الجمعة، 27 ديسمبر 2019

الشــــــيوعي!!..


الشــــــيوعي!!..


د.محمد عباس
31/01/2016

قلت له وقد جاشت مشاعرى وأخذ منى الانفعال كل مأخذ:
- لو أن أحدا فقأ عينيك ووضع مكانهما جوهرتين..
تُرى :هل تَرى؟!..
أم أن ما منحناه الله من نعم لا تشترى..
وطفقت أرجوه رجاء بلغ حد التوسل هاتفا به : ويلك آمن.. إن وعد الله حق.. لقد أضعتم الكنز وأخذتم الوباء، لو أننى كنت أتحدث مع غيرك لوضعت احتمالات كثيرة، معك أنت يختلف الأمر، فلقد غرروا بك، وأنت أيها الزاهد المخلص المسكين لم يخطر ببالك أبدا أن زعماءكم وقادتكم يمكن أن يخفوا خلف أقنعتهم البراقة مسوخا للقيم ومسوحا للشياطين.
***
كان ذلك منذ أكثر من عشرين عاما..
كنت جالسا فى مكتبى مرهقا ومحبطا .. كنت مجروحا بقسوة عالم لم يكف أبدا عن جرحى ولم أكن أرغب فى شىء إلا فى أن أتباعد وأنأى لعلى أستطيع أن أفهم.
انطويت على نفسى مسلما إياها للحظة من لحظات الصمت المطبق.
وخدش ذلك الصمت من جاء يخبرنى بوجود الأستاذ (م.م) وبرغبته فى لقائى.
كان الأستاذ (م. م) واحدا ممن أحترمهم احتراما حقيقيا رغم أنه كان شيوعيا.
فزعت.
قلت لنفسى هؤلاء الشيوعيون لا يكفون عن الكلام والجدل أبدا وأنا فى لحظة ضعف و ألم لا أحتمل فيها أى مزيد .. لا أحتمل النطق بكلمة ولا الاستماع لحرف.
أقسى من وحشة الصمت اضطرارك لاصطناع الحديث.
عزمت على ألا أفتح أى موضوع للجدل معه وألا أستجيب له إذا فتح أى موضوع.
ودخل الرجل وأخرج أوراقا كانت معه. قال لى أنهم ينشئون حزبا شيوعيا جديدا و أنه يعرف أننى فى الطرف الآخر منهم، المناقض لهم، لكن رأيهم اتفق على أن يعرضوا برنامجهم الجديد على مختلف التيارات الفكرية للأمة.
رحت أذكّر نفسى بألا أفتح أى مجال للحوار والنقاش..
وأحس الرجل بعزوفى فبادر قائلا أنه يلمح على وجهى ملامح الإرهاق لذلك فإنه سيعود بعد أسبوع أكون قد قرأت فيه مسودة مشروع الحزب الجديد لأبدى رأيى فيها..
حمدت الله على الخلاص..
لكن شعورا دهمنى فجأة، شعور كالطوفان الذى تنهار إزاء جموحه كل الاستحكامات و تنهار أمامه كل السدود.. اجتاح هذا الشعور صمتى فانفجر الكلام..
قلت للرجل أننى أحترمه لكننى أشفق عليه.. لقد انهارت الشيوعية فى أرجاء العالم وها هو ذا يحاول إحياءها وهيهات أن يحيى الموتى..
اندفعت فى حديث متواصل من التوسل والرجاء لا أستطيع كبح جماح نفسى..
صارحته بما دار فى دخيلة نفسى قبيل دخوله وقلت له أننى أنكص عما عزمت عليه لأننى أحترمه..
قلت له أنه مأساوى جدا أن أصارحه أن أقول له بعد أن تجاوز الخامسة والستين من عمره أن كل كفاحه وكل نضاله وكل عذابه كان خطأ فى خطأ، مأساوى جدا أن يكتشف بعد كل هذه السنين أنه سار فى الطريق الخطأ و أنه ضل بداية الطريق، لكن المأساوى أكثر منه أن يواصل نفس الخطأ ولو ليوم واحد آخر..
قلت له:لو كان الموت هو النهاية لناشدتك أن تواصل الخطأ فالإقلاع عن فكرة سرت من الإنسان مسرى الدم لأكثر من نصف قرن أشد إيلاما من السلخ..
وقلت له ليتك كنت فاجرا أو عربيدا أو خائنا وليتك استمتعت بدنياك حتى يكون فى ذلك بعض عزاء عن خسران آخرتك.. لكنك عشت فى الدنيا كزاهد.. ثم تذهب إلى الآخرة وقد انتثرت كل تضحياتك هباء منثورا.. لقد قضيت فى السجون ربع قرن، كنت زميلا لشهدى عطية الذى قتله الجلادون.. لماذا مات شهدى عطية؟! أى جنون يقبع فى أن تفقد الحياة نفسها وأنت تدافع عن الحياة؟.. لماذا إن لم يكن الدافع شيئا أرقى من الحياة و أسمى و أعظم.. وبدون هذا الشىء فالإنسان مجرد حيوان لا يسير على أربع.. هل يعقل أن تدفع حياتك من أجل إعلاء كلمات ماركس.. سوف أخاطبك بمنطق قد تفهمه وتتعاطف معه سوف أخاطبك بصرخة دستويفسكى فى الأخوة كارمازوف: "إذا لم يكن الله موجودا فكل شئ مباح"!!..
ماذا تريدون أن تنشئوا على الأرض؟.. جنة؟.. لن توجد على الأرض جنان أبدا.. أبدا.. .. إننى أناشدك أن تتأمل الأشياء حولك.. الأشياء الصغيرة العادية التى تحدث كل يوم وليس فى قضايا الوجود الكبرى.. أى بؤس للجنس البشرى إن كان الفناء مآله؟.. أى ضياع لكل قيمة؟.. و أى باطل أى تحقير للإنسان أن ينتهى حين يموت؟..
القيمة الوحيدة للجنس البشرى لا يمكن أن تتحقق إلا فى وجود الله وبالله .. والقيمة الوحيدة لكل هذا الألم الهائل الذى نكابده والعناء المر الذى نلاقيه لا يمكن أن تحتمل إلا لأن هناك آخرة سوف نحاسب فيها.. الشىء الوحيد الذى يعوض كل هذا الضنى وكل هذا العذاب ليس إلا الخلد..
صرخت فيه: هل يهون عليك أن يستوى الأمين والخائن والطاغوت و البطل والشهيد والجلاد؟..
هل استمتعت بدنياك ؟ أى أباطيل بررت بها كل تعاساتك ؟! ولماذا أنجبت أبناء يتعذبون كما تعذبت عذابا بلا مبرر فى حياة بلا معنى؟..
بدا الرجل مترددا وهو يبتسم ابتسامة المحرج الذى فاجأه الأمر فراح يدافع عن الشيوعية والمساواة والعدالة.. قلت له بل هي وباء فانظر إلى نتائجها في بلادها..
لقد أعطى الإسلام للبشرية شهادة نضجها أعطاها كنزا فلماذا تتخلى عنه وتأخذ بدلا منه وباء..
ولقد قدم التصور الوحيد الممكن للدنيا والآخرة ولقد كان دوركم طيلة الحقب الماضية أن تنثروا الرماد على هذه الحقيقة الساطعة كى تطفئوا بهاءها..
بماذا تريد أن تجادلنى؟
أتقول أنك لا تستطيع أن تخطط لمجتمع بناء على غيبيات؟
أليست الروح غيبا والنفس غيبا وما أنت بدونهما سوى جيفة.. الكهرباء أيضا غيب.. أنت لا تراها امدد يدك الآن وضعها على هذا السلك المكشوف.. ستكون لحظة الإدراك ذاتها هى لحظة الموت.. أنكر إن شئت أن هذا الهواء الذى يحيطنا يحمل فى طياتة ملايين الموجات ولكن إنكارك لن يلغى هذه الموجات.. بل سوف يلغى إمكانية نجاتك بها كتائه فى الفلاة لا وسيلة لنجاته سوى جهاز اللاسلكى الذى ينكر جدواه ما دام لا يرى موجاته..
إن العلم المادى الذى ظننتم يوما أنه كفيل بفك طلاسم مغاليق أسرار الوجود يعود اليوم إلى النقطة التى علّمناها الدين منذ عشرات القرون.. هاهى ذى الإرادة الإنسانية تتلاشى وتحكّم الإنسان فى مصيره يضمحل ليثبت أن كل شئ مخطوط بالشفرة على جزيئيات الجينات.. و أن المرض مكتوب والميلاد مكتوب والسعادة مكتوبة والشقاء مكتوب و أن موعد موتك لا يعلمه إلا الله..
انظر إلى تداول الأيام بين الناس ما من قوة تستمر وما من ثروة تستقر وما من حكم يدوم..
انظر إلى التاريخ..
انظر إلى مكر الإنسان ومكر الشيطان إزاء مكر خير الماكرين.. انظر إلى البدايات والنهايات.. وكيف تسجل سجلا حافلا لخيبة العقل البشرى..
لقد خُلِقَ الإنسان عبدا وهو إما أن يتشرف بالعبودية لله أو أن يسقط عبدا لشهواته وللشيطان..
تقول أنك لست عبدا ؟! أنصت إذن إلى دقات قلبك وتحكم فى كهرباء مخك ويا أيها المسكين العاجز عن التحكم فى عضلات معيِّه كيف تدعى القدرة على تغيير الكون أو حتى على فهمه ..
إن الدنيا امتحان، وفى الامتحان لا يتعين أن يحدد الطالب الأسئلة سلفا أو أن يختارها.
انظر إلى الرموز المكنونة فى هذا الوجود ولا تنس أبدا أن الله قد خلق جدنا على صورته وأن الذرة.. الذرة الصغيرة التى لا ترى هى رمز للمجموعة الشمسية كلها..
لماذا لم تفكر فى اتجاه دوران الإليكترون حول النواة واتجاه دوران الأرض حول الشمس وعلاقة ذلك بالطواف حول الكعبة..
إننى لا أنكر دور الإرادة البشرية والعقل البشرى لكن فى إطارهما الصحيح.. تماما كما أن لكل خلية فى جسدك وظيفة لكنها تمارس هذه الوظيفة فى حدود جسدك.. لا تكن كذلك البحار الأحمق على ظهر حاملة طائرات ضخمة يحسب أنه بيديه الكليلتين قادر على التحكم فى مسارها ومصيرها..
العقل البشرى محدود فى وظيفته كأى عضو آخر..
هل تستطيع أن ترى بعينيك ما يحدث الآن فى أسوان أو أن تسمع بأذنيك ما يقال فى الإسكندرية..
هل يمكنك أن ترى من خلال الراديو صورة تليفزيونية، وهل تستطيع أن تفك مسمارا.. مجرد مسمار.. دون المفك المناسب له.. العقل البشرى كحقيبة الآلات الجراحية التى يحملها طبيب.. فهل يستطيع بآلات عملية اللوز أن يستأصل الزائدة الدودية أو سرطانا ؟! العقل البشرى خلق لغرض معين محدود إذا استعملته فى غيره أفسدت كل شىء دون أن تصل إلى شئ أبدا كمن يحاول الطيران بسيارة أو الوصول إلى القمر بطائرة فكلاهما لا محالة هالك ..
إنها الأمانة الفادحة التى أبت السماوات والجبال أن يحملنها فحملناها.
ثم من يحكم بأن الخير خير والشر شر؟!..
إنك لا يمكن أن تقول فوق وتحت ويمين ويسار دون أن تحدد ما تقيس عليه، لا بد أن توجد قيمة مطلقة تنسب إليها كل الأشياء.. هذه القيمة هى الكنز الوحيد فى وجودنا إن فقدناه ضعنا.. خسرنا الدنيا والآخرة.. لا تستطيع أيضا أن تقول أن الله موجود وأنك تؤمن به ثم تحكم بعزله عن تدبير شئون العالم لأنك بهذا يا أحمق تعزل نفسك وتضيع.. تفقد الدليل الوحيد الذى يمكن أن يهديك.. ليس هناك نصف إيمان ولا يصح إيمان لم يسلم لله أمره.. يا مسكين.. إن ما تظنه تقدما وتحضرا ليس سوى الجهل والغباء والتخلف.. إنك بهذا تشبه طفلا غبيا يمد يديه كى يمسك الشمس بأصابعه.. وهو رغم فشله فى كل مرة لا يكف أبدا عن المحاولة دون أن يفكر أن المحاولات كلها خطأ وجنون..
هل تعرف متى كشفت العلوم الحديثة الاتساع الهائل للكون ؟ لم يتم ذلك سوى منذ بضعة عشرات من السنين بعد اكتشاف نظريات النسبية والكم ثم نظرية انعدام اليقين، فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان الكون مقتصرا على بعض القارات القديمة والسماء والشمس والقمر والنجوم.. اكتشفوا بعد مئات السنين المجموعة الشمسية ثم اكتشفوا أن المجموعة الشمسية مجرد مجموعة هزيلة تتبع نجما متوسطا هو الشمس وأنها تحتل مكانا هزيلا فى مجرة درب التبانة وأن مجرة درب التبانة تحتوى على ألف مليون شمس وأنه يوجد فى الكون المرصود ألف مليون مجرة كدرب التبانة وأكبر وأن الكون منذ خمسة عشر مليار عام يتمدد بسرعة الضوء و أننا لا نعرف ما يوجد خلف الكون المرصود.. وقد تكون هناك أكوان عديدة مثله أو أكبر منه.
هل تريد حديثا نبويا ينبئك بكل هذا ؟!
« ... و ما السّموات السبع في الكرسي إلاّ كحلقة ملقاة بأرض فلاة و فضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة» [ رواه النسائي و ذكر الشّيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصّحيحة رقم:109 و جملة القول أنّ الحديث بهذه الطرق صحيح]
هل يعجز مدبر كل هذا يا إنسان عن تدبير أمرك؟..
أى حماقة ؟. أى جهل ؟. أى جنون ؟..
هل أدركت الآن متى فقدنا الكنز ومتى أخذنا الوباء؟..
منذ تلك اللحظات التى تجرأ فيها الحمقى وتخلوا عن تقديس الله ثم منحوا هذه القداسة لكسرى وقيصر وماركس ولينين وللحضارة الغربية أو الشرقية بل لأى حاكم يملك الحديد والقهر والسجن والنار..
غفلنا عما لم يكن يجب أن نغفل عنه أبدا ففقدنا كنزنا ولم يفقد الكنز شيئا..
لماذا تظن أننا خلقنا؟..
هل لنأكل ونشرب ونتناسل كالبهائم؟..
هب أنكم وصلتم إلى ما تريدون.. هب أنكم قضيتم على الجوع والفقر فهل هذا هو مبتغانا من الوجود وهل تستحق الحياة ساعتها أن تعاش؟!..
أى عبث؟؟!!
لكن الإنسان لم يخلق سدى ولا عبثا.
يخيل لك الوهم والحماقة أنك قادر.
فهل كان يمكن لمسار التاريخ البشرى أن يتغير لو تغيرت أحداثه؟ ..
هل كان يمكن للتاريخ أن يكون تاريخا آخر لو لم يكن هناك كسرى وقيصر ونابليون وهتلر وهرتزل و أى واحد من هؤلاء الذين تعبدونهم أو ترجمونهم..
هل كل هذا العذاب البشرى جاء صدفة؟
هل نقول مثلا أنه لو لم يولد ماركس لما كان للشيوعية أن تولد؟
أو أنه لولا وجود هرتزل ما كان لإسرائيل أن توجد؟
لو لم يوجد الإسكندر أو جمال عبد الناصر هل كان مجرى التاريخ يتغير؟
هل يمكن أن تؤمن بهذا العبث؟.. إنك لو آمنت به لأصبح الوجود البشرى عبثا لا يطاق..
مقامرة تتحكم فيها الصدفة.. صدفة أن ماركس لم ينزلق على قشرة موز ولم تصدم سيارة لينين أو هرتزل.. وأن ثعبانا لم يلدغ الإسكندر أو حتى آدم ليتكفل بوقف هذه السلسلة الرهيبة من الأحداث التى أسفرت عن كل هذا التاريخ وكل هذا العذاب.. لأننا لو قلنا أن شخصا ما هو المسئول عن مسار التاريخ وأحداثه لكانت مسئولة أيضا ملايين التفاصيل التى تضافرت وتجمعت لكى تصل إلى أى حدث..
لا ..
بل كل شئ بقدر..
لو جاز أن الصدفة والعبث و تاريخ الأفراد هى التى تحدد لنا مسار التاريخ لجاز أن انفجارا فى مطبعة أدى إلى اختلاط الحبر بالأوراق فأسفر انتثار الحبر على الورق إلى طباعة – بالصدفة – لملايين القواميس ودواوين الشعر ليس فى بيت منها وزن مكسور، كل منها مرصوص فى مكان مختلف..
إن منتهى نضج العقل البشرى أن يعرف أنه لا يعرف.. مأساة الإنسان ليس فى أنه يموت بل فى أنه محكوم عليه بالخلد..
لقد وجدنا قبل حياتنا تلك وسنبعث بعد الموت ثم لا نموت أبدا..
انظر إلى دودة القز إلى حياتها كدودة تمثل طور الحياة البشرية ثم انظر إليها تتشرنق فتدفن نفسها ملخصة طور الموت ومن قبرها ذلك يخرج أجمل أطوارها:الفراشة.. لو قيض لهذه الدودة أن تفكر وأن تتخيل أن طور الدودة هو الطور الوحيد وأن التشرنق هو الموت الذى لا حياة بعده .. ثم راحت تحاول الطيران كالفراشة وهى دودة كى تقيم جنتها بماذا يمكن أن تحكم عليها.. لا تحكم عليها احكم على نفسك فأنت تفعل نفس الشىء..
أنت وأنتم ساهمتم فى تضييع الكنز وجلب الوباء..
ودون وخز من ضمير ساهمتم فى الوصول بنا إلى وضع رضيتم فيه باستبعاد العقيدة عن مجالات تطبيقها فى الحياة.
شرذمتم الأمة..
انظر إلى الوطن الصغير وتشرذمه ما بين شيوعيين ورأسماليين وناصريين وساداتيين ومباركيين ووفديين و.. و.. و.. انظر إلى وطننا الكبير تجد نفس الشىء.. لكن ما هى مرجعيتنا فى الحكم على أى واحد من هؤلاء..
مرجعية الله والحق والعدل أم مرجعية الشيطان والهوى..
كيف نحكم عليهم فنؤيدهم أو نعارضهم ؟ما هو المقياس وما هو الدليل؟..
رضيتم بعزل العقيدة.. فانهار كل شئ حين أصبح لكل واحد مقياسه الخاص..
أضعنا الكنز و أخذنا الوباء..
فدعك إذن مما أنت فيه..
عد إلى الله وتب واعمل صالحا علّ ذلك يشفع لك أمام الله يوم القيامة..
***
كنت قد واصلت لساعتين كاملتين الحديث الصادر من أعماق القلب بحماس وحزن لا حد له وكان الرجل ينظر إلىّ بذهول..
بدا أنه محرج لأنه لا يستطيع مشاركتى فى انفعالى ولا يستطيع في نفس الوقت تجاهل جيشان عواطفي تجاهه وحماسي من أجله...
وعدنى أنه سيفكر فيما قلت مؤكدا لى أنه مؤمن و إن كان على طريقة غير طريقتى..
قام يشد على يدى منصرفا وهو يوصينى ألا أنسى قراءة برنامج الحزب الشيوعى الجديد.. كنت قد نسيت ذلك البرنامج تماما وعندما وجدته ما زال يذكره انهد فى داخلى شىء وخاب أمل وانطفأ توهج.. قلت له بصورة آلية تماما :إن شاء الله ..
وكنت ما أزال أقاوم الدموع..
***
مر الأسبوع التالى ولم يحضر الرجل فحمدت الله..
***
بعد ستة أسابيع كنت أتصفح صحيفة الأهالى – كنت ما أزال حتى ذلك الحين أقرأها – فانفجر من بين الصفحات بركان وقفَّ شعر رأسى ارتياعا وهولا.
كان ثمة مانشيت فرعى يقول:
ذكرى الأربعين للأستاذ (م.م.)..
وراحت الصحيفة تشيد بنضاله وتاريخه..
هرعت إلى أسرته.. لم يكونوا يعرفون أننى آخر من لقيه،انصرف من مكتبى فى السادسة مساء وصل إلى منزله في السادسة والربع .. سقط فاقد الوعى.. مات فى اليوم التالى.. ولم أعلم..
***
كان صديقى الدكتور جمال بلال – استشارى فى علم النفس - يتابع الحكاية من بدايتها.. نظر نحوى فى رعب وذهول صرخ فى وجهى:
- لم تكن أنت الذى تتحدث.. لم تكن سوى قلم وبوق يسطر بهما القدر سطوره وألحانه وإنذاره الأخير..
وواصل قائلا:
- كان هناك شىء فيك شىء لا تعرفه ولا أعرفه لكنه موجود .. هذا الشىء كان يرى ملك الموت يرفرف على رأسه وكان يعرف أنه يوشك أن يموت.. ومن هنا كان انفعالك ولهفتك ورغبتك في الإجهاش بالبكاء..
وشملنى الرعب من الله ومن نفسى ورحت أردد فى ذهول:
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا..
سبحانك إنى كنت من الظالمين..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق