في هذه الحلقة وما بعدها، نستعرض معا (عزيزي القارئ) محاضر الأيام الأربعة المتبقية من الأيام العشرة الحاسمة التي أضحت مصر بعدها غير مصر التي قبلها، على كل الصُّعُد..
في اليوم الأول من هذه الأيام الأربعة، عُقدت جلستان، إحداهما في الصباح، والأخرى في المساء، وقد استعرضنا في الحلقة السابقة ما دار في الجلسة الأولى (الصباحية) التي انعقدت في إدارة الجيش، واقتصرت على جمال عبد الناصر، وعبد الحكيم عامر من الضباط، وحسن العشماوي من الإخوان..
في تلك الجلسة، طلب عبد الناصر إلى عبد الحكيم عامر الاتصال بالمستشار الهضيبي (المرشد العام للإخوان المسلمين)؛ لاستطلاع رأيه بشأن اشتراك الإخوان في الحكومة الجديدة..
قال الهضيبي لعامر: أرى عدم اشتراك الإخوان في هذه الحكومة؛ لأن نظام الحكم لا يقوم على أساس دستوري، غير أن القرار النهائي يبقى لمكتب الإرشاد..
وفي مساء اليوم نفسه، انعقدت الجلسة الثانية التي ضمت حسن العشماوي (محام- كاتب محاضر هذه الجلسات) وصلاح شادي (ضابط شرطة- لم يحضر الجلسة الأولى) من الإخوان، وجمال عبد الناصر من ضباط الجيش، ثم انضم إليهم عبد الحكيم عامر، بطلب من عبد الناصر الذي ذهب مغاضبا، على إثر إبلاغه رفض الإخوان الاشتراك في الوزارة، وبعد أن أخفق في إقناع العشماوي بأن يكون وزيرا، بعيدا عن الإخوان..
ساد التوتر هذه الجلسة، ولاحت في الأفق بوادر الأزمة بين عبد الناصر والإخوان، تلك الأزمة التي وُلدت ولم تمت، رغم موت كل صُنَّاعها وشهودها، ولا تزال تلقي بظلالها على المشهد السياسي في مصر حتى اليوم، وما بعد اليوم، إلى أمد لا يعلمه إلا الله.. وكان من بين ما كشفته هذه الجلسة، جموح قيادة النظام الخاص برئاسة عبد الرحمن السندي، وخروجه على خط جماعة الإخوان المسلمين..
فلنتابع ما دار في الجلسة المسائية "الكئيبة"..
"أربعة أيام أُخَر"
اليوم الأول 7 أيلول/ سبتمبر سنة 1952
(2) في المساء
(ذات الغرفة، صلاح وحسن يجلسان معا يتحدثان وينتظران)
- حسن [العشماوي]: ماذا ستقول لهم؟
- صلاح [شادي]: سأقول ما حدث، مكتب الإرشاد لم يوافق على دخول الإخوان في الوزارة.
- حسن: أتدري الموقف بعد ذلك؟ ماذا عن الباقوري [أحمد حسن] مثلا؟
- صلاح: لا أدري.. ولكن لا بد من قول ما حدث، وليفعل الباقوري ما شاء كما قال المستشار.. ولكن، قل لي: ما رأيك أنت؟
- حسن: يدخل البعض الوزارة كأفراد.. وأن نكون قريبين من الحكم، هذا أفضل من البعد عنهم، فيحيط بجمال غيرنا، ونحن لا ندري من يكونون، وما سيكون.
- صلاح: أقُلتَ رأيك هذا للمستشار [الهضيبي]؟
- حسن: نعم قلته.. ولكنه رفضه.. وقال: "من الخير أن نبقى بعيدين عن الحكم الآن".. إنه يرى أن السيطرة العسكرية ستتبلور في شخص واحد يحكم.
- صلاح: هل قلت رأيك لجمال؟
- حسن: لا طبعا.. قلته للمستشار فقط.. ووحده.
- صلاح: ما رأيك في دخولك أنت الوزارة؟
- حسن: لا فائدة تُرجى من وراء ذلك.. وعلى كُلٍّ فقد رفض المستشار.
- صلاح: ألست ترى أن نكون قريبين من الأحداث.. أن نكون داخلها لا خارجها؟
- حسن: لا قيمة لرأيي ما دام مكتب الإرشاد قد رفض.
- صلاح: لماذا لم تحاول إقناع المستشار؟
- حسن: أنت تعرفه.
- صلاح: وماذا كان موقف المستشار من مكتب الإرشاد؟
- حسن: يبدو أنه لم يحاول توجيه المكتب إلى رأي معين، ولكن المكتب رفض (لا عن اقتناع) ولكن خشية أن يقع الاختيار على غير ذوي العقيدة الثابتة، كما يقولون.
- صلاح: ماذا يعنون بذوي العقيدة الثابتة؟
- حسن: يعنون من أسميهم "المتزمتين".
- صلاح: أراك قاسي الحكم على إخوانك.
- حسن: إني أراهم كما هم.. ولكني ألتزم رأيهم ما دامت منهم.. ولعلهم يؤمنون يوما بأن نظرية التطور ليست كفرا.. وبالمناسبة، لقد قال لي المستشار وهو يبلغني قرار المكتب: يكفي في السلطة واحد.
- صلاح: أيعني الباقوري؟
- حسن: بل يعني جمالا في نظري.
- صلاح: إنك تتوهم ما يعنيه.
- حسن: ربما، ولكن من يا صلاح؟ إن جمالا يحمل في أعماقه طباع ومشاعر المسؤول عن النظام الخاص، في وضعه الذي انتهى إليه.. وإن خرج عن النظام فهو مؤيد به، إنه سيحكم كما كان يمكن أن يحكم عبد الرحمن [السندي – رئيس النظام الخاص المنبثق عن الإخوان]، ولكنه أفضل؛ لأنه أكثر ذكاء، وأوسع ثقافة وأكبر قدرة [يقصد عبد الناصر].
- صلاح: ما أشد ظلمك لإخوانك.
- حسن: سوف نرى.. ألم يحاولوا قتلك من قبل؟ وسيحاولون قتل غيرك؟ [يقصد النظام الخاص].
- صلاح: لقد قلنا إنهم أتباع الملك الذين حاولوا قتلي!
- حسن: قلنا ذلك ظنا، قبل أن نتبين الحقيقة.. ولما علمناها سكتنا؛ حفظا على وحدة الصف بين أنفسنا.. جمال سيفعل مثلهم، ولكن من مركز السلطة، بطريقة أكثر ذكاء.
(يدخل جمال)
- جمال: ما وراءكما؟ لم نتلق ردا على طلبنا دخولكم الوزارة إلى الآن.
- صلاح: لا أحد.. وإذا دخل الباقوري فبشخصه.. لقد رفض مكتب الإرشاد الاشتراك في الوزارة.
- جمال: لا يمكن.. لقد قبِل الباقوري، وسيحلف اليمين الليلة.
- صلاح: سيحلف بصفته الشخصية، لا صلة للإخوان بذلك.
- جمال: ولكن الكثير من الإخوان يؤيدونه!
- صلاح: هذا قرار مكتب الإرشاد.
- جمال: لقد بدا لي من حديث عبد الحكيم [عامر] مع المستشار [الهضيبي] صباح اليوم أنه موافق.
- صلاح (في إصرار): لقد رفض مكتب الإرشاد.
- جمال: ألا تتصل به يا حسن؟
- صلاح: ليس لرأي حسن الآن قيمة.. إنه سيُتهم بأنك أخذته.. ومكتب الإرشاد لن يوافق.
- جمال: عدلت عن اختياره، فما العمل الآن؟
- صلاح: اتصل بالمستشار [الهضيبي] إن شئت.
- جمال: سأفعل.
(يتقدم جمال إلى تليفون غير بعيد، ويستمر الحديث بين صلاح وحسن)
- صلاح: ماذا ترى في الموقف؟
- حسن: بداية أزمة.. أزمة ثقة مع جمال، وأزمة ثقة بين الإخوان.. إن جمالا يتصل بغيرنا في ذات الوقت.. سيتأزم الوضع (خلال سنة) إلى حد بعيد.
- صلاح: وما العمل؟
- حسن: لست أدري.. أنا من الإخوان.. ولكن جمالا سينتصر.
- صلاح: ألا تحاول شيئا؟
- حسن: كفاني.. إن محاولاتي لن تُجدي.. أنا متهم اليوم من الجانبين: الإخوان وجمال، فدعوني وشأني.. كفى إرهاقا لي.
- صلاح (في حدة): أتفهم ما تعني بداية الأزمة؟ أتفهم أبعاد الصدام الذي سيحدث؟ أتعلم نتائجه؟ ما قيمة الأرواح عندك؟ بل ما قيمة الدعوة ذاتها إذا قلت لي اتركوني وشأني فأنا مرهق؟
- حسن: أفهمه.. وأعلم.. ولكن ما حيلتي؟
- صلاح: أن تحاول.
(يعود جمال متغير الوجه)
- جمال: لا أفهم ما يقول.. ما معنى خذوا أصدقاء لا أعضاء؟ المكتب [مكتب الإرشاد] لم يوافق.. ألا يستطيع إقناع المكتب؟
- حسن: يستطيع.. ولكنه لا يريد أن يفرض رأيه.
- جمال: وما رأيه؟
- حسن: سله.. لا أدري.
- جمال: أتبدؤوننا بعداء؟ أترفضون المشاركة في حكم نحن وراءه؟
- صلاح: لا طبعا.. لكن المكتب رفض دخول الوزارة.. خذوا أصدقاء كما قال لكم، أو أفرادا بذواتهم، وسيتركون عندئذ الهيئة [جماعة الإخوان].
- جمال: لقد قبل الباقوري وانتهى أمره.. سيحلف اليمين بعد قليل.
- صلاح: ليس من المصلحة ذلك.. إنه لم يحضر اجتماع المكتب [مكتب الإرشاد] وهو عضو فيه.. إننا لم نستطع العثور عليه طوال النهار.
- جمال: إن المستشار يراوغنا.
- صلاح: ليست المراوغة من طبعه، هل قبِل ثم عدَل، أم أنه ترك الأمر من البداية في يد مكتب الإرشاد؟
- جمال: قال: إنه يترك الأمر لمكتب الإرشاد.. ولكن مناقشة المبدأ، وترشيحه بعض الأسماء (منهم الباقوري) للدراسة يعني أنه قبِل.
- صلاح: ومن سيدخل الوزارة لو أنه قبِل؟
- جمال: من رشحهم في الصباح، أو بعضهم على الأقل.
- صلاح (إلى حسن): هل تحاول معه مرة أخرى مع المستشار؟
- حسن: لا..
- جمال (إلى حسن): إذن، أدخل أنت بشخصك، وسأقنع سليمان حافظ ومجلس الثورة.
- حسن: قلت لا..
- جمال: إذن، أنتم تعلنون علينا حربا.
- حسن: لا.. ولكننا لن ندخل الوزارة هذه المرحلة.. هذا قرار المكتب.
- جمال: لا تقنعني بأن للمكتب أهمية.. أنا أعرف رأيهم.. كنت تستطيع إقناعه، وكان المستشار يستطيع أن يفرض عليه رأيه.
- حسن: إنه لم يعتد أن يفرض رأيه.. أما أنا، فأبعدني عن هذا الموضوع كله، فأنا أعلم نتائجه على أعضاء المكتب وغيرهم ممن اتصلوا بك.. سيقولون اتفقنا على أمر.. أنت وأنا..
- جمال: أراك تخاف الاتهام!
- حسن: أنا لا أخاف شيئا.. ولكني لا أريد الفرقة بيننا أن تقوم.
- جمال (كالهامس): إنها قائمة.
- صلاح (متدخلا): ماذا تقول؟
- جمال: لا شيء.
- حسن: بل يقول إن الفرقة قائمة بين الإخوان.
جمال: أُفٍّ لك.. أترككم الآن.. وسأرسل عبد الحكيم [عامر]؛ ليكمل الحديث معكم.. لسنا في حاجة إلى تأييدكم.. سيدخل الباقوري، وسيكون له أتباع.
(يخرج جمال)
- صلاح: ماذا ترى؟
- حسن: الضباب مخيم.. لا أرى شيئا.
- صلاح: سأكلم رشاد مهنا؛ ليؤجل اليمين حتى نتفق.. وسيحدث دخول الباقوري فرقة.
- حسن: الفرقة موجودة.. مشكلتنا أننا لا ندري ما نريد.
- صلاح: إلا المستشار [الهضيبي].
- حسن: أغلبنا لا يفهم المستشار.. كم عجبنا يوم قال لنا حين اخترناه: "تخلقوا بالقرآن أيها الإخوة، فلن يهزمكم أعداؤكم، ولكن تهزمكم نفوسكم".. عجبنا من ذلك.. وهو الصواب.. إنه يخشى علينا فتنة الحكم.. نحن غير مؤهلين له الآن.
- صلاح: إذن، هو موافق على قرار مكتب الإرشاد.
- حسن: أظنه كذلك.. ولكن لغير الأسباب التي بنى عليها المكتب قراره.
(يدخل عبد الحكيم)
- عبد الحكيم: ما الخبر؟ جمال ثائر.. لماذا أغضبتموه؟
- صلاح: لا شيء.. مكتب الإرشاد رفض دخول الإخوان الوزارة.
- عبد الحكيم: ولكن كلام المستشار صباحا كان يفيد القبول.
- حسن: لا.. لقد قلتَ إنك لم تفهم.. وأبلغتنا أنه ترك الأمر لمكتب الإرشاد.
- عبد الحكيم: وهل هذه طريقته كجمال؟
- حسن: ما تعني؟
- عبد الحكيم: سيبدي لكم جمال أحيانا أنه سيترك الأمر لمجلس الوزراء.
- حسن: أي ماذا؟
- عبد الحكيم: أي أنه لن يفعل شيئا.
- حسن: لا.. المستشار شيء آخر.
- عبد الحكيم: أعلم ذلك.. المستشار صريح.
- صلاح: أتعني أن جمالا ليس صريحا؟
- عبد الحكيم: لم أقصد ذلك تماما.
حسن (باسما): تعني تقريبا؟
(يقوم صلاح إلى التليفون المجاور.. ويتكلم فيه)
- عبد الحكيم: هل سيحاول صلاح مع المستشار ثانية؟
- حسن: لا أظن.. بل سيحاول تأخير حلف الباقوري لليمين.
- عبد الحكيم: مستحيل.. ما الضرر في حلف الباقوري لليمين؟ أستحلفك بالله يا حسن.. هل موقفكم سليم؟
- حسن: وأنا استحلفك بالله أولا.. هل كنتم جادين في عرض الوزارة على الإخوان؟
- عبد الحكيم (مترددا): بالتأكيد.. وهل شككت في ذلك؟
- حسن: لست أدري.
- عبد الحكيم: وما ستفعلون بالباقوري؟
- حسن: في رأيي أن المستشار سيحاول ألا يصدر المكتب قراراً بفصله.
- عبد الحكيم: كيف سيكون وضعه إذن؟
- حسن: ربما استقال هو من الإخوان.. فأنا أعلم حرصه على الوزارة.
- عبد الحكيم: وأنت ألا تحرص عليها؟ أتريد العمل معنا على أية صورة من الصور؟
- حسن: لا.. اتركوني لمكتبي.. فأنا أحب المحاماة.. وأنا سعيد بعملي في الحركة دون قيود الوظيفة أو الوزارة.
- عبد الحكيم: ألا تخشى غضبة جمال من موقفك هذا؟
- حسن: أنا لا أخشى غضب البشر.
- عبد الحكيم: ولا من إخوانك؟
- حسن: اسمع يا عبد الحكيم.. أنا أعلم أن جمالا أقنع الكثيرين من الإخوان بسلامة موقفه، وأنه سيستمر في ذلك.. إنه سيحارب المستشار وحده، وعند ذلك سيلتف حوله الكثيرون.
- عبد الحكيم: أتتنبأ؟
- حسن: لا.. بل أستنتج فقط.
(صلاح يعود من مكالمته التليفونية، ويتحدث واقفا)
- صلاح: لم يكن ممكنا تأجيل اليمين.. سأذهب إلى المستشار وأبلغه رأيي.. هيا يا حسن.
- حسن: العبرة الآن برأي مكتب الإرشاد.
- عبد الحكيم: ثِقا أن الكثير منهم موافق على دخول الباقوري الوزارة، وسيخذلون المستشار.
- حسن: أعلم ذلك.. وعلى كُلٍّ، فأنت تعلم مكاني إن شئت شيئا.
(ينصرف صلاح وحسن)
(يُتبع)..
twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com
في اليوم الأول من هذه الأيام الأربعة، عُقدت جلستان، إحداهما في الصباح، والأخرى في المساء، وقد استعرضنا في الحلقة السابقة ما دار في الجلسة الأولى (الصباحية) التي انعقدت في إدارة الجيش، واقتصرت على جمال عبد الناصر، وعبد الحكيم عامر من الضباط، وحسن العشماوي من الإخوان..
في تلك الجلسة، طلب عبد الناصر إلى عبد الحكيم عامر الاتصال بالمستشار الهضيبي (المرشد العام للإخوان المسلمين)؛ لاستطلاع رأيه بشأن اشتراك الإخوان في الحكومة الجديدة..
قال الهضيبي لعامر: أرى عدم اشتراك الإخوان في هذه الحكومة؛ لأن نظام الحكم لا يقوم على أساس دستوري، غير أن القرار النهائي يبقى لمكتب الإرشاد..
وفي مساء اليوم نفسه، انعقدت الجلسة الثانية التي ضمت حسن العشماوي (محام- كاتب محاضر هذه الجلسات) وصلاح شادي (ضابط شرطة- لم يحضر الجلسة الأولى) من الإخوان، وجمال عبد الناصر من ضباط الجيش، ثم انضم إليهم عبد الحكيم عامر، بطلب من عبد الناصر الذي ذهب مغاضبا، على إثر إبلاغه رفض الإخوان الاشتراك في الوزارة، وبعد أن أخفق في إقناع العشماوي بأن يكون وزيرا، بعيدا عن الإخوان..
ساد التوتر هذه الجلسة، ولاحت في الأفق بوادر الأزمة بين عبد الناصر والإخوان، تلك الأزمة التي وُلدت ولم تمت، رغم موت كل صُنَّاعها وشهودها، ولا تزال تلقي بظلالها على المشهد السياسي في مصر حتى اليوم، وما بعد اليوم، إلى أمد لا يعلمه إلا الله.. وكان من بين ما كشفته هذه الجلسة، جموح قيادة النظام الخاص برئاسة عبد الرحمن السندي، وخروجه على خط جماعة الإخوان المسلمين..
فلنتابع ما دار في الجلسة المسائية "الكئيبة"..
"أربعة أيام أُخَر"
اليوم الأول 7 أيلول/ سبتمبر سنة 1952
(2) في المساء
(ذات الغرفة، صلاح وحسن يجلسان معا يتحدثان وينتظران)
- حسن [العشماوي]: ماذا ستقول لهم؟
- صلاح [شادي]: سأقول ما حدث، مكتب الإرشاد لم يوافق على دخول الإخوان في الوزارة.
- حسن: أتدري الموقف بعد ذلك؟ ماذا عن الباقوري [أحمد حسن] مثلا؟
- صلاح: لا أدري.. ولكن لا بد من قول ما حدث، وليفعل الباقوري ما شاء كما قال المستشار.. ولكن، قل لي: ما رأيك أنت؟
- حسن: يدخل البعض الوزارة كأفراد.. وأن نكون قريبين من الحكم، هذا أفضل من البعد عنهم، فيحيط بجمال غيرنا، ونحن لا ندري من يكونون، وما سيكون.
- صلاح: أقُلتَ رأيك هذا للمستشار [الهضيبي]؟
- حسن: نعم قلته.. ولكنه رفضه.. وقال: "من الخير أن نبقى بعيدين عن الحكم الآن".. إنه يرى أن السيطرة العسكرية ستتبلور في شخص واحد يحكم.
- صلاح: هل قلت رأيك لجمال؟
- حسن: لا طبعا.. قلته للمستشار فقط.. ووحده.
- صلاح: ما رأيك في دخولك أنت الوزارة؟
- حسن: لا فائدة تُرجى من وراء ذلك.. وعلى كُلٍّ فقد رفض المستشار.
- صلاح: ألست ترى أن نكون قريبين من الأحداث.. أن نكون داخلها لا خارجها؟
- حسن: لا قيمة لرأيي ما دام مكتب الإرشاد قد رفض.
- صلاح: لماذا لم تحاول إقناع المستشار؟
- حسن: أنت تعرفه.
- صلاح: وماذا كان موقف المستشار من مكتب الإرشاد؟
- حسن: يبدو أنه لم يحاول توجيه المكتب إلى رأي معين، ولكن المكتب رفض (لا عن اقتناع) ولكن خشية أن يقع الاختيار على غير ذوي العقيدة الثابتة، كما يقولون.
- صلاح: ماذا يعنون بذوي العقيدة الثابتة؟
- حسن: يعنون من أسميهم "المتزمتين".
- صلاح: أراك قاسي الحكم على إخوانك.
- حسن: إني أراهم كما هم.. ولكني ألتزم رأيهم ما دامت منهم.. ولعلهم يؤمنون يوما بأن نظرية التطور ليست كفرا.. وبالمناسبة، لقد قال لي المستشار وهو يبلغني قرار المكتب: يكفي في السلطة واحد.
- صلاح: أيعني الباقوري؟
- حسن: بل يعني جمالا في نظري.
- صلاح: إنك تتوهم ما يعنيه.
- حسن: ربما، ولكن من يا صلاح؟ إن جمالا يحمل في أعماقه طباع ومشاعر المسؤول عن النظام الخاص، في وضعه الذي انتهى إليه.. وإن خرج عن النظام فهو مؤيد به، إنه سيحكم كما كان يمكن أن يحكم عبد الرحمن [السندي – رئيس النظام الخاص المنبثق عن الإخوان]، ولكنه أفضل؛ لأنه أكثر ذكاء، وأوسع ثقافة وأكبر قدرة [يقصد عبد الناصر].
- صلاح: ما أشد ظلمك لإخوانك.
- حسن: سوف نرى.. ألم يحاولوا قتلك من قبل؟ وسيحاولون قتل غيرك؟ [يقصد النظام الخاص].
- صلاح: لقد قلنا إنهم أتباع الملك الذين حاولوا قتلي!
- حسن: قلنا ذلك ظنا، قبل أن نتبين الحقيقة.. ولما علمناها سكتنا؛ حفظا على وحدة الصف بين أنفسنا.. جمال سيفعل مثلهم، ولكن من مركز السلطة، بطريقة أكثر ذكاء.
(يدخل جمال)
- جمال: ما وراءكما؟ لم نتلق ردا على طلبنا دخولكم الوزارة إلى الآن.
- صلاح: لا أحد.. وإذا دخل الباقوري فبشخصه.. لقد رفض مكتب الإرشاد الاشتراك في الوزارة.
- جمال: لا يمكن.. لقد قبِل الباقوري، وسيحلف اليمين الليلة.
- صلاح: سيحلف بصفته الشخصية، لا صلة للإخوان بذلك.
- جمال: ولكن الكثير من الإخوان يؤيدونه!
- صلاح: هذا قرار مكتب الإرشاد.
- جمال: لقد بدا لي من حديث عبد الحكيم [عامر] مع المستشار [الهضيبي] صباح اليوم أنه موافق.
- صلاح (في إصرار): لقد رفض مكتب الإرشاد.
- جمال: ألا تتصل به يا حسن؟
- صلاح: ليس لرأي حسن الآن قيمة.. إنه سيُتهم بأنك أخذته.. ومكتب الإرشاد لن يوافق.
- جمال: عدلت عن اختياره، فما العمل الآن؟
- صلاح: اتصل بالمستشار [الهضيبي] إن شئت.
- جمال: سأفعل.
(يتقدم جمال إلى تليفون غير بعيد، ويستمر الحديث بين صلاح وحسن)
- صلاح: ماذا ترى في الموقف؟
- حسن: بداية أزمة.. أزمة ثقة مع جمال، وأزمة ثقة بين الإخوان.. إن جمالا يتصل بغيرنا في ذات الوقت.. سيتأزم الوضع (خلال سنة) إلى حد بعيد.
- صلاح: وما العمل؟
- حسن: لست أدري.. أنا من الإخوان.. ولكن جمالا سينتصر.
- صلاح: ألا تحاول شيئا؟
- حسن: كفاني.. إن محاولاتي لن تُجدي.. أنا متهم اليوم من الجانبين: الإخوان وجمال، فدعوني وشأني.. كفى إرهاقا لي.
- صلاح (في حدة): أتفهم ما تعني بداية الأزمة؟ أتفهم أبعاد الصدام الذي سيحدث؟ أتعلم نتائجه؟ ما قيمة الأرواح عندك؟ بل ما قيمة الدعوة ذاتها إذا قلت لي اتركوني وشأني فأنا مرهق؟
- حسن: أفهمه.. وأعلم.. ولكن ما حيلتي؟
- صلاح: أن تحاول.
(يعود جمال متغير الوجه)
- جمال: لا أفهم ما يقول.. ما معنى خذوا أصدقاء لا أعضاء؟ المكتب [مكتب الإرشاد] لم يوافق.. ألا يستطيع إقناع المكتب؟
- حسن: يستطيع.. ولكنه لا يريد أن يفرض رأيه.
- جمال: وما رأيه؟
- حسن: سله.. لا أدري.
- جمال: أتبدؤوننا بعداء؟ أترفضون المشاركة في حكم نحن وراءه؟
- صلاح: لا طبعا.. لكن المكتب رفض دخول الوزارة.. خذوا أصدقاء كما قال لكم، أو أفرادا بذواتهم، وسيتركون عندئذ الهيئة [جماعة الإخوان].
- جمال: لقد قبل الباقوري وانتهى أمره.. سيحلف اليمين بعد قليل.
- صلاح: ليس من المصلحة ذلك.. إنه لم يحضر اجتماع المكتب [مكتب الإرشاد] وهو عضو فيه.. إننا لم نستطع العثور عليه طوال النهار.
- جمال: إن المستشار يراوغنا.
- صلاح: ليست المراوغة من طبعه، هل قبِل ثم عدَل، أم أنه ترك الأمر من البداية في يد مكتب الإرشاد؟
- جمال: قال: إنه يترك الأمر لمكتب الإرشاد.. ولكن مناقشة المبدأ، وترشيحه بعض الأسماء (منهم الباقوري) للدراسة يعني أنه قبِل.
- صلاح: ومن سيدخل الوزارة لو أنه قبِل؟
- جمال: من رشحهم في الصباح، أو بعضهم على الأقل.
- صلاح (إلى حسن): هل تحاول معه مرة أخرى مع المستشار؟
- حسن: لا..
- جمال (إلى حسن): إذن، أدخل أنت بشخصك، وسأقنع سليمان حافظ ومجلس الثورة.
- حسن: قلت لا..
- جمال: إذن، أنتم تعلنون علينا حربا.
- حسن: لا.. ولكننا لن ندخل الوزارة هذه المرحلة.. هذا قرار المكتب.
- جمال: لا تقنعني بأن للمكتب أهمية.. أنا أعرف رأيهم.. كنت تستطيع إقناعه، وكان المستشار يستطيع أن يفرض عليه رأيه.
- حسن: إنه لم يعتد أن يفرض رأيه.. أما أنا، فأبعدني عن هذا الموضوع كله، فأنا أعلم نتائجه على أعضاء المكتب وغيرهم ممن اتصلوا بك.. سيقولون اتفقنا على أمر.. أنت وأنا..
- جمال: أراك تخاف الاتهام!
- حسن: أنا لا أخاف شيئا.. ولكني لا أريد الفرقة بيننا أن تقوم.
- جمال (كالهامس): إنها قائمة.
- صلاح (متدخلا): ماذا تقول؟
- جمال: لا شيء.
- حسن: بل يقول إن الفرقة قائمة بين الإخوان.
جمال: أُفٍّ لك.. أترككم الآن.. وسأرسل عبد الحكيم [عامر]؛ ليكمل الحديث معكم.. لسنا في حاجة إلى تأييدكم.. سيدخل الباقوري، وسيكون له أتباع.
(يخرج جمال)
- صلاح: ماذا ترى؟
- حسن: الضباب مخيم.. لا أرى شيئا.
- صلاح: سأكلم رشاد مهنا؛ ليؤجل اليمين حتى نتفق.. وسيحدث دخول الباقوري فرقة.
- حسن: الفرقة موجودة.. مشكلتنا أننا لا ندري ما نريد.
- صلاح: إلا المستشار [الهضيبي].
- حسن: أغلبنا لا يفهم المستشار.. كم عجبنا يوم قال لنا حين اخترناه: "تخلقوا بالقرآن أيها الإخوة، فلن يهزمكم أعداؤكم، ولكن تهزمكم نفوسكم".. عجبنا من ذلك.. وهو الصواب.. إنه يخشى علينا فتنة الحكم.. نحن غير مؤهلين له الآن.
- صلاح: إذن، هو موافق على قرار مكتب الإرشاد.
- حسن: أظنه كذلك.. ولكن لغير الأسباب التي بنى عليها المكتب قراره.
(يدخل عبد الحكيم)
- عبد الحكيم: ما الخبر؟ جمال ثائر.. لماذا أغضبتموه؟
- صلاح: لا شيء.. مكتب الإرشاد رفض دخول الإخوان الوزارة.
- عبد الحكيم: ولكن كلام المستشار صباحا كان يفيد القبول.
- حسن: لا.. لقد قلتَ إنك لم تفهم.. وأبلغتنا أنه ترك الأمر لمكتب الإرشاد.
- عبد الحكيم: وهل هذه طريقته كجمال؟
- حسن: ما تعني؟
- عبد الحكيم: سيبدي لكم جمال أحيانا أنه سيترك الأمر لمجلس الوزراء.
- حسن: أي ماذا؟
- عبد الحكيم: أي أنه لن يفعل شيئا.
- حسن: لا.. المستشار شيء آخر.
- عبد الحكيم: أعلم ذلك.. المستشار صريح.
- صلاح: أتعني أن جمالا ليس صريحا؟
- عبد الحكيم: لم أقصد ذلك تماما.
حسن (باسما): تعني تقريبا؟
(يقوم صلاح إلى التليفون المجاور.. ويتكلم فيه)
- عبد الحكيم: هل سيحاول صلاح مع المستشار ثانية؟
- حسن: لا أظن.. بل سيحاول تأخير حلف الباقوري لليمين.
- عبد الحكيم: مستحيل.. ما الضرر في حلف الباقوري لليمين؟ أستحلفك بالله يا حسن.. هل موقفكم سليم؟
- حسن: وأنا استحلفك بالله أولا.. هل كنتم جادين في عرض الوزارة على الإخوان؟
- عبد الحكيم (مترددا): بالتأكيد.. وهل شككت في ذلك؟
- حسن: لست أدري.
- عبد الحكيم: وما ستفعلون بالباقوري؟
- حسن: في رأيي أن المستشار سيحاول ألا يصدر المكتب قراراً بفصله.
- عبد الحكيم: كيف سيكون وضعه إذن؟
- حسن: ربما استقال هو من الإخوان.. فأنا أعلم حرصه على الوزارة.
- عبد الحكيم: وأنت ألا تحرص عليها؟ أتريد العمل معنا على أية صورة من الصور؟
- حسن: لا.. اتركوني لمكتبي.. فأنا أحب المحاماة.. وأنا سعيد بعملي في الحركة دون قيود الوظيفة أو الوزارة.
- عبد الحكيم: ألا تخشى غضبة جمال من موقفك هذا؟
- حسن: أنا لا أخشى غضب البشر.
- عبد الحكيم: ولا من إخوانك؟
- حسن: اسمع يا عبد الحكيم.. أنا أعلم أن جمالا أقنع الكثيرين من الإخوان بسلامة موقفه، وأنه سيستمر في ذلك.. إنه سيحارب المستشار وحده، وعند ذلك سيلتف حوله الكثيرون.
- عبد الحكيم: أتتنبأ؟
- حسن: لا.. بل أستنتج فقط.
(صلاح يعود من مكالمته التليفونية، ويتحدث واقفا)
- صلاح: لم يكن ممكنا تأجيل اليمين.. سأذهب إلى المستشار وأبلغه رأيي.. هيا يا حسن.
- حسن: العبرة الآن برأي مكتب الإرشاد.
- عبد الحكيم: ثِقا أن الكثير منهم موافق على دخول الباقوري الوزارة، وسيخذلون المستشار.
- حسن: أعلم ذلك.. وعلى كُلٍّ، فأنت تعلم مكاني إن شئت شيئا.
(ينصرف صلاح وحسن)
(يُتبع)..
twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق