الخميس، 19 ديسمبر 2019

معاملة المُطاح بهم بين تجربتين.. بلشفية روسية وأتاتوركية تركية


معاملة المُطاح بهم بين تجربتين.. بلشفية روسية وأتاتوركية تركية 
د.أحمد موفق زيدان
بينما كنت أشاهد حلقات من فيلم آخر القياصرة على موقع نتفليكس، وأقرأ كتاب ظهور تركيا الحديثة للكاتب المعروف والمتخصص بشؤون تركيا والعالم العربي والإسلامي برنارد لويس، كانت تتعزز في ذاكرتي طريقتين من التعاطي مع الخصوم والأعداء، طريقة البلاشفة في تعاملهم مع من انقلبوا عليهم من أسرة آل رومانوف، وبين طريقة مصطفى كمال أتاتورك بتعامله مع سلالة آل عثمان، لتلمس الفرق الكبير والبون الشاسع بين عقليتين وليس بين بلدين..

بداية القرن العشرين كانت جيوش عدة تُقلّص مساحة روسيا، وتضيق الخناق على البلاشفة، حتى غدت موسكو نفسها مهددة من قبل المهاجمين، أما قادة البلاشفة فقد كانوا مهمومين ومشغولين بحجز عائلة رومانوف وعلى رأسها القيصر نيكي وزوجته وثلاث من بناته ونجله الوحيد المصاب أصلاً بمرض عضال مهدد بالموت في كل وقت، ولمّا اقتربت القوات الألمانية والنمساوية من مدينة إيكاتربيرغ وغدت على مسافة عشرين ميلاً فقط من المدينة، كان قادة البلاشفة مهمومين برموز آل رومانوف أكثر من حرصهم على سلامة روسيا ودولتهم التي تنهار كبيت كرنوتي عنكبوتي.

لم يقتل الانقلابيون أحداً من سلالة آل عثمان، وظلت قبورهم ومدافنهم معروفة لكل من أتى بعدهم، ولعل هذا يفسر حالة التصالح المجتمعي التركي لاحقاً
أما الخاطفون فقد كانوا ينقلون أسراهم من العائلة المالكة سابقاً لمخبأ سري تحت الأرض وأعدموهم بطريقة وحشية ليقضوا على نسل الأسرة كاملاً، ولكن وبشكل غير مفهوم نجت إحدى بنات القيصر وتدعى أناستازيا، التي ظلت تصاحبها صدمة نفسية إلى وفاتها، فقدت على إثرها ذاكرتها كاملة، فلم تعد تتذكر شيئاً مما حصل، سوى بعض الصور التي كانت تعطي إشارات بعينها وجسدها حين تعرض عليها..

وظلت جثث القتلى مفقودة حتى أواخر العهد السوفياتي الذي تم العثور على بعضها فدفنت في مدافن معروفة، ثم عثر على بقية الجثث ليشارك الرئيس آنذاك بوريس يلتسين بنفسه في دفنها بمدافن عائلة رومانوف وذلك بمشهد جنائزي يعيد الاعتبار شيئاً ما للأسرة التي حكمت قروناً تلك المنطقة من العالم، لكن غني عن التذكير حجم الجرائم والمجازر التي ارتكبتها الأسرة نفسها بحق المسلمين في تلك المنطقة إن كان بالقوقاز أو في القرم وآسيا الوسطى، ولكن ما نتحدث عنه هنا فقط عن معاملة بعضهم بعضاً..

بالمقابل ينجح مصطفى كمال أتاتورك بانقلابه على الخلافة العثمانية عام 1924، فما كان منه إلاّ أن ينفي بعض سلاطين آل عثمان، ويضع السلطان عبد الحميد الثاني الذي انقلب عليه في "غريش بورنو" أو "ترابيا" على البوسفور دون أن يمسه بأذى ويظل محتجزاً إلى موته، فلم يقتل الانقلابيون أحداً من سلالة آل عثمان، وظلت قبورهم ومدافنهم معروفة لكل من أتى بعدهم، ولعل هذا يفسر حالة التصالح المجتمعي التركي لاحقاً، وإن كان بطريقة تدريجية بدأت في عام 1950 حين أفلحت المعارضة في انتزاع السلطة من الحزب الجمهوري الذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك ليكون أداته وذارعه السياسية في نشر أفكاره وتثبيت رؤيته السلطوية، فتراجع الحزب بعد 12 عاماً من رحيل مؤسسه..
صورتان، أو معاملتان.. تعكسان طبيعة العقلية لكلا المنطقتين، وتتجسد الآن أكثر ما تتجسد في تعاطي الدولتين مع الواقع الاقليمي أو الدولي إن كان بإجرام الاحتلال الروسي اليومي في سوريا والممتد على مدى سنوات، قتلاً وتدميراً وإبادة للشام وحواضرها، أو بحجم الإجرام الروسي الذي يعول على الانقلابي الليبي خليفة حفتر يقابله تعاطي تركي مع الحالتين دعماً للشعوب وتطلعاتها ومساعدة في نيل حقوقها دون دماء ودمار..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق