يساري وقومي وتابع للولي الفقيه.. أين الإنسان؟
رغم أن مطلع التسعينيات (قبل ذلك في واقع الحال) قد شهد انحسارا لافتا للتيارين اليساري والقومي في الشارع العربي، إلا أن مسار "أوسلو" التصفوي للقضية الفلسطينية، وما تبعه من "هرولة" رسمية عربية باتجاه الكيان الصهيوني، والتبشير بشرق أوسط جديد يتسيّده الكيان؛ ما لبث أن دفع الإسلاميين الذين كانوا قد تسيّدوا الشارع حينها إلى إنشاء تحالفات مع التيارين المشار إليهما من أجل توحيد الجماهير في مواجهة ذلك الخطر.
في تلك الأثناء، حمل الإسلاميون على أكتافهم رموزا وأحزابا بلا شعبية حقيقية في الشارع، ومنحوها فرص التحدث إلى الجماهير عبر مسيرات ومهرجانات كبرى، وفي السياق نشأ ما يعرف بـ"المؤتمر القومي الإسلامي"، بجانب تحالفات مشابهة في أكثر من بلد عربي.
لم يكن الإسلاميون يتسيّدون الشارع وحسب، بل كانوا هم عنوان المقاومة الأبرز أيضا، وتحديدا في فلسطين ولبنان.
نفتح قوسا كي نشير هنا إلى أن الإسلاميين السنّة لم يأخذوا موقفا سلبيا من الشيعية السياسية ممثلة في إيران وحزب الله، ووقفوا بجانبها حين كان الصدام مع الكيان الصهيوني، وكانت قوى الممانعة تتشكل من الجميع، وإن تسيّد الإسلاميون السنّة الشارع العربي في مواجهة التطبيع وتبني قضايا الأمة؛ لكون السنّة هم الغالبية في الأمة (عربا ومسلمين).
لم تكن القوى الإسلامية قد أهملت مشروع الإصلاح الداخلي، وكان نشاطها يتمثل في أبعاد داخلية في دولها، بجانب نشاطها في مواجهة المشروع الصهيوني، لكن النشاط الداخلي كان قد ذهب في اتجاه الإصلاح المتدرج عبر المشاركة السياسية في البرلمانات على أمل الوصول إلى التعددية الحقيقية.
جاء الغزو الأمريكي للعراق ليشكل علامة فارقة في المشهد السياسي
جاء الغزو الأمريكي للعراق ليشكل علامة فارقة في المشهد السياسي، إذ دفع "الشيعية السياسية"؛ إن جاز التعبير، نحو حالة من غرور القوة غير المسبوق، فيما كانت إيران قد تعاونت ضمنيا مع الغزو، وتاليا مع منظومة التعاون معه بعد ذلك.
كان لافتا أن ذلك قد بدأ يحدث شرخا في العلاقة بين أركان التحالف "الممانع إياه"، إذ وقف الإسلاميون السنّة (باستثناء جزء منهم داخل العراق) ضد الغزو وضد التعاون معه، وكذلك كان حال اليساريين والقوميين، فيما بدأت مشاعر الغالبية السنيّة تتغير حيال إيران وتحالفها.
جاءت حرب تموز 2006 في لبنان، ليشهد الموقف منها قدرا من الانقسام بسبب ما جرى وكان يجري في العراق، لكن الغالبية ما لبثت أن تجاوزت ذلك، ووقفت بجانب حزب الله في المعركة، من دون أن يتغير الموقف مما يجري في العراق، إذ وقف الإسلاميون السنّة، وكذا اليساريون والقوميون بجانب المقاومة العراقية التي تسيّدها السنّة، حتى إن يساريين وقوميين لم يكونوا يترددون في وصف "أبو مصعب الزرقاوي" بالبطل.
واللافت هنا أن النظام السوري المحسوب على التحالف الإيراني كان داعما للمقاومة العراقية، فيما كانت إيران تعمل على إفشال مشروع الغزو من الداخل عبر سيطرة القوة الشيعية على السلطة، الأمر الذي يستند إلى نظرية صحيحة مفادها أن مشروع الغزو كان يستهدف إعادة تشكيل المنطقة من جديد لحساب أمريكا والصهاينة، وإذا نجح فسيذهب نحو تركيع إيران وسوريا ومصر وبقية المنطقة.
هيمنت إيران على العراق وسط تيه رسمي عربي
فشل مشروع الغزو عمليا، وهيمنت إيران على العراق وسط تيه رسمي عربي، وحالة من فقدان الوزن بدخول مصر (مبارك) متاهة التوريث، ومخاوف السعودية من أمريكا بسبب تبعات هجمات سبتمبر.
على الصعيد الداخلي، كانت الأوضاع في الدول العربية قد وصلت الجدار المسدود من حيث آفاق الإصلاح السياسي والاقتصادي، وانتهت تجربة المشاركة السياسية للإسلاميين في ظل ديمقراطية مبرمجة إلى نتيجة بائسة، وهنا بدأ ربيع العرب في يناير 2011، ثم امتد سريعا إلى مصر.
رحّب الجميع بذلك الربيع (الإسلاميون واليساريون والقوميون وإيران أيضا)، حتى وصفه خامنئي بـ"الصحوة الإسلامية"، لكن المفاجأة المدوية قد تمثلت في انتقال مزاج الثورات سريعا إلى سوريا في آذار/ مارس من ذات العام.
هنا حدث الفراق، ليس بين الإسلاميين السنّة، وبين اليساريين والقوميين، وقبل ذلك إيران وتحالفها، بل بين الغالبية السنيّة برمتها وبين هؤلاء جميعا، بخاصة إيران، إذ إن حضور التيارين المذكورين في الشارع كان وما زال هامشيا، وإن حضر في احتجاجات السودان لاعتبارات خاصة بالوضع هناك.
في هذا الفراق الذي نتحدث عنه؛ هناك ما يدعو للتأمل، وقبله ما جرى في العراق بعد الغزو.
انحاز أتباع إيران لـ"وليهم الفقيه"، وتنكروا لنظرية "الحسين ويزيد"
في عراق ما بعد الغزو، حدث قدر من الفراق مع إيران التي انحازت لمشروع تمددها على حساب المبادئ والشعار، وبقي الإسلاميون السنّة واليساريون والقوميون في ذات المربع (إعدام صدام بتلك الطريقة المثيرة نهاية 2006 وعشية عيد الأضحى كان علامة فارقة)، لكن الفراق مع الأطراف الثلاثة مع لبث أن جاء بعد وصول ربيع العرب لسوريا، حيث تمت شيطنة "الربيع" بالجملة، بعد الترحيب به في البداية.
في كل هذه المحطات كان الإسلاميون السنّة أكثر تعبيرا عن ضمير غالبية الأمة، بينما انحاز أتباع إيران لـ"وليهم الفقيه"، وتنكروا لنظرية "الحسين ويزيد" التي يبشّرون بها، ووقفوا مع الطاغية الفاسد ضد الشعب، فيما انحاز اليساريون والقوميون للسياسة والأيديولوجيا على حساب القيم الإنسانية.
وإذا قيل إن ذلك تابع لهوية ربيع العرب، أو لهوية الشارع، فإن موقف الإسلاميين من ثورة السودان ذات الطابع اليساري ضد نظام محسوب على التيار الإسلامي، ما لبث أن أثبت انحيازهم للإنسان ضد الظلم؛ أيا تكن هويته أو الشعار الذي يرفعه.
هل نشير هنا إلى فضيحة أخرى لأتباع "الولي الفقيه" تتمثل في قتل وتخوين محتجين عراقيين (شيعة للمفارقة) خرجوا ضد فساد طبقة سياسية تحميها إيران، وأهلكت الحرث والنسل؟!
الخلاصة هي: أن تكون إنسانا خير لك من أن تكون "كائنا سياسيا" بلا ضمير، فلا شيء أسوأ في الحياة من فقدان الضمير؛ بخاصة حين يتعلق الأمر بأفراد لا يملكون سلطة يدافعون عنها، ويدوسون القيم لأجلها، مع أن ذلك مجرّم في في كل الأحوال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق