رسامة كاريكاتير وكاتبة من قطاع غزة
تم تدمير الأبراج على مراحل ولعدة أيام على شكل أحزمة نارية كنت اسمع صداها (الجزيرة)
كان يوما مستكملاً لغيره من الأيام. قصف نسمعه عن بعد أو قرب في كل مكان. عندما تقترب شمس النهار من الرحيل، نردد ببؤس: جاء الليل وهمه! إذ كان القصف يشتد ليلا، فلا يكاد ينام صغير أو كبير، إلا ويقفز من فراشه مذعورا!
لقد كنا كلنا نكره حلول الليل! وكان أولاد أخوتي الصغار ينكمشون في أحضان أمهاتهم، ليزداد شعورهم بالأمان! كان المذياع ينقل أخبار المجازر المتتالية لعوائل كاملة، فنخشى أن نلقى نفس المصير! كلما كنت اسمع عن مجزرة ما ويكون عدد الشهداء والجرحى بالعشرات؛ كلما كنت اشتغل غضبا وحرقة. أين المسلمون من كل ما يجري في غزة؟ كيف تغمض لهم أجفان، ودماء شعبنا تراق على أيدي أعداء نبيهم؟
كنت أول الساكنين في البرج منذ فبراير عام ٢٠٠٢، وفيه أنجبت ابنتي الوحيدة نور، كم كان يحوي هذا البيت من الذكريات! كنت امتلك مكتبة كبيرة تحوي مئات الكتب والمجلدات المهمة في شتى المجالات، فضلا عن المئات من قصص ومجلات الأطفال، التي كنت احتفظ بها منذ طفولتي!
عشرات العائلات غادرت الحي الذي يقطنه أهلي، وكنت أنا قد لجأت للعيش في بيت أهلي، بعدما قام الاحتلال بتدمير برج زغبر في حي النصر، الذي فيه شقتي في أول أيام الحرب. كان أول برج يقوم الاحتلال بتدميره! لم يتركوا أي فرصة للسكان لأخذ مقتنياتهم الهامة، خرج السكان سريعا يفرون بحياتهم وحياة أطفالهم!
كنت أول الساكنين في البرج منذ فبراير عام ٢٠٠٢، وفيه أنجبت ابنتي الوحيدة نور، كم كان يحوي هذا البيت من الذكريات! كنت امتلك مكتبة كبيرة تحوي مئات الكتب والمجلدات المهمة في شتى المجالات، فضلا عن المئات من قصص ومجلات الأطفال، التي كنت احتفظ بها منذ طفولتي! وفيه أرشيف أعمالي الأصلية، المخزنة في عدة هاردات، على مدار ثلاثين عاما، وجوائز ودروع وشهادات تكريم محلية وعربية ودولية، كلها دفنت تحت ركام خمسة طوابق، تم تدميرها وتدمير شقاء أصحابها في ثانية واحدة!
كل يوم يمر، كانت تتناقص فيه فرص بقاء الأمن في بيت أهلي! قطع الاحتلال للكهرباء بشكل تام، منذ بداية الحرب، حال دون إيصال الماء إلى الخزانات على أسطح المنازل، مما يعني مأساة بيئية في كل بيت، حتى العربات التي كانت تزود البيوت بمياه الشرب المفلترة، ما عادت تعمل! باعة الخضروات المتجولين، ما عدنا نسمع أصواتهم في الطرقات! والأطفال الذين كانوا يلعبون الكرة، ويملؤون المكان ضجيجا بأصواتهم، تركوا الكرة ورحلوا مع عائلاتهم! قطط الشوارع الجائعة، كانت تتجمع حول أكوام القمامة المتراكمة، تبحث عن الطعام! كنت أسمع صوت قطة تموء طوال اليوم، تبين لي فيما بعد، أنها كانت تبكي صغيرتها الميتة! بقيت تموء قربها لساعات طويلة، ثم تلاشى الصوت، ربما رأف أحد المارة بها، فدفن صغيرتها! تذكرت قطتي وصغارها الثلاث في بيتي الريفي متواضع البناء في منطقة التوأم، شمالي القطاع، وتذكرت مزروعاتي ودجاجاتي العشر، كنت أضع الماء الوفير في كل زاوية قبل الحرب، في فترة الحر، حتى اكتسب ثواب إسقاء العصافير.
إسقاء العصافير والقطط الأخرى التي تزور المكان بين الفينة والأخرى. تم تدمير هذا البيت أيضا، بكل ما يحيطه من مشاريع سكنية حديثة، وتم تدمير أبراج نايف الثلاثين، والتي أنشئت بتمويل وإشراف سعودي، هذه الأبراج أنشئت خصيصا لمن تم تدمير بيوتهم في حرب٢٠١٤!
تم تدمير الأبراج على مراحل، ولعدة أيام، على شكل أحزمة نارية، كنت اسمع صداها، وانا أبعد عنها مسافة ثلاث كيلومترات!
بعد أذان العصر مباشرة، ارتج القطاع بأسره، إثر قصف الطيران الحربي لمربع سكني يمتد ما بين تقاطع شارع اليرموك مع منطقة الغفري، مرورا بشارع الجلاء، بقرابة عشرة صواريخ مدمرة متتابعة في على شكل حزام ناري ضخم!
كان صوت السيارات التي تقل جيراننا، إلى خارج الحي، منذ الصباح الباكر، تجعل خوفنا يتصاعد، فالعيش بغير جيران، وفي أجواء الحرب، أمر موحش جدا!! بقيت أمي مترددة في أمر الخروج من البيت، لأنها لا تخرج إلا بالكرسي المتحرك، بعدما أجرت عملية الغضروف في ظهرها!
بعد أذان العصر مباشرة، ارتج القطاع بأسره، إثر قصف الطيران الحربي لمربع سكني يمتد ما بين تقاطع شارع اليرموك مع منطقة الغفري، مرورا بشارع الجلاء، بقرابة عشرة صواريخ مدمرة متتابعة في على شكل حزام ناري ضخم! اعتقدنا حينها أن الطيران سيقصف الآن لا محالة المربع السكني الذي نقطنه! أصوات سيارات الإسعاف وسيارات الدفاع المدني لم تتوقف، يبدو أن مجزرة مروعة تمت في المكان المستهدف!
كان قرار النزوح الآن حاسما، ودون تفكير! خرجنا من البيت ومن تبقى في الحي، نكاد نطير مسرعين هرولة، هائمين على وجوهنا، نحمل بعضا من أمتعتنا الخفيفة الهامة، متجهين صوب مشفى الشفاء.
أهم ما يحمله النازح في حقيبته، مفتاح بيته، والشهادات والهوية الشخصية الخاصة به وبأولاده، وما يحمله من مال، أو ذهب زوجته، وما خفّ من الملابس، حتى لا تشكل ثقلا عليه، إن دعته الظروف للهروب السريع! أما إن كان يخطط للبقاء في المكان الجديد، فإنه يحمل بعض الفرشات، والمخدات والأغطية!
كان شارع الجلاء من الشوارع الجميلة الواسعة، يبلغ عرضه قرابة الأربعة والعشرين مترا. وعلى جانبيه البيوت والبنايات الكبيرة، والمحلات التجارية المختلفة والصيدليات، كما يتوسطه سطر طويل من الأشجار الكبيرة، والتي تصنع ظلا وارفا، وبيئة خضراء تسر الناظرين.
بعد ثمانية عشر يوما من بداية الحرب، تعرضت كثير من البنايات على جانبي الشارع إلى القصف والتدمير، وتبعثرت حجارة البيوت وأثاثها المهشم في عرض الشارع! وتوشحت الأشجار الخضراء الواقفة والمتساقطة بشال كبير من الغبار الرمادي الشاحب! فيما تمددت الأعمدة وأسلاك الكهرباء المقطوعة كجثث هامدة! واجهات المحلات المغلقة كانت منتفخة للخارج من هول القصف، وحتى البيوت في الشوارع الفرعية، التي تربط شارع الجلاء، بشارع اليرموك، طالتها يد القصف المباغت! فهدمت الأسقف والجدران فوق رؤوس أصحابها! وزجاج الشبابيك تفتت على الأرض كأكياس الأرز المبعثر! حبال الغسيل المعلقة على الشرفات، كانت لا تزال تحوي ملابس أصحابها، كل ألوانها بات هي أسودا! الإسفلت كان في بعض أجزائه مشققا، تملؤه الشروخ العميقة، وكأن المكان قد تعرض لزلزال مدمر! أي همجية ينتهجها الجيش الذي يدعي التحضر والإنسانية! فيضرب بيوت الآمنين من النساء والأطفال في بهيم الليل، ودون سابق إنذار!! هذه الحرب البربرية أثبتت أن الطفل الفلسطيني هو القوة العسكرية، التي يخشى الاحتلال تعاظمها!!
سيارتان مسرعتان، قامتا بإيصال عائلتنا كاملة، بعدما سرنا طويلا وسط الخوف. فيما لم تتوقف الطائرات الحربية والزنانة، تمخر عباب السماء، نافثة رائحة الموت في كل مكان.
الضربة الكبيرة كانت في منطقة الغفري، والتي تبعد قرابة نصف كيلومتر عن بيت أهلي، وهو مكان يجب أن نمر به، طالما أردنا الوصول لمشفى الشفاء.
لم نجد أي سيارة تسعفنا، لنهرب من أي قصف إضافي محتمل. كل السيارات تفر بسرعة الصاروخ، تحمل على ظهرها فراشاً وأمتعة، وفي بطنها يتكدس أفراد العائلات! وكأنه يوم الحشر، الكل يريد الفرار!!
ما أن اقتربنا من منطقة الغفري، حتى اتضح هول ما أصاب هذا المربع السكني الضخم من دمار. المربع يتسع ليشمل البيوت الممتدة بين شارعي الجلاء واليرموك! عشرات الشهداء ومئات الإصابات ومئات المدفونين تحت ردم البيوت! كيف تقوى سيارات الدفاع المدني المتواضعة والتي يستهدف الاحتلال طواقمها أيضا، في رفع كل هذا الركام، وإيجاد الضحايا على عمق ستة طوابق في بعض البنايات، كبناية التاج في شارع اليرموك، والتي انطبقت كلها على بعضها، كأن لم يكن بينها جدران وأعمدة تفصل بينها!
سيارتان مسرعتان، قامتا بإيصال عائلتنا كاملة، بعدما سرنا طويلا وسط الخوف. فيما لم تتوقف الطائرات الحربية والزنانة، تمخر عباب السماء، نافثة رائحة الموت في كل مكان.
وصلنا لمشفى الشفاء، وكانت أول مرة أدخلها بعد الحرب، النازحون يفترشون كل سنتيمتر فيها! عائلات كثيرة صنعت من الأغطية خياما تقيهم شمس النهار، وبرد الليل، وتستر عوراتهم، وخيام أخرى خاصة بالصحفيين ووكالات الأنباء، وآخرون كثر بلا خيام ولا أغطية! يفترشون واجهات مباني المشفى، وفي ساحاتها الخارجية!
روائح عديدة تنتشر في المكان، فهنا باعة القهوة والمشروبات الساخنة الأخرى، وهناك من يطهو الأرز بمرقة ماجي ويبيعها للنازحين، وهناك من يقلي الفلافل والبطاطس والبزر والفستق، وهنا يجلس باعة المعلبات من السردين واللحوم والبقوليات، وهناك يجلس باعة الملابس الخاصة بالصغار والكبار من كلا الجنسين، وهنا يفترش الأرض باعة الأغطية الشتوية، وهناك باعة حاجيات الأطفال! وبين كل هذه الأزقة تتراكم أكوام القمامة! فالبلدية باتت شبه عاجزة عن القيام بعملها، في ظل استمرار القصف، وتهديد سلامة طواقمها! أما المساحة الأخرى الأكبر، فقد اكتظت بالأكفان البيضاء، منهم من هو معروف صاحبها، وكثير منهم من هو مجهول الهوية!! ٱثرت أن أبتعد بناظري عنهم، لقد آلمني حجم الفقد! لقد آلمني حسرات الأهالي ونحيب الآباء!!
توجهت إلى الطابق الثالث في قسم الولادة القيصرية، حيث كانت أختي بصغارها تنتظرني هناك، سعدت أنني سأجد أناسا كثيرين، يخفف ضجيج أصواتهم هول صوت القصف!
ونمت طويلا، بعدما كنت أفتقد النوم لليال سابقة! نمت وأنا أعتقد أنني سأمكث يومين أو ثلاث، وتنتهي هذه الحرب القاسية!!