أعظم الواجبات بعد التوحيد) لا يخولهما سوى سلطة محدودة ومشروطة، ذلك أن هذه السلطة لا تتوقف فقط عندما يطلبان منا أن نخون الإيمان، أو نرتكب ظلما أيا كان {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت: 8]، بل إن الوضع ينقلب عندما يرتكبان ظلما، وحينئذ يجب على الأولاد دعوتهما إلى الواجب، وبوسعهم أيضا أن يوقفوهما أمام القضاء، ألا ما أعظم ما يشعر به المسلم نحو أبويه من احترام وما أعمق ما يكنه لهما من حب، ولكن حبه للحق واحترامه للعدالة يجب أن يرجح عنده. وعلى حين يُحَرِّم قانون نابليون على الابن أن يشهد ضد أبيه وأمه في قضية مدنية أو جنائية نجد أن القرآن يقول بعكس ذلك". دستور الأخلاق في القرآن ص143، 144.
(6) الطبري: تاريخ الطبري 2/401.
(7) البخاري (6725)، ومسلم (1863).
(8) مسلم (1840).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق