الوعي ينزف من ثقوب الذاكرة:
هوًى غربىٌّ ؟..أم استكبار غبىٌّ ؟!..
المفكر الإسلامي الدكتور محمد عباس
إذ أننى و أنا أكتب لكم لا أعرف من أين أبدأ ولا كيف أنتهى ….
فالمتاح من الصحيفة بعض صفحة، يقرأ بعضها بعض القراء …
والمتاح فى الكتاب بضع مئات من الصفحات يقرأها عدد أقل بكثير ممن يقرءون الصحف..
فهل أستطيع فى هذا البعض من البعض أو البضع أن أنقل لكم أنباء فتن كقطع الليل المبهم تعاقبت علينا قرونا تلو قرون …
فتن تدع الحليم حيران إن كان ما يزال فينا حليم …
هل أستطيع فى بعض ساعة أن أنقل لكم خيبة قرون وقرون؟…
عجز قرون وقرون …
هل أستطيع أن أمارس بعض تلك الممارسات التى يختلط فيها العبث بالفن بالخرافة ، كأن أكتب المصحف كله على حبة أرز، أو التاريخ على حبة قمح ، أو أن أملأ الأنهار بدمع العين؟!..
هل يمكن أن أختزل لك التاريخ فى صفحة أو مائة صفحة أو حتى ألف صفحة؟!..
وليتنى كنت أسرد لكم التاريخ على عقل خلى… يستطيع الاستيعاب والتزود بالمعرفة دون عائق … لكننى إذ أقول ما أقول أواجه فى عقولكم وذكرياتكم ضده وعكسه… أواجه البرنامج التعليمى الذى وضع أسسه دنلوب وما زال ولاة أمورنا يطورونه ويعدلونه فى اتجاه تعاليم دنلوب…
وهذا يشبه أيها القارئ أن تجعل من إبراهيم عبد الهادى هو المرجع لك عن الإمام حسن البنا …
أو من عبد العظيم رمضان مؤرخا وحيدا لجمال عبد الناصر…
أو فؤاد علام فيصلا فى الحكم على الإخوان المسلمين …
أو من سعد الدين إبراهيم مؤرخا للوطنية...
أو من اعتماد خورشيد مقياسا وحيدا للصدق والشرف فى التاريخ.
التاريخ الذى درسناه فى المدارس إذن خطأ رغم أن المفردات قد يكون بعضها صحيح… تماما كتلاوة الدعاء فى الطواف: " إينالا هاموهى طنبلكا فيرينا " بدلا من إن الله محيط بالكافرين ..
خطأ قراءة التاريخ هذا ليس مجرد خطأ بسيط حدث مرة وانقطع بل هو تاريخ تكرسه كل يوم أجهزة إعلامنا وصحفنا…
صحفنا …
صحفنا نحن ….
كان السفير السابق يهاتفنى معلقا على مقالاتى متشكيا أنه يقرأ معظمها بدموعه لأننى أقلب فى الجرح العارى… صرخ فى ألم : أنتم لا ترون الوجه الآخر لبعض الصحفيين والصحف … لا ترون أكياس الذهب التى تحدد الاتجاهات وتغير الاقتناعات وتوجه المواقف وتعيد صياغة التاريخ … أنتم لا ترون بعضهم على أبواب السفارات وهم يعيدون بعضا من تراث ردىء لبعض من شعرائنا القدامى حينما كانوا يقفون على أبواب السلاطين كشحاذين فإذا نالوا المكافأة تدفقت قصائد المديح أما إذا لم ينالوها انطلق الهجاء كأقذع ما يكون …
بهذه الطرق يتم تزوير التاريخ …
والتاريخ ذاكرة أى أمة …
فإذا فقدت الذاكرة كانت كشخص يواجه العالم وهو لا يعرف من هو ولا من أين أتى ولا أين يذهب … فكيف يمكن إذن بالله عليكم أن يقاوم و أن ينتصر …
للكاتبة المبدعة صافيناز كاظم تعبير مستمد من تكنولوجيا القنوات الفضائية، وبرغم أننى لا أوافقها فإن التعبير طريف، تقول أنها عندما تفقد الثقة فى شخص أو اتجاه فإنها تقوم " بتشفيره " وهى تعنى أنها تجعله كتلك القنوات التليفزيونية الفضائية التى لا يمكن مشاهدتها إلا بجهاز فك الشفرة الخاص بها، وأنا أرى يا إخوانى أن تاريخنا قد تم تشفيره…
ومن أكثر الفترات التى تم تشفيرها فترة الخلافة العثمانية… لأنها من أخطر الفترات فى تاريخنا … ففى عهدها أحس الغرب للمرة الأولى بإمكانية أن يتلاشى نهائيا من الوجود أمام هجماتها الصاعقة.. لقد هُزِمَ مرات عديدة أمام الأمويين والعباسيين لكنها كانت هزائم معارك كبرى ولم تكن خسارة نهائية لحرب ينعدم بعدها وجوده.. مع العثمانيين أحس بهذا الإحساس و روّعه ذلك الهاجس.. قبل ذلك أيضا حقق الغرب بعض انتصارات على المسلمين.. لكنها لم تكن أبدا بحجم الانتصار الذى حققه على الدولة العثمانية فى النهاية. . كانت المرة الأولى فى التاريخ التى ينتصر فيها الغرب على دولتنا الإسلامية انتصارا شاملا …
فى بدايات القرن السادس عشر… أدرك الغرب بصورة نهائية أنه لا يمكن هزيمة المسلمين بالمواجهة، وبدءوا فى الالتفاف والغزو الفكرى…
دعونى أصارحكم … أننى من أشد الناس نقمة على معظم حكام الدولة العثمانية … فأداؤهم الردىء هو الذى أوصلنا إلى ما صرنا إليه…
ودعونى أصارحكم أنها لم تكن الدولة الإسلامية بل كانت دولة المسلمين …
فعلى الأقل ليس فى الإسلام حكم يورث ….
لم يكن خلفاء بنى عثمان إذن نماذج للخليفة المسلم …
ولم تكن خلافة إسلامية لكنها كانت دولة للمسلمين يمكن تطويرها حتى تعود خلافة كالخلافة الأولى … إلا أننى برغم نقمتى على خلفاء بنى عثمان أرى أن الظلم الذى شوه سمعتهم فى التاريخ قل أن يوجد له نظير ، كان منهم الصالح والطالح …
لكن شياطين الغرب جعلوا منهم غيلانا مفترسة ونموذجا للطغيان والتخلف والقهر… ولم يكونوا كذلك .. بل كانوا على الرغم من كل عيوبهم أفضل بكثير من كل أقرانهم فى العالم … شياطين الغرب المغرمون بالإحصاء لم يقدموا لنا على سبيل المثال إحصائية بعدد ضحايا المصريين تحت الحكم العثمانى فى أربعة قرون وعدد ضحايانا فى ثلاث سنوات من الغزو الفرنسى …
شياطين الغرب الذين مزقوا كل ممزق سمعة كل خلفاء بنى عثمان رفعوا إلى عنان السماء الزنديق كمال أتاتورك تماما كما جعلوا من المنشق الكوسوفى اسكندر بيه بطلا عالميا اعترفت به الكنيسة رغم أنه مسلم لمجرد أنه انشق على الدولة العثمانية…
دعونى أذكركم يا قراء مرة أخرى أنهم فى الغرب كانوا يستعملون كلمات : الإسلامية والعثمانية والتركية كمترادفات ومسميات مختلفة لمعنى واحد …
دعونى أنبهكم يا قراء أن هذا الهجوم المروع الرهيب على الدولة العثمانية وتجهيل تاريخها لا يعود إلى أحقاد الماضى فقط بل إن المخطط الذى اتبع لهدم الدولة العثمانية هو ذات المخطط المتبع الآن لهدم جميع الدول الإسلامية … لذا لزم التجهيل والتشفير … أن تكون أية محاولة لدراسة جادة منصفة تعنى أنك متخلف وجاهل وبدائى…
المطلوب ألا ننظر … لأننا لو نظرنا فسوف نرى لا مجرد ما حدث بل ما يحدث لنا الآن …
فى هذا الإطار فإن كوسوفا تصبح مجرد نمط على ما نريد أن نقول…
كل شعوب الدنيا تعيش داخل حدود بلادها أما الشعب الألبانى فهو يعيش حول بلاده: تخيلوا أن الأعداء قد أحاطوا بمصر من كل جانب وأخذوا كل حقبة من الزمن يقتطعون جزءا منها ويضمونه إلى بلادهم وكل حقبة يتقلص حجم مصر حتى لا يتبقى قى النهاية سوى القاهرة التى يطلق عليها مصر … ساعتها لن يكون الشعب المصرى موجودا فى مصر بل يحيطها من جميع الجهات… وهذا بالضبط وضع الشعب الألبانى …
يرجع التاريخ الألبانى إلى آلاف الأعوام قبل الميلاد … والاسم يرجع إلى جبال الألب… وكان اسمها داردانيا القديمة … وفى عام 168 قبل الميلاد وبعد معركة بيندا خضعت المنطقة للاحتلال الرومانى…
ظلت البلاد تتفتت وتتجمع كوحدات إدارية مختلفة حتى القرن السابع الميلادى حين استدعى الإمبراطور قسطنطين الصرب لمقاومة هجوم برابرة الشمال على حدود الإمبراطورية… وحتى ذلك الوجود الطارئ للصرب لم يمتد إلى الأراضى الألبانية وإنما اقتصر على ما يعرف الآن بصربيا … لم يدخلوا إلى ألبانيا أو كوسوفا …
فى القرن التاسع الميلادى احتلت بلغاريا المنطقة … ومنذ ذلك الحين أخذ البلغار والدولة البيزنطية يتبادلان احتلال المنطقة بصورة متقطعة … لم يبدأ دخول الصرب إلى ألبانيا أو كوسوفا إلا فى أواخر القرن الثانى عشر…
واستمر الاحتلال فترة تقل عن قرنين … من هذين القرنين 24 عاما هى فترة مجد الإمبراطورية الصربية
ويرى بعض المؤرخين أن هدف الصرب كان الاستيلاء على القسطنطينية ليحلوا محل الإمبراطورية الرومانية الغربية ، ففى عهد دوشان الكبير ( 1331- 1355) تحولت الدولة الصربية إلى إمبراطورية وتسمى الإمبراطور باسم " الإمبراطور والحاكم المطلق للصرب واليونان والبلغار والألبان "… و أنهم كانوا على وشك النجاح لولا بروز قوة العثمانيين … ووئدت أحلام الصرب تماما بعد معركة كوسوفا سنة 1389… حيث جسدت هذه المعركة نهاية الدولة الصربية..
بعد ذلك التاريخ أصبحت المنطقة كلها تحت سيطرة الدولة العثمانية…
ولقد حفزت هذه المعركة باستمرار روح الانتقام عند الصرب … وعندما أعاد سلوبودان ميلوسيفتش احتلال كوسوفا عام 1989 صرخ : أخيرا انتصرت صربيا واستعادت كوسوفو…
***
منذ عام 1389 كانت كوسوفا وما زالت بلدا مسلما يقطنها أهلها الأصليون …ثم كانت بداية المأساة فى الحرب الروسية العثمانية 1877-1878 والتى شاركت فيها صربيا إلى جانب روسيا القيصرية، ووصلت الجيوش الروسية فيها إلى مسافة عشرة كيلومترات من اسطنبول، مهددة باحتلالها وإعادة مسجد أيا صوفيا إلى كنيسة إرثوزكسية، تدخلت الدول الكبرى ليس حفاظا على الدولة الإسلامية بل اختلافا على تقسيمها وعقد مؤتمر برلين برعاية بسمارك وانتهى باقتطاع صربيا من الدولة العثمانية : ( اقرءوها كما يقرأها الخواجات : الدولة الإسلامية)… وفى نفس الفترة كانت النمسا قد احتلت البوسنة والهرسك وإن لم تلغ تبعيتها للدولة الإسلامية …
فى ذلك الوقت أخذت الدول الكبرى تشجع الحركات القومية فى شعوب الدولة العثمانية، وتحبذ استقلال القوميات وكانت تضرب ضربات المعاول الأخيرة فى الدولة العثمانية : شجعت الدول العربية ودول البلقان والأكراد … ولاحظ أيها القارئ أن المؤامرة واحدة هنا وهناك ، ومن الطبيعى إذن أن النتيجة ستكون واحدة هنا وهناك …
ابتلعنا الطعم كما نبتلعه الآن … فبعد نيف وثلاثين عاما من حرب العصابات تضعضعت فيها الخلافة وكوسوفا و ألبانيا نجح الألبان فى كوسوفا فى الحصول على حق الحكم الذاتى سنة 1912.. ومنذ ذلك الوقت.. منذ حصولهم على الاستقلال لم يحكموا نفسهم أبدا..
لقد استجابوا لنصائح التقدم والاستنارة والتنوير وخلعوا رداء التأسلم بعد أن أقنعهم الغرب أن انتماءهم للدولة الإسلامية سر تخلفهم……
اقتنعوا كما اقتنع العرب …. وبدلا من أن توجه الجهود إصلاح الحكم الفاسد وجهوه لهدم الدولة … هم ونحن …وكانت النتيجة واحدة …
لقد كسروا أنف دولتهم الأم غافلين أنه شَرَكٌ وهلاك…
كانوا يستحقون آنذاك تهنئة الدول الكبرى وتعضيدهم … ولقد حصلوا على ضماناتها بضمان استقلالهم وعدم الاعتداء عليهم … لكن : لا التهنئة جاءت ولا الضمانات جاءت ولا التعضيد جاء … جاء بدلا منها جحافل القوات الصربية …
فبعد عدة أسابيع من الحكم الذاتى الذى حصلوا عليه بعد ثلاثين عاما من النضال احتلت صربيا كوسوفا .. عدة أسابيع فقط … بل وتقدمت أيضا لاحتلال ألبانيا أيضا ولم تنسحب منها إلا بتهديد الدول الكبرى بالتدخل العسكرى ليس من أجل ألبانيا بل خوفا من اختلال ميزان القوى بينهم…
بدأت المقاومة الألبانية واستمرت … ومع بداية الحرب العالمية الأولى احتلت النمسا كوسوفا..
وفى عام 1918 بعد الحرب العالمية الأولى تم إنشاء مملكة يوغسلافيا فضمت كوسوفا إليها وحاول الصرب المستحيل لتغيير التركيبة السكانية حيث استهدفوا بالقتل والقهر والترويع والإذلال والخيانة والحيلة تهجير أصحاب البلاد المسلمين إلى ألبانيا وتركيا…
فى سنة 1928 توج أحمد زوغو نفسه ملكا للألبان ( وليس لألبانيا) واستمر النزاع بينه وبين المملكة اليوغسلافية لتحرير كوسوفا حتى بدايات الحرب العالمية الثانية حيث طرد من ألبانيا وجاء إلى مصر ليغادرها بعد الثورة..
فى الحرب العالمية الثانية انهارت يوغسلافيا ( أبريل 1941 ) نتيجة للهجوم الألمانى وتم تكوين مملكة ألبانيا الكبرى وعادت كوسوفا لتكون جزءا منها ولكن تحت احتلال من قوات المحور..
وحتى 1944 كان معظم كوسوفا جزءا من ألبانيا…سنة 1945 استولت قوات تيتو على كوسوفا وضمتها إلى صربيا مع حكم ذاتى ووعود من الدول الكبرى ومن تيتو بحق تقرير المصير..
وعندما أجرى تصويت اختار أهل كوسوفا الانضمام إلى ألبانيا لكن الدول الكبرى فرضت عليهم – رغم الوعود المتكررة - الانضمام إلى الاتحاد اليوغسلافى… وكانت شخصية تيتو القوية وراء هدوء نسبى فى الأوضاع وتحولت كوسوفا إلى كيان فيدرالى داخل الجمهورية اليوغسلافية تخلله نضال مستمر واضطهاد مستمر وتشريد وقتل وتعذيب أسفر فى النهاية عن دستور 1974 الذى أعطى كوسوفا مزيدا من الحقوق…
استمر الاتحاد حوالى أربعين عاما …
بعد موت تيتو فى 1980 اندلعت المظاهرات تطالب بالاستقلال التام..
أعاد ميلوسيفتش احتلال كوسوفا عام 1989 فأعلنت كوسوفا إنشاء جمهورية مستقلة…
***
كنت أريد أن أعرض على القراء نماذج مما تكتبه صحفنا عن مأساة كوسوفا …كنت أريد أن أعرض عليكم كيف يضل العقل وتخون الروح وينعدم الضمير …
كنت أريد أن أعرض عليكم نماذج من الأكاذيب …
لكننى فجأة اكتشفت أن فى أكاذيبهم ما يستحق الاحترام …
والله أقولها حقا وصدقا لا سخرية ولا تورية …
ففى كذبهم ما يشى أن لديهم بقية من حياء …
والاعتراف بالحق والصدق فى مثل أحوالهم ليس فضيلة بل فضيحة…
والزانية إذا اعترفت بالزنا فإن عليها أن تتوب أما إن لم تكن تنوى التوبة فإن عليها – حفاظا على مظهر الاحترام لا جوهره – ألا تعترف …
أفهم إذن لماذا لا تقول الصحف أو النخبة الحقيقية … أفهم …
لذلك سأكتفى بما أورده الأستاذ محمد يوسف عدس فى كتابه القيم الذى يواجه فيه الضلالات …
ولتتنبه معى يا عزيزى القارئ أنه يقتصر فى تناوله على الأهرام … أفضل الصحف القومية وأكثرها وقارا … لم يواجه الرجل الأخبار ولا أخبار اليوم ولا المساء ولا روز اليوسف … بل الأهرام …
سننتقل على الفور إلى حديثه … ولكننى قبلها أريد من القارئ أن يستفيد من عبر التاريخ وأن يدرك أن وضع مصر مثل وضع كوسوفا !! الفارق فقط فى الزمن… وعما قريب سيأتى من يقول لنا أن المسلمين فى مصر منحدرون من أصل عربى وأن عليهم أن يعودوا من حيث أتوا …
لن تفيدنا أعدادنا فالمسلمون فى كوسوفا 90% ولن يفيدنا سبعة آلاف عام من التاريخ كنا فيها هنا فأهل كوسوفا فيها منذ خمسة آلاف عام … وسيأتى ذات يوم من يقول أن للرومان أو الإنجليز مقدسات فى مصر وأن ارتباطهم بها مقدس وعلى أهلها الهجرة أو الموت…
هل تستغربون يا قراء ما أقول؟!
لقد حدث ذلك لكوسوفا التى لا تعرفونها …
وحدث للأندلس التى نسيتموها …
وحدث لفلسطين …
وسوف يحدث لكم …
ويومها قد تكتب صحف فى بلاد بعيدة قد تكون مازالت مسلمة عن المصريين أصحاب البلاد الأصليين والمصريين المنحدرين من أصل عربى ….
***
أريد أن أقول أيضا أننا نكرر بنمطية فاجعة ما فعلته الدولة العثمانية وما أدى فى النهاية إلى انهيارها … نحن نتنازل كل يوم عن حق من حقوقنا كى ننقذ الباقى فلا نحن احتفظنا بما ضحينا به ولا نحن أنقذنا الباقى…
ثم أن الغرب لم يف بمعاهدة ولم ينفذ وعدا قط … على الإطلاق… وفى كل مرة يضغط علينا بأنه التنازل الأخير الذى سيأتى بعده السلام والخير ويتوقف بعده الإرهاب والترويع …
فنتنازل إيثارا للسلامة لا للسلام … وبمجرد أن نتنازل ينسى الغرب كل عهوده ليطالبنا بتنازل آخر فيدفعنا إلى وضع المقامر الخاسر الذى يحاول المستحيل كى يستعيد جزءا مما فقد فيرهن بيته بل وحتى زوجته و أهله …
لكن ذلك لا يمنع الخراب عنه …
فلا يكون أمامه فى النهاية إلا أن يبيع نفسه عبدا أو يلجأ إلى الانتحار…
هل أنا مخطئ أيها القراء حين أقول لكم أنهم يمارسون السياسة فى بلادنا بنفس طريقة هذا المقامر؟!
هل أنا مخطئ؟؟!!…
***
نعود إلى كوسوفا … مرآة الماضى التى نرى فيها المستقبل ..يقول الأستاذ محمد يوسف عدس: لاحظت خلال متابعتى أُخبار كوسوفا أن وسائل الإعلام العربية تردد كالببغاء ما يذاع عن هذه القضية فى وسائل الإعلام الغربية دون تمحيص ، وتوحى طريقة عرض هذه الأخبار والمصطلحات المستخدمة فيها أن القضية غير مفهومة على الوجه الصحيح ، وبالتالى تسهم وسائل الإعلام عندنا فى صياغة الإدراك العربى لقضية كوسوفا صياغة خاطئة مثلا عند الحديث عن الشعب المسلم فى كوسوفا يتردد على مسامعنا عبارة (السكان المنحدرون من أصل أَلَبَانى) و: (ذوو الأصول الألبانية) ، وعند الحديث عن المقاومة الوطنية أو عن جيش تحرير كوسوفا نسمع أوصاف التمرد والمتمردين والانفصاليين .
بهذه الأوصاف تبدو وسائل إعلامنا وكأنها قد تبنت وجهة النظر الصربية التى تعتبر كوسوفا جزءا من صربيا وأن الحركة الوطنية فى كوسوفا إنما هى مجرد حركة تمرد ورغبة فى الانفصال غير مشروعة مع الإيحاء أن الشعب الأصيل فى كوسوفا هم الصرب وأما ألبان كوسوفا فمجرد أقلية وافدة من ألبانيا . …
لم يكن كل هذا مفاجأة لى فوسائل إعلامنا الرسمية ضعيفة لا تبذل أى جهد فى فهم القضايا المعقدة كتلك التى تجرى أحداثها فى البلقان ولكن ما أزعجنى حقا هو اَلتَّهَافُت الذى تسقط فيه بعض صحفنا الكبرى عندما تطرح على صفحاتها عرضا لقضية كوسوفا مليئا بالأخطاء منحرفا عن الفهم الصحيح للقضية و أبعادها السياسية والتاريخية.
وقعت على شئ من هذا فى تقرير لمراسل صحفى لصحيفة الأهرام أنقل فيما يلى أهم فقرة فيه معتذرا للقارئ- مسبقا - على ركاكة أسلوبها:( إن قبول المطالبة باستقلال كوسوفا وتأسيس جمهورية بها تحت ضربات جيش تحرير و كوسوفا وهجماته على السلطة التنفيذية الصربية فى كوسوفا ما يبدد الرصيد التاريخى وحقهم الروحى فى الإقليم ، لأن فيها كانت الإرهاصات الأولى والآثار الدالة على الموروث التاريخى الصربى السلافى ، فَالْمُؤَرَّخُونَ يعرفون كوسوفا ب ( قلب وطن الأجداد ) إضافة إلى أن فيها مقر الكاتدرائية الأرثوذكسية الروسية ( لعله يقصد الصربية ) وأن التطلع الروحى للصرب السلاف الأرثوذكسى صوب كوسوفا لا يتراجع أمام الواقع (؟).
إن كوسوفا الآن بعد عقود من الغزو العثمانى لصربيا قد تغيرت ديموجرافيا سكانيا وحل محل الصرب السابقين الذين هجروها مُوَاطَنُونَ ألبان مُسَلَّمُونَ وأصبحوا أغلبية بها – ولا تنسى في هذا السبب (لعله يقصد الصدد) أن والد ميلوسيفتش كان قِسِّيسَا إرثوذكسيا …
هذه الفقرة صورة مختصرة طبق الأصل من المزاعم الصربية التى لم يكلف صاحب ( رسالة موسكو ) نفسه أى جهد للتحقق من صحتها بل نقلها نقلا آليا دون تفكير ، وأهم هذه المزاعم ثلاثة هى :
1 - إن كوسوفا هى مهد الصرب .
2 - وأنها حقهم التاريخى والروحى لوجود كنيستهم المقدسة بها.
3 - أن سكان كوسوفا المسلمين قد جلبهم العثمانيون الغزاة من ألبانيا بعد أن قَاموا بطرد الصرب منها .
وَسَنُرَى إن جميع هذه المزاعم أكاذيب كبيرة لا سَنْد لها من التاريخ ولكن هناك فرية صغير نود أن نزيحها أولا من اَلطَّرِيق وهى إن (والد ميلوسيفيتش كان قسيسا) ، ولعل صاحب الرسالة يريد أن ينبهنا إلى أن سر شراسة ميلوسيفيتش فى مواجهته للمعركة اَلْوَطَنِيَّة فى كوسوفا تكمن فى قوة الدافع الدينى عنده ، فى حين أن الذين عرفوا ميلوسيفيتش عن قرب وكتبوا عن حياته يعلمون أنه كان شيوعيا ملحدا ، وأن أباه لم يكن قسيسا فى يوم من الأيام ، وَإِنَّمَا تقدم لَوَظِيفَة قسيس فى مسقط رأسه بالجبل الأسود ولكنه فشل فى الحصول على الوظيفة ، و كانت أسباب فشله مثار سخرية أهل البلدة، سخرية لم يُسْتَطَعْ عقل الرجل أن يتَحمُّلِهَا فأصيب بانهيار وفر إلى شعاب الجبال يتحدث إلى اَلصُّخُور والأشباح حتى انتهى به الأمر إلى الانتحار . تدين ميلوسيفيتش إذن فرية فهو لا يعبد إلا نفسه ومطامعه ، ولا يؤمن إلا بالبطش ولا تتفتح عَبْقَرِيَّته وتزدهر إلا فى صَنَاعَة اَلْكِوَارث وتدبير اَلمذَّابِح الوحشية ، فعلها من قبل فى اَلْبُوسْنَة ويفعلها الآن فى كوسوفا .
ويواصل محمد يوسف عدس :
تتحدث (رسالَة موسكو) عن استحالة قبول الصرب باستقلال كوسوفا كأنها لم تكن كيانا سياسيا مستقلا قبل أن يقوم ميلوسيفيتش بِمُؤَامَرَتِهِ الشهيرة على دستور يوغسلافيا منذ ثمانية أعوام فقط ، لم تكن كوسوفا جزءا من صربيا بل جزءا شرعيا من يوغسلافيا تيتو منذ سنه 1946 وقد جَاء دسَتُوَرِّ سَنهُ 1974ليؤكد وضع كوسوفا كيانا سِيَاسِيَّا فى حدودها التاريخية الثابتة ، لها صلاحيات وَسِلْطَات مساوية للجمهوريات الأخرى التى كان يتألف منها الاتحاد اليوغسلافى حتى انفرط عقده سنة 1991 ، كانت كوسوفا مُمْثِلَة فى رئاسة دولة يوغسلافيا على نفس المستوى للجمهوريات الأخرى بما فى ذلك صربيا ، وكانت لها حكومة محلية وبرلمان ، وكانت لها إذاعتها وتلفازها الخاص الناطق بلغتها الألبانية ، وكانت اللغة الألبانية فى جامعتها ومدارسها وكانت لها صحافتها المنشورة باللغة الألبانية ،كما كان لها قوة شرطة خاصة بها وقوة عسكرية محلية ، وأوشكت كوسوفا فى عهد تيتو أن تحصل على الوضع الجمهورى فى دستور يوغسلافيا لولا المعارضة الصربية لهذا الاتجاه ، مما جعل تيتو يرجئ الموضوع .
المهم إن كوسوفا لم تكن جزءا من صربيا إلا بعد إن ألغى ميلوسيفتش الدستور الفيدرالى وقضى على استقلالها وفرض عليها الأحكام العسكرية بقوة السلاح منذ سنة 1989 .
سوف نواصل فى المقال القدم بإذن الله كيف فضح المستشار محمد يوسف عدس الأكاذيب وكيف كشف العورات …
و إننى أذكر القارئ مرة أخرى أننا نواجه الأهرام ….
لم نتعرض لما نشرته صحفنا الأخرى عن كوسوفا …لم نتعرض… ولن نتعرض …لأن للطاقة الإنسانية مدى من الانسحاق لا تستطيع أن تنسحق بعده… والألم حين يزيد يصل إلى مرحلة معينة لا يزيد بعدها الإحساس به …
بل ينعدم الإحساس …
لنغرق فى الغيبوبة…
مقالات الدكتور محمد عباس
الوعي ينزف من ثقوب الذاكرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق