وثيقة العشرين تريليون دولار
منذ البداية، كان واضحًا أن المقاول محمد علي هو الشجرة التي تخفي وراءها غابة، وربما كان ذلك وراء حالة الاهتمام والترقب التي انتابت الجمهور عندما أعلن بكل الثقة، وكل اليقين، أن مرحلة عبدالفتاح السيسي ستُطوى بحلول العشرين من سبتمبر/ أيلول الماضي.
كانت الإشارات الصادرة من ورشة مشروع محمد علي تحمل، وعن عمد، طوال الوقت، إيحاءاتٍ بأن جهات ما، قوية ومسيطرة في النظام المصري، تقف وراء هذا المشروع الذي ظهر فجأة، مستهدفًا التخلص من السيسي الذي صار عبئًا على النظام العسكري نفسه.
مر العشرون من سبتمبر، ومر الأسبوع التالي، وبعده أسابيع وشهور، وكانت المحصلة أن السيسي خرج أكثر رسوخًا وتوحشًا مما كان عليه، قبل أن يطير بالون محمد علي في الفضاء السياسي المصري. فيما بعد، خفتت أحلام التغيير لدى الجماهير العطشى للخلاص، والتي مثّل لها محمد علي بئر الماء الذي ظهر من حيث لا يتوقع أحد، بعد أن بدا لاحقًا كأن الغابة التي تقع وراء الشجرة ليست سوى سراب، ليبدأ المقاول الشاب في مرحلة الارتجال، بعد غياب (أو تغييب) السيناريو المحكم الذي وضع في يده مع ظهوره الأول المباغت، ليتحدّث لاحقًا عن مشروعٍ لقيادة المعارضة المصرية، في الخارج والداخل، سعيًا إلى التغيير، من خلال وثيقة جديدة ومختلفة، تقدم طرحًا جديدًا وحلولًا مبتكرة للمعضلة المصرية.كان لافتًا وباعثًا على الدهشة أن يخرج المقاول الشاب متحدثًا بالنيابة عن إخوان المهجر في رؤيتهم لإشكالياتٍ مطروحةٍ منذ سنوات، تتعلق بمفاهيم، مثل الشرعية والثورة والتغيير، بل ويعلن أنه اجتمع بالقائم بأعمال مرشد الإخوان المسلمين، وقد سمع منه كلامًا يستحق الإشادة.
ويلمح، طوال الوقت، إنه يتواصل مع ما أسماها الجماعة الوطنية، ويدير حوارًا بين أطرافها لتجميعها وقيادتها في مشروعٍ واحد، كما أعلن في منابر إعلامية عديدة، من خلال عشرات الحوارات المكررة، التي يلخص فيها أهداف مشروعه بأنه يريد مصر مثل كل الأماكن التي شاهدها في أوروبا وانبهر بها.أخيرًا، خرج المقاول بما اصطلح على تسميتها "وثيقة محمد علي" المنتظرة، لتعقبها زخّات من الإشادات والترحيب من تلك المجموعات التي احترفت صياغة البرامج وتشكيل الجبهات على مدار الأعوام الماضية، وكأن المأساة المصرية وجدت من يفكّ عقدتها بعد صبر طويل.وسط هذا الصخب الاحتفالي بما تسمّى الوثيقة، بحثت عن جديدٍ فيها يخص اللحظة الراهنة، فلم أجد إلا قفزًا إلى المستقبل، أخشى أن يكون تهرّبًا من استحقاقات الحاضر، التي هي قنطرة المستقبل، يمارسه صناع "الوثيقة".
على مستوى الشكل، ثمّة سؤال إجرائي طرح نفسه لحظة ظهور المقاول الشاب متلعثما في قراءة سطور تلك الوثيقة: كيف تُنسب وثيقة إلى من لا يستطيع قراءة بنودها قراءة سليمة؟ وهناك سؤال آخر: إذا كان هذا المنتج حصيلة عمل آخرين مجهولين، فلماذا لا يعلن هؤلاء عن أنفسهم للجمهور؟ إذا كان ثمّة من يختبئ وراء من أعلن الوثيقة، فكيف يمكن أن يثق الجمهور في قدرة مجموعةٍ من المختبئين على قيادة أي مشروع؟
ولكن الأسئلة الخاصة بمحتوى تلك التي تصنف وثيقةً هي الأهم، إذ يبدو الأمر وكأننا بصدد تكرار لوضعية الاستغراق في كيفية تفصيل واختيار ألوان أزياء من جلد النمر، قبل اصطياده، أو حتى معرفة وسائل الصيد وامتلاكها.
والحاصل أن ما تعدّ وثيقة جديدة تتحدث بإسرافٍ عن شكل الدولة المصرية وقوامها بعد رحيل عبدالفتاح السيسي، وتعرض على الناس ماكيت دولةٍ عصريةٍ ديمقراطيةٍ حديثة، في مرحلة ما بعد السيسي، لكنها لم تتناول ما قبل إزاحة السيسي وكيفية إزاحته، أو عناصر القوة اللازمة لتحقيق هذا الهدف.
كان ميدان التحرير يمتلئ بوثائق من هذا النوع قبل خلع حسني مبارك وبعده، وكلها كانت ترسم ملامح الدولة، وتؤسس لدستور جديد، يضمن قيام دولة ديمقراطية وعصرية ومدنية حديثة، مع فارق جوهري، أنه كان هناك ميدان مزروعةٌ أرضه بالثوار الذين يتشاركون في صناعة القدرة على ملامسة الحلم.
مع احترامي كل جهد وكل محاولة جادّة ومحترمة لتخليص مصر من هذا الكابوس، ومن دون التشكيك في نيات أحد، إلا أن مخاطبة الناس بوعود تحويل مصر إلى جنّة للديمقراطية بعد زوال حكم السيسي، من دون توضيح كيف تتم إزالته، وما هي حدود القدرة على تحقيق ذلك، لا تختلف كثيرًا عما يردّده السيسي، ويسخر منه الجميع حين يقول "أعطوني عشرين تريليون دولار وسأجعل مصر عروس"، ذلك أن أي نظام حكم لمصر يأتي بعد رحيل السيسي يمكنه أن يجعلها عروس الديمقراطية والمدنية والحداثة، إنْ كان نابعًا من إرادة شعبية حقيقية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق