كيف نفهم موقف تونس من ليبيا؟
لماذا رفض الرئيس التونسي، قيس سعيد، فتح أراضي بلاده لصالح التدخل التركي في ليبيا، والذي قد يتم بناءً على طلب رسمي من حكومةٍ شرعية، تواجه تدخلاً عسكرياً وسياسياً واسع النطاق، من أبو ظبي إلى مصر، والشركاء الدوليين، لاقتسام ليبيا الجديدة، بعد اجتياح اللواء المتمرد، خليفة حفتر؟ ونحن إذ نُصدّر هذا الوصف للتحالف الذي يحاصر طرابلس، نؤكد إدراكنا هذه القوى التي تضمر الشر لليبيا.
في المقابل، ليس التدخل التركي قائماً على موقف تضامن عاطفي، ولا من منظورٍ مطلقٍ للأممية الإسلامية، إلّا من خلال ميراث المفهوم التركي وصدارته وأفضليته على العرب. وبالتالي، يوضع تفوّق تركيا القومية المعاصرة لدى بعضهم واجباً إسلامياً، بغض النظر عن معيار هذا التفوق، وما حصيلته على الأرض وخسائر الشعوب منه. ولا علاقة لهذا المفهوم العاطفي بالإسلام ولا بقطعيات الشريعة، وهناك في الأصل خلافٌ واسع، في تقدير منهجية الحروب التي وقعت داخل الدولة العثمانية على مكوناتها، وحرب العثمانيين عليها، بمن فيهم الشراكسة الأتراك، فكيف في هذا الزمن المتداخل، والذي تشير فيه الحالة التركية في سورية إلى مأساةٍ ارتدّت على الشعب لا تُسقط مسؤولية العرب ولا غيرهم، فضلا عن جريمة النظام والإيرانيين والروس. ولكن في نهاية الأمر انتهى المشهد إلى توافق روسي تركي إيراني، في سوتشي، وما يجري اليوم جزء من حصيلته. إذن، كيف نتعامل مع هذا المفهوم، في ظل هذا الواقع على الأرض إجمالاً؟
بالطبع، تراجعت اليوم، مع الأسف، الفكرة التي تقوم على أن الأتراك والعرب تجاوزوا مرحلة الصراع الذي أوجدته الدولة العثمانية بين مكوناتها، بتدخلٍ غربيٍّ أو من دون تدخل، مع تقدير حالة التخلف في المعرفة والاستبداد في عهد العثمانيين، والذي لا يزال لأتاتورك رصيد شعبي ليس قليلا بسببه، في وجدان الأتراك مع حربه للاستقلال، على الرغم من كراهيته المعروفة للعرب والإسلام، وهي كراهية علمانية قومية معقدة. غير أن الوعي الجديد عند انطلاق التجربة التركية في 1995، ثم وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكومة عبر انتخاب ديمقراطي، استدعى البيان القرآني، وهو تاج الحكمة بين الناس: "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت، ولكم ما كسبتم، ولا تسألون عما يعملون"، فالدولة الأموية ثم العباسية ثم العثمانية، محملاتٌ بإرثٍ صعبٍ من المظالم والاستبداد، وإن كانت لبني أمية وبني العباس مساحة حضارية، ومساهمات إيجابية، حققتها الأمة بعيداً عن استبدادهم، أو من خلال زوايا العدالة التي تحقّقت في تاريخهم، وغيرها من جوانب التفوق الإنساني الذي حين يُقارن بإنصاف، فإن تراثه لا يُلغى بالكلية، بل يُدرس، ويعرف كيف تفوقت معادلة معرفة للأمة، أو التطوير المدني عند تخلف أوروبا. فإذا كان هذا موقفنا، نحن العرب، فما الذي ننتظره من الأتراك؟ إنها المعادلة نفسها، وإن حضور الروح القومية اليوم، وجعلها منهجا لحساب مصالح تركيا، لا يغيرها حين تتخذ الرابطة الإسلامية حجة لها، فمصالح الأمة العليا، والحفاظ على المدنيين، ورفض الحرب
هنا تُقاس مصالح التعاون والتعاضد، بناء على مصلحة عليا مشتركة، تضمن عدم تحوّلها إلى حفر نيرانٍ تلتهم الناس، أو توظيف لصراع آخر، قومي أو فئوي أو سياسي. وحين لا يتحقق ضمان هذه المصلحة، فلا بد من حضور دفع المفسدة، من أي تدخلٍ كان، لأنه سيزيد تعقيد الأزمات، ويوسّع رقعة الحرب، ويمنع فرص إحلال السلام، أو الحل السياسي لهذه الدولة أو تلك، هنا تتم مراجعة المقاييس.
وقد جاء التدخل التركي بناءً على اتفاق مصالح كبرى للدولة القومية الحديثة، وفي مواجهة العدو التاريخي، وهو اليونان، وإنْ كانت بعض هذه المصالح لصالح أهل ليبيا، لكنها ليست في أجواء مناسبة، ولا أرضية استعداد، لبسط الشرعية على الأرض الليبية، ومعالجة الانقسام الشنيع بين الغرب والشرق الليبيين، فإذن ليس هذا التدخل مضمون العواقب أبداً، بل مخشيٌّ من تفاقمه، ولا يوجد ضمانٌ لردع مشروع أبو ظبي، ليتحول المشهد إلى استقرار وسلام، وإنما العكس، إذ تحوّل ليبيا إلى مزيد من تركة الحروب المتعددة، وتضاف ملفا خطيرا إلى العلاقات التركية العربية المتوترة. وهكذا تتوسع النظرة التي تفيد بأن تركيا
وربما كانت للرئيس التونسي، قيس سعيد، مساحات أخرى كمبادئ فكرية، لكن المقطوع به أنه يتحمّل المسؤولية السياسية والسيادية لبلده، وأن تونس التي تعاني من آثار تدخل وضغط الثورة المضادة لا يمكن لها أن تندفع وتُسخّر أرضها لأي تدخل عسكري أو جيوسياسي، حتى لو كان هذا التدخل، جدلاً، لأمرِ مشروع ومضمون العواقب، فإن قدرة تونس هي المحكّ، فما لم تستطع أن توقف الحرب عن جوارك العربي الشقيق، وتدفع إلى حلٍّ سياسي يعالج الحرب الأهلية، ويضمن بقاء طموح الثورة الليبية، ومستقبل شعبها، وتحديد مصالحه الاقتصادية بحريةٍ وسيادة، فلماذا تدفع أرضك إلى أتون هذا الصراع، وهو صراع خطير متشظٍّ، يمكن أن ينتقل إلى عمق تونس الاجتماعي والسياسي، ويهدم أقوى الوسائط التي قامت عليها التجربة التونسية، وحمت أرضها وشعبها، وهو النسيج التونسي الداخلي والتوافق الوطني العام، على حماية مكتسبات الثورة التي تصنع أرضية العدالة الاجتماعية وتداول السلطة، وحضور تونس العربية بقوةٍ سياسيةٍ، يساهم في حل أزمات البيت العربي الكبير.
مؤكّد أننا ندعم صمود حكومة الوفاق الوطني، لأن انهيارها خطير جداً على ليبيا وعلى العرب في شمال أفريقيا، وخصوصا بعد تضخم مشروع أبو ظبي في السودان الذي يؤثّر سلباً على السلام الاجتماعي، لكن ذلك لن يتم بدفع تونس إلى مساحةٍ لا تطيقها، وإنما بصناعة أرضية سلامٍ ليبية، تكون فيها راية ليبيا أقوى من كل مصالح الخارج.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق