الثلاثاء، 24 ديسمبر 2019

حقوقنا الضائعة في شرق المتوسط

حقوقنا الضائعة في شرق المتوسط

من الغرائب أن الوضع في قبرص غير مفهوم لدى الكثير من المسلمين، فالإعلام العربي دأب على وصف قبرص بأنها محتلة من تركيا وهذا غير صحيح
عامر عبد المنعم
لا يمكن النظر إلى التصعيد في شرق المتوسط على أنه مجرد خلاف حول المياه الإقليمية والحقوق الاقتصادية، وأنه تنافس على حصص الغاز والنفط بمعزل عن الصراع التاريخي والديني، الذي لم يتوقف، ويهدف إلى طرد المسلمين من البحر، في اتفاقيات جديدة لا تراعي القانون الدولي الذي لا يعطي قبرص واليونان ومعهما "إسرائيل" حق الهيمنة على هذه المنطقة الحيوية.
هذه المنطقة تقع في قلب الأراضي العربية والإسلامية، حيث يحدها من الشمال تركيا ومن الشرق سوريا ولبنان وفلسطين ومن الجنوب مصر وليبيا، ولأهميتها خضعت طوال التاريخ للإمبراطوريات التي حكمت مصر والشام، قبل الإغريق وبعدهم، فالفراعنة في التاريخ القديم سيطروا على قبرص وكريت ورودس وجزر بحر إيجه، وبعدهم جاء الحيثيون والفينيقيون والآشوريون والفرس، قبل الإسكندر والرومان والبيزنطيين، ثم حكمها المسلمون حتى بداية القرن الماضي.
الوجود الصليبي في الشام كان وجودا مؤقتا، بعده هربت بقايا الفرسان الصليبيين إلى قبرص ورودس وكريت وبقوا فترة من الزمن، حتى جاء العثمانيون الذين قضوا على الإمبراطورية البيزنطية، وطردوهم وأعادوا المنطقة للمسلمين مرة أخرى، وحافظ الأتراك على سكان الجزر وأعطوهم الحرية، فبقى من بقي على المسيحية وأسلم معظمهم بدون إكراه لما رأوا التسامح الإسلامي.
لكن أطماع الهيمنة الأوربية على المتوسط لم تتوقف، فقد سعى القوميون الإيطاليون الذين ظنوا أنهم ورثة الإمبراطورية الرومانية في أواخر القرن التاسع عشر لاستعادة السيطرة على البحر، لكن المحاولة انتهت بهزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية، وكررت اليونان المحاولة وقطعت شوطا كبيرا بمساندة أوربا وروسيا وما زلنا نواجه الأطماع اليونانية حتى اليوم.
إحياء الرومانية والإغريقية
يبدو أن بعض السياسيين الأوربيين لم ينسوا تاريخ العداوة القديمة، ولا يريدون القبول بتقاسم البحر مع المسلمين، وقد ظهرت هذه العودة للأطماع الصليبية مع ضعف السلطنة العثمانية في نهاية عهدها وسعي أوربا لانتزاع الولايات التي كانت خاضعة لها في شرق أوربا والبلقان والبحر المتوسط.
 مع عودة الحركة القومية بعد توحيد إيطاليا في 1861 وصعود النزعة التوسعية لاسترداد ممتلكات الإمبراطورية الرومانية، وتبني المطلب الكنسي القديم مار نوستروم Mare Nostrum وهو يعني "البحر ملكنا وحدنا"، فاحتلوا ليبيا وجزر وسط وشرق المتوسط، ولكن الإنجليز قطعوا عليهم الطريق لاحتلال مصر، فأرسلوا جيوشهم إلى القرن الإفريقي ليسيطروا على طريق الملاحة من المحيط الهندي الى البحر المتوسط.
قضت هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية على التوسعات الإيطالية وتم انتزاع جزر بحر إيجه التي احتلتها الإيطاليون من العثمانيين وتسليمها لليونان.
نفس النزعة التوسعية وامتلاك شرق المتوسط سيطرت على اليونانيين الذين يرون أنهم ورثة الإغريق، واعتنقوا فكرة العقيدة الكبرى Megali Idea وهي تعني حقهم في استرداد ممتلكات الإسكندر الأكبر وأراضي الإمبراطورية البيزنطية، فبدأوا ينفذون أحلامهم فور استقلال اليونان عام 1821 وقاموا بمحاربة الدولة العثمانية وتشجيع الشعوب الأرثوذكسية الخاضعة لها في البلقان وجزر البحر المتوسط على التمرد والثورة.
ساندت أوربا اليونانيين ضد الدولة العثمانية وساعدتهم في انتزاع جزر بحر إيجه القريبة من شاطيء الأناضول والبعيدة عن شواطيء اليونان، وأهمها الجزر الثلاث الكبرى كريت وقبرص ورودس التي تسيطر على الممرات المائية والملاحة في البحر المتوسط.
إبادة مسلمي جزر المتوسط
إذا كان العالم لم ينس جريمة إبادة الهنود الحمر والقضاء على سكان أمريكا الأصليين فإن جريمة إبادة أخرى حدثت في جزر البحر المتوسط لم تحظ بالاهتمام حتى الآن، لأن ضحاياها من المسلمين، وبسبب الزلزال الذي صاحب سقوط الدولة العثمانية غطى الضجيج على عملية القتل والتهجير التي تعرض لها سكان جزر بحر إيجه وكريت ورودس وقبرص التي تم إنقاذ ما تبقى فيها من المسلمين في اللحظات الأخيرة.
لقد أجبرت جيوش بريطانيا وفرنسا وروسيا العثمانيين على التنازل عن الجزر وقاموا بتسليمها لليونانيين الذين ارتكبوا المذابح المروعة ضد المسلمين، فأجبروهم على الهروب وترك ممتلكاتهم، ومن بقي قتلوه، ولكن الإبادة في قبرص لم تكتمل بسبب تدخل تركيا وحماية المسلمين في شمال الجزيرة.
لولا التدخل التركي لكان مصير المسلمين في قبرص مثل ما حدث للمسلمين في جزيرة كريت بعد خروج العثمانيين منها عام 1898 وكان عددهم 89 ألفا، وقد اختفوا تماما من الجزيرة، بالقتل والمذابح والتهجير، وإذا كانت جريمة الإبادة في قبرص وكريت قد تمت على مرأى ومسمع من العالم فإن إبادة سكان الجزر الأخرى في بحر إيجه تمت في صمت بعيدا عن أعين الكاميرات.
قصة قبرص وإبادة لم تكتمل
من الغرائب أن الوضع في قبرص غير مفهوم لدى الكثير من المسلمين، فالإعلام العربي دأب على وصف قبرص بأنها محتلة من تركيا وهذا غير صحيح، فالحقيقة أن قبرص مخطوفة من الطائفة المسيحية الأرثوذكسية بالمخالفة لاتفاقيات الأمم المتحدة، وبالانقلاب على اتفاقية الاستقلال عن بريطانيا عام 1960 التي قضت بأن حكم الجزيرة نظام فيدرالي مشترك بين طائفتين: القبارصة المسيحيين والقبارصة المسلمين بنسبة 7 : 3 برئيس مسيحي ونائب مسلم، لكن المسيحيين انقلبوا على الاتفاق عام 1963 وطردوا المسلمين من كل الوظائف الحكومية، وانفردوا بحكم الجزيرة وارتكبوا المذابح للانضمام إلى اليونان.
رفض القبارصة اليونانيون بزعامة الأسقف مكاريوس مشاركة المسلمين في الحكم، بل ورفضوا أن يبقى المسلمون في الجزيرة لأنهم ضد الـ "إينوسيس" وهي عملية الانضمام إلى اليونان، فبدأوا حملات التطهير العرقي وتدمير القرى المسلمة، وشكل الأسقف مكاريوس حركة سرية " أيوكا" بقيادة عسكريين يونانيين تقوم بالمهمة، فحاصروا المدن والقرى وأخفوا المسلمين في قبور جماعية، وكادوا يستأصلون الأقلية المسلمة من الجزيرة لولا تدخل الجيش التركي عام 1974 لوقف الإبادة وحماية من نجوا من القتل.
جاء التدخل التركي لإنقاذ المسلمين ردا على الانقلاب العسكري الذي قام به قادة الجيش اليونانيون ضد الأسقف مكاريوس لإعلان الانضمام الفوري لليونان، بعد تلكؤ مكاريوس الذي كان يريد القضاء على المسلمين بالتدريج وليس مرة واحدة بسبب الضغوط الدولية، وأيضا بسبب اتهام مكاريوس بتأييد عودة الملكية في اليونان وعدم انسجامه مع النظام العسكري الذي سيطر على السلطة، وقد حمى الجيش التركي المسلمين في المنطقة الشمالية التي هرب إليها مسلمو الجنوب تاركين بيوتهم وممتلكاتهم.
العجيب أن القوات اليونانية التي قامت بالانقلاب كانت هي الحرس الوطني للجزيرة الذي شكله مكاريوس للتخلص من المسلمين، والأعجب أن قادة هذه القوات لم يتورعوا عن ارتكاب المذابح ضد المسيحيين من أنصار مكاريوس، بل طاردوا الزعيم القبرصي لقتله لولا أن طائرة بريطانية أخذته من الدير الذي اختبأ به وأخرجته من الجزيرة، ثم أعادته الدول الأوربية بعد ذلك ليحكمها.
المجتمع الدولي لم ينصف مسلمي الجزيرة
سجلت مضابط الأمم المتحدة المذابح والتطهير العرقي ضد المسلمين، ولكن المنظمة الدولية عجزت عن حماية المسلمين ومنع عملية الاختطاف التي قام بها القبارصة اليونانيون للجزيرة، وفشلت كل محاولات تنفيذ الاتفاقيات المبرمة التي تدين انفراد القبارصة اليونانيين بحكم وتملك الجزيرة، بل و دانت بعض الكنائس الغربية الجرائم واعتبرتها تشويها لصورة المسيحية، وقد سجل كل هذه الاتفاقيات والمضابط والوثائق رءوف دنكتاش في كتاب "المثلث القبرصي".
في ضوء ما ظهر جليا من عدوانية وعدم رغبة في التعايش من الجانب اليوناني ومساندة الدول الأوربية لانفراد القبارصة اليونانيين بالحكم وتجاهل حقوق الطائفة المسلمة، وقبول مجلس الأمن القبارصة اليونانيين كممثلين لكل قبرص أعلن المسلمون في فبراير 1983 عن دولة شمال قبرص، اعترفت بها تركيا وخذلتها الدول العربية والإسلامية وباقي دول العالم.
لقد حكم العثمانيون قبرص ثلاثة قرون (307 عاما) منذ 1571 إلى 1878 وأعطوا الطائفة المسيحية كل الحقوق والحماية، وكان هذا التسامح مع الطوائف مشهورا عن العثمانيين منذ بداية عهدهم، وظل سكان الجزيرة في أمان حتى قدوم الإنجليز عام 1878 عندما طلبوا إدارة قبرص مقابل مساعدة الدولة العثمانية في حربها مع روسيا، ومن يومها بدأ التغيير الديموغرافي وجلب اليونانيين لتغيير التركيبة السكانية وفرض واقع جديد على الأرض.
في التعداد الذي أجرى عام 1890 بعد الوجود الإنجليزي بـ 12 عاما كان عدد المسلمين 60 ألفا وعدد المسيحيين 20 ألفا، ولكن بعد استقدام المزيد من اليونانيين خلال ثمانية عقود انقلب الوضع؛ إذ تحول المسيحيون إلى أغلبية والمسلمون إلى أقلية، حيث كشف التعداد عام 1973 عن ارتفاع نسبة القبارصة اليونانيين الي 74,7 % وانخفاض نسبة القبارصة المسلمين الى 24,6 وعدد محدود من أقليات أخرى.
لا يمكن لأي مخطط استراتيجي أن يتجاهل الصراع التاريخي والمعاصر في شرق المتوسط، وهو يتفاوض ويحدد علاقاته في هذا الحوض المائي، والطبيعي أن يتحالف العرب والمسلمون ويتفاوضون معا حتى لا تضيع حقوقهم، وليس من المنطقي أن ينفرد الأوربيون ومعهم الكيان الصهيوني بدولة في حجم مصر لترسيم الحدود بعيدا عن باقي الشركاء.
ولم يعد مقبولا الدفاع عن الاتفاقية التي وقعت عليها مصر والتي أعطت اليونان ثلث البحر المتوسط، ومنحت "إسرائيل" حقول الغاز التابعة لمصر، والمطلوب تصحيح الموقف المصري، والاستفادة من الاتفاق التركي الليبي لاستعادة الحقوق الضائعة، وليس التمسك بقرار ثبت بكل الحسابات أنه خاطيء.
إن اختلاق معارك سياسية وإعلامية وإطلاق قنابل الدخان ضد تركيا وليبيا لن يخفي كارثة التنازل عن الحقوق المصرية في شرق المتوسط، وليس عيبا الاعتراف بالخطأ ولكن الكارثي الاستمرار في التفريط رغم افتضاح اللعبة، بل ودق طبول الحرب دفاعا عن الإسرائيليين واليونانيين!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق