السؤال الاعتراضي.. لماذا نفكّك التنوير الغربي؟
هناك سؤالٌ مهم نحتاج اليوم لتحرير جوابه، في ظل رحلة الفلسفة الفكرية التي نواصل الحديث عنها، كقاعدة معرفية لمستقبل مختلف للوطن العربي والشرق المسلم، والأسرة البشرية الكبرى. وعلى الرغم من أن العودة لسؤال الرأي العام، أو حركة البحث الثقافي للشباب العربي، ليس من المعتاد أن يتوقف عندها في منتصف الجدل الفلسفي، إلّا أن هناك واجباً أخلاقياً ومعرفياً يفرض علينا، عرض وتفكيك ما يرد من إشكالات لدى القراء العرب.
هذا السؤال هو ما الذي نعنيه في تفكيك مآلات التنوير الغربي، وتأثيرها التنموي والثقافي والحقوقي، على المجتمعات الإنسانية، ومنها هذا الشرق الكبير المبتلى بمحنٍ لا حدود لها، وبصراعاتٍ متعددة، وبفهم خاطئ للدين الإسلامي أو تطبيقات عُرفية تعتمد التراث، لا العقل ومقاصد النص، وما الذي تُمثله خطايا الغرب، واستبداده ضد الشرق وشعوب العالم الجنوبي، في ظل طفرته التقدّمية وعهد التكنولوجيا والعلوم، ومنظومات الدساتير وحقوق الإنسان التي على الشرق أن يقلده وحسب، للوصول إلى أهلية التلميذ فضلاً عن الشريك.
تبدو هذه الأسئلة حاضرةً بنصها المباشر، أو بتأثيرها الوجداني في داخل النفس المعذّبة أو المحرومة، والتي تقع تحت أقبية القهر الاستبدادي في الشرق، باسم الدين أو باسم قداسة الحاكم الملهم، بل هناك منظومة فلسفة تحظى بدعم سياسي عربي، تقوم على تكريس الفكرة، وترفض، من حيث المبدأ، وجود أرضية مستحقة لنقد الغرب. وتجد لديها مساحة قبول واسعة، بحكم
الإحباط الشرس المسيطر على أوضاع وطننا العربي، بعد إسقاط الربيع العربي، والحصيلة الدموية لذلك، وبسبب أن نماذج التدين الرافض خطاب المعرفة، تراثية كانت أو عثمانية جديدة، أو مذاهب شتّى تتقوى بعصا الأنظمة.
وقد يتوحش الموقف العلماني المضاد، فيشمل هذا الرفض سر التمسّك الروحي الذي تُصر عليه شعوب الشرق المسلم، فيشارك المثقف اللائكي في خنق الناس، وفي ازدرائهم، ويتحول هذا الصراخ العلماني الاستئصالي، عبر إطار وظيفي لصالح قوة الغرب الإمبريالية، ومشاريعها الثقافية التي لا تصنع أي أرضية تفاهم إنساني، ولا منظومة حقوق دستورية تُطبق العدالة الاجتماعية. بقدر ما أنها تُنهك هذا الشرق، وتُشعل حروب وجدان، يُسقى بفوضى بما فيها نماذج فنون، لا علاقة لها بلحن الإنسان وذوقه أو في مدرجه المسرحي، وفي عزف الموسيقى الراقي، الذي تميل له فِطر الناس، فيرتفع به ذوقهم، وتأنس بفنونه أنفسهم، وتتنوع ثقافتهم، فنحن اليوم في أتون ثقافة تسليعٍ ضخم، تتوسع وتُستنسخ وتُفرض على بقية العالم، وأصل هذا التوسع وبسطه على الأرض هو هذا المفهوم الذي قُهر به العالم الحديث، فاستفاق الناس تحت حكمه، باسم أقطاب العالم، أو باسم منظومات الأمم، غير المتحدة على ميثاق أخلاقي وعمراني جامع، بل هي جزءٌ من حصيلة القوة القاهرة التي فرضها العالم الشمالي، ومبرره الأوحد أننا نبعث التنوير للعالم.
هناك خداع كبير وتشويش واسع، لحصيلة هذه المنظومة النقدية الواجبة، والتي تؤثّر على تفاصيل حياتنا، وعلاقتنا بأطفالنا، ومستقبل الضمير الجمعي للشعوب، بتعدد أديانهم ومذاهبهم وقومياتهم، فالفكرة التي تُقدم عند هذا النقد، والتي تعتمد على لغة العقل، والنظر في المآل البشري، ومطابقة النفع العام بالحق الأخلاقي والمساواة، هي أن هذه الخلاصات تعني دفن ما أنتجه العهد العلمي التكنولوجي، أو رفض الأُطر الإدارية القانونية الصالحة للبشرية، أو التقدم في تدوين الدساتير لحقوق الناس، في أوطانٍ متعدّدة، والأصل الحقوقي الكبير، وهو ردع
السلطات عن التغول على حقوق الفرد. وهذا هو الخطأ الكبير، إن المنظومات الإيجابية التي استفادت منها البشرية هي حصيلة تعاقب حضاري، لا يُطرح التخلي عنها، بل إن مجرد القول إن البشرية ستتخلى عنها محض عبث جدلي، لكن الإشكال الكبير هو عدم فرز ما هو وسيلة وما هو هدف خيري إنساني، وهل هذه الوسائل التي تروّج باسم العالم الحديث، وحقوقها المطلقة بل المفروضة على العالم، هي ضرورة لصالح البشرية، أم هي وسيلة لتحطيمها.
ولذلك لا نجد في مؤسسات البحث الفكري، ولا الدراسات الأكاديمية، تطبيقات العمق الثالث لما بعد التنوير الغربي والحداثة الرأسمالية، ولا تفرد منظومات تأملات ومشاريع متخيلة، أو مجرّبة، للأثر الإيجابي الذي ستخلقه مسارات البعد الثالث، وهنا السؤال على السؤال يجيب: فلماذا نفترض أن ضبط الأسواق العالمية، وتلاعبها في أخلاق الطفولة، وفي ضمان سلامتها، والحرص على توسعة دائرة المعرفة والأخلاق فيها، تمثل تخلفاً أو دعوة مجردة من القدرة التنفيذية، في ظل جدول ضحايا مخيف، على مستوى العالم، جراء تمكن القوة المالية الإمبريالية، من مجتمعات البشرية.
لماذا يُفترض أن إعادة احترام المرأة، ورفض برنامج تسليع أنوثتها، مع ضمان كامل الشراكة
والحقوق، هي مؤشر تخلف؟ ما هو التخلف؟ لماذا المرأة حتى اليوم تستهلك أنوثتها في مضمار إثارة الغرائز لصالح السوق العالمي، ولا يوجد ما يمكن أن يمثل رفضاً لهذا الإنهاك، بل العكس وهذه إحدى نتائج هيمنة التنوير الغربي. وهنا خطأ آخر، حين يُفترض أن معركة تحرير المرأة من طبائع التوحش وقوانينه، ومن الممارسات العنيفة ضدها، مرهونة بدفعها إلى سوق التسليع أو مقدماته. العكس هو الصحيح، إنصاف المرأة أمام ظالميها، تشريعياً وحقوقياً، ودعم مساحتها الإنسانية، ودفق التراحم والحميمية المستحقة لها مع الرجل، في مسارها الطبيعي، والانسحاب من فكرة الجحيم التي فرضها التنوير الغربي، أن هناك معركة أزلية بين المرأة والرجل، لا حدود لنهايتها إلا نهاية العالم.
ما الذي تخلقه مدرسة القيم، لصالح الإنسان في منظومة الحقوق، ولماذا لا تكون الحداثة حداثة تقدم تصنع الآلة والمواد القانونية، من خلال ميزان الروح والعدالة التي لا تُسقط الطبيعة في الأرض، ولا الفطرة في الإنسان، وإنما تُسخّر المادة لها، هنا محلّ الفارق الكبير والخطير، حضارة تخدم الإنسان، لا حضارة تستخدمه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق