الزعيم اللئيم والصعلوك الكريم (1)
أحمد عبد العزيزأما الزعيم اللئيم فهو جمال عبد الناصر الذي أوتِيَ من اللؤم حظا وافرا أعانه على خداع الجميع؛ لينفرد بالسلطة، سالكا أحط السبل للوصول إلى مآربه..
وأما الصعلوك الكريم فهو البدوي الستيني "عم أحمد" الذي قضى جُل عمره سارقا، قاتلا، قاطعا للطريق، ولم يتردد في إيواء "لاجئ" لا تنطبق عليه "شروط اللجوء"، غير آبه بما قد يناله من بطش السلطة التي أشاعت الرعب في أرجاء مصر، وكان له بمثابة المعلم.. نعم المعلم، لا تستغرب عزيزي القارئ..
"يا بني.. إن الذئب هجر الوادي وخيره وخضرته، وسكن الصحراء؛ لأن أصحاب الوادي له أعداء.. وأنت يا بني خاصمت رجال الدولة فكلهم لك عدو.. وهم اليوم أصحاب الوادي.. فاتبَع الذئب إلى الصحراء فهي مأمنك الوحيد".
هذا ما قاله الصعلوك الأمي للمحامي ابن الباشا؛ فور إبلاغه نبأ قبوله "لاجئا" لديه..
وأما الهارب من الزعيم اللئيم، اللاجئ للصعلوك الكريم، فهو الشاب المجاهد حسن العشماوي (المستشار) سليل العائلة الأرستقراطية، قناة الاتصال (في كثير من الملفات) بين قيادة الإخوان المسلمين، وتنظيم "الضباط الأحرار" الذي "سرقه" الضابط جمال عبد الناصر، بعد إقناع قيادة التنظيم "الإخوانية" (الصاغ محمود لبيب) بفك الارتباط بين التنظيم والإخوان، على أن يتولى هو مسؤوليته، بحجة أن شروط الإخوان للانضمام للتنظيم تحول دون استقطاب الضباط غير المتدينين والمنفلتين أخلاقيا وهم كثر، وأن هذا "الانفصام التنظيمي" سيعفي الإخوان من المسؤولية عن تصرفاتهم "الطائشة" التي لا تتوافق مع منهج الإخوان، فضلا عن أن الثورة أو مصر بـ"حاجة للجميع"! كما هي (اليوم) بـ"حاجة للجميع" برضه!
كتاب "مذكرات هارب" للمستشار حسن العشماوي جدير بالقراءة؛ لما فيه من فوائد جمَّة..
ففي الكتاب عزاء ومواساة لطلاب الحرية، عاشقي الأوطان، المطاردين من قِبل السلطة الغشوم في بلادهم.. فقد ظل الرجل "هاربا" ثلاث سنوات، حتى استطاع الخروج من مصر، قضى منها سنة كاملة في صحراء لا زرع فيها ولا ماء، نهارها قائظ، وليلها قارص، لا شركاء له فيها إلا الثعابين والعقارب، ولا مبدد لسكونها سوى عواء الذئاب، وخفخفة الضباع، وهرير الرياح!
وفيه بطولات لا يعلم الناسُ أصحابَها، ولكن الله يعلمهم.. أدوا أدوارهم، تجاه صديقهم الهارب، أو الزائر العابر، بنبل وشهامة، فلم يسألوه أجرا ولا شكورا، وكلهم من غير الإخوان المسلمين.. منهم الصديق الوفي، والزميل السابق، والضابط الحر، والبواب الفَطِن، وأخيرا القاتل قاطع الطريق..
يقول العشماوي:
"في تلك الأيام، اعتقلت الحكومة أبي الذي يقدر الجميع خدماته للأمة، اعتقلته بغير سبب، رغم أنه قد جاوز الستين من عمره، اعتقلته كوسيلة غير كريمة لجأ إليها عبد الناصر؛ ليرغمني على تسليم نفسي لجلادي، وخاب تدبير عبد الناصر من أساسه، فلم أعلم بالقبض على أبي؛ لأن صاحب البيت وأصدقائي أخفوا الخبر عني.
ولما كان يوم الخميس 4 (تشرين الثاني) نوفمبر 1954، قمت بمحاولتي الأخيرة للاتصال بأعضاء الجهاز السري، أو بيوسف طلعت بالذات، عسى أن يكونوا قد قرروا أمرا أسير معهم فيه.. فخرجت بعد الغروب مودعا أهل البيت الذي آواني متوجها إلى المنزل الذي وصفه لي يوسف طلعت، وحدد لي طريقة الطرق على بابه، وكان المكان شقة في الدور الرابع من عمارة كبيرة، وما أن خطوت خطوات قليلة على سلم العمارة، حتى قابلني البواب هابطاً ليقول لي في صوت غريب: إلى أين؟
فعجبت من السؤال، ولكني أجبت متصنعاً الهدوء: زيارة!
فقال لي بصوت خفيض كمن يهمس: إذا كنت طالع شقة الإخوان في الدور الرابع، فارجع أحسن لك.. مسكوهم العصر، والبوليس مختبئ فيها!
ودرت حول نفسي أهبط السلم، محاولا الاحتفاظ بهدوئي، وأنا أغمغم: متشكر.. متشكر جدا، وتصورت ابتسامة البواب النوبي الأسمر خلفي وهو يودعني بقوله: مع السلامة.. روح ربنا معاك.. وهكذا أنقذني هذا البواب الذي لا أعرفه، من خطر كنت على خطوات منه.
لماذا فعل البواب ذلك؟ لا أعلم.. ولكن الأيام علمتني (فيما بعد) أن أمثال هذا البواب كثر في هذا الشعب الطيب".
وفي الكتاب من الآيات والكرامات التي تلازم أهل الحق، في أوقات المحن، يُجَلِّيها الله لهم؛ تثبيتا لأقدامهم فلا تزلّ، أو مؤانسة تبدد وحشتهم، أو إنقاذا من هلاك محقق..
وفيه نموذج للثائر الحر الذي لم يقبل "الاستبلاه" ولا الضيم، فقرر أن يقاوم أي محاولة لاعتقاله، فلم يتخلَّ عن سلاحه الشخصي طرفة عين، إيمانا منه بسلامة موقفه، وأن من وصل إلى السلطة بالخداع حينا، وبالقوة أحيانا، هو الأحق بالاعتقال والمحاكمة!
وأخيرا وليس آخرا، في "مذكرات هارب" من الدروس التنظيمية والسياسية والتكتيكية ما غفلنا عنها، ولم نستفد منها في مناهضتنا للانقلاب، فكثير من وقائع الكتاب تكررت بحذافيرها منذ 25 يناير 2011، وحتى كتابة هذه السطور، وما تغير فيها إلا أسماء المرحلة!
يقول العشماوي:
"لعل أوضح ما عُرض في تلك الأيام من آراء، رأي بتنظيم "اعتصام سلمي" يضم الإخوان وغيرهم من أفراد الشعب، ومن رجال السياسة، ومن يشاء من نسائهم وأطفالهم.. يرابطون جميعاً أمام قصر الجمهورية [قصر عابدين] حتى تنزل الحكومة عند رأيهم أو تبيدهم بالرصاص! وعندئذ سيعلم الناس، ويعلم العالم أجمع حقيقة الحكم في مصر، وإن كان المؤكد أن الجيش سيعصي أمر إطلاق النار على قوم عُزَّل مسالمين، وعصيان الجيش أول مرحلة الثورة الشعبية الموفقة.. وبهذا ستنطلق الشرارة التي تحرق النظام الظالم القائم! ورغم ما بدا على صاحب هذا الاقتراح من حماس في عرض فكرته التي فكر فيها طويلا، فإن حماسه لم يلق من أغلبية زملائه آذانا صاغية، وإن كان قد أوحى اقتراحه بالفكرة التي استقر عليها الرأي فيما بعد متأخرا"!
لكن عبد الناصر كان أكثر خبثا من ياسر جلال.. فقد كان الاعتصام حاشدا، وكان الوطنيون في الجيش كثر، والإقدام على التعامل الخشن مع المعتصمين قد يقلب الطاولة على عبد الناصر في لحظة، فطلب عبد الناصر إلى المستشار عبد القادر عودة (وكيل الإخوان والمرشد الفعلي وقتذاك) صرف المعتصمين، وكان له ما أراد بإشارة واحدة من يد عودة، فكان جزاؤه "الإعدام" لاحقا، بعد "محاكمة" هزلية!
نهجٌ لم يتغير
يقول العشماوي عن أساليب السلطة في "فبركة" الاتهامات لمعارضيها، ونهجها في التنكيل بهم:
"كان أخطر ما حصلنا عليه في تلك الفترة [أكتوبر ١٩٥٤] هو ذلك التقرير السري الذي أعدته إدارتا المخابرات الحربية والمباحث العامة بالاستعانة ببعض الضباط القدامى في البوليس السياسي، ورفعوه إلى رئيس الحكومة ووزير الداخلية [جمال عبد الناصر]، وضمنوه الأسلوب الذي يرون اتباعه مع جماعة الإخوان المسلمين، وقد استطعنا أن نحصل على صورة رسمية لهذا التقرير السري بما عليه من توقيعات، ولكن هل استطعنا أن نستفيد منه في رسم سياستنا وتوجيه تصرفاتنا والتعجيل باتخاذ ما نرى من إجراءات؟ لا أظن ذلك..
يبدأ التقرير (كالمعتاد) في كل تقرير يتحدث عن الإخوان باستعراض الحوادث القديمة التي نسبت إلى بعض أفراد الجماعة [...] وينتهي إلى القول بأن وجهة الخطر في هذه الجماعة، إيمان عدد كبير من أعضائها بأنهم على حق في مقاومة كل حكم لا يقوم على الإسلام كما يفهمونه هم، الأمر الذي يجعل من العسير التأثير فيهم بوسائل الفصل من الوظائف، والسجن محدود المدة؛ لأنهم يعتبرون كل هذه المتاعب إيذاءً في سبيل الله سيزول قريبا، لذلك لا بد من اللجوء إلى إجراء أكثر صرامة وقسوة لا تراعَى فيه القوانين ولا مبادئ العدالة في المحاكمات، حتى لو احتاج الأمر إلى افتعال الوقائع ونسبتها إلى أفراد من الإخوان!
ويقترح أصحاب التقرير (على سبيل التفصيل) أن يُعتقل عدد كبير جدا من أعضاء جماعة الإخوان لمدة طويلة، أو أن تقام لهم محاكمات سريعة يُقضي عليهم فيها بالسجن مددا طويلة، ومدى الحياة، بغض النظر عن حقيقة التهم المنسوبة إليهم، أو عدم ثبوتها طبقا لإجراءات المحاكمات العادية، فيكفي للإدانة (مثلا) أن تقول تحريات البوليس (ولو دون دليل) أن الفرد المطلوب محاكمته يعتبر خطرا على الأمن؛ لأنه يؤمن بصلاحية فكرة الإخوان المسلمين! ثم يوضع هؤلاء المعتقلون (أو المحكوم عليهم) في سجون خاصة أو معسكرات اعتقال دائمة، وتُسَد أمامهم أبواب الأمل في الإفراج عنهم، مما يترتب عليه ضيق أهلهم، ثم ضيقهم بهذه الحال.. وهكذا تُنزع من رؤوسهم أفكارهم الخاطئة.. وإلا فهم باقون إلى الموت.. أي أن الإبادة هي الوسيلة الوحيدة لاتقاء خطر هذه الجماعة وأفرادها.
وكان هذا التقرير (الواقع في تسع صفحات) مؤرخاً يوم 11/8/1945، أي قبل أن يُنسب إلى واحد من الإخوان أي تصرف يمكن أن تعتبره الحكومة مخالفاً للقانون!
ويبدو أن جمال عبد الناصر وزملاءه اقتنعوا بفكرة هذا التقرير وتبنوه، كما وضح في عمليات تلفيق التهم، ومن تلك المحاكمات الصورية السريعة، والأحكام طويلة الأمد التي صدرت، بغض النظر عن حقيقة التهم المنسوبة إلى المتهمين، وهذا التعذيب الذي كان مبعثه الرغبة في الإيذاء لا الحصول على دليل، فضلاً عن حرص الحكومة على إثارة الشك حول تصرف كل ذي مسؤولية في الجماعة، ورشوة من يخرج عن صفها إلى حين، ثم امتهان كرامته بعد ذلك".
يقول العشماوي واصفا التشويه النفسي الذي لحق ابنه ذي العامين، من جراء حالة "الحذر" التي كانت تعيشها العائلة، وكل عائلة مستهدفة من جانب السلطة بطبيعة الحال:
"لا زلت أذكر "أماني" الرقيقة العذبة، و"فاطمة" طيبة القلب المؤثِرَة على نفسها دائما، و"آمال" ذات الذكاء اللامع الذي سبقت به سنها، و"محمد" وهو في الثانية من عمره، في تصرفاته ونظراته وأحاديثه اللاهية الساهية عن كل شيء، إلا حين يُعرِّض الأمر لسلامته وسلامة أبيه وأهله.
لن أنسى أبدا ما كان منه وهو يسافر مع أمه في القطار، فداعبه ضابط يجلس قريبا منه، واستجاب الطفل للمداعبة، حتى ظن كل منهما أنه ينتمي للآخر.. وسأله الضابط:
- ما اسمك؟
- محمد.. قالها ببساطة.
واسترسل الضابط يسأل:
- محمد إيه؟ [أكمل.. ما اسمك أبيك؟]
وعندئذ تنبه الطفل، الذي هو في الثانية من عمره، إلى حقيقة وضعه كهارب من الدولة، وإلى باب الخطر المفتوح أمامه، فارتسمت على وجهه وفي عينيه نظرة الشك والعتاب وهو يقول لمحدثه:
- اِنت بتعلب معايا أنا.. مش مع بابا.. أنا اسمي محمد.. محمد وبس!
هذه الواقعة (على بساطتها) لم تغادر ذهني أبداً.. فهي تصور بشاعة الشك الذي سيؤدي حتماً إلى البغض الذي لا تؤمَن عواقبه المدمرة".
(يُتبع)..
twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق