الموروث الصهيوني.. بين نقد الأسطورة والانتماء الحضاري
أثار توقيع الفيلسوف الألماني ووريث مدرسة فرانكفورت يورغن هابرماس مع نيكول ديتلهوف، رئيسة العلاقات الدولية ونظريات النظام العالمي؛ بالإضافة إلى راينر فورست، أستاذ النظرية السياسية والفلسفة؛ وكلاوس غونتر، أستاذ النظرية القانونية والقانون الجنائي وقانون الإجراءات الجنائية، على رسالة يجددون فيها دعمهم المطلق لإسرائيل في حربها على المقاومة الفلسطينية، الأمر الذي جعل مثقفين عربا ينددون بموقف هابرماس الذي لم يكن بالجديد مع سيرته السياسية الداعمة للكيان المحتل، غير أنّ الأمر الغريب في ما اعتبره البعض تهجما على "موقف سياسي لفيلسوف ألماني"، حجم الاستياء الذي أحال النخبة الفاعلة إلى منصات المشاهدة، ترقب القتل والدمار من غير أن تتحرك أقلامها أو تسمع أصواتها ضد القتلة المستوطنين، في الوقت الذي يناطح فيه الجماهير الأوروبية حيث الملاذات الآمنة للصهيونية سطوة المؤسساتية الغربية.
ومع أنّ الحلم العربي الذي تغنّى متسائلا بالملايين أين هي من همجية الاحتلال، فإنّ أنفاس الجماهير الغربية لا تكلّ ولا تمل من إزعاج صناع القرار الأوروبي، وحيث تلوح في الأفق بشائر نهاية الاحتلال، كان من الواجب الصمود في دعم المقاومة، لما تمثله من تجسيد فعلي لفلسفة الاعتراف، والفلسطيني بهويته العربية والإسلامية ما بعد طوفان الأقصى، بات رمزا للخطر المتنامي ليس على استمرارية الهيمنة الاستعمارية، بل على الموروث الفلسفي الغربي القائم على فكرة الاستعباد أو التهجير، والاعتراف في سبيل الاستغلال.
الاعتراف بالآخر لم يكن مرتبطا بقيم العدالة والمساواة والحق في الحياة، ولم يكن يوما يرسم فضاء ثالثا لأولئك الذين هجّروا من أوطانهم بدعم سخي من الإمبراطورية، بل كان استلابا ناعما وعنصرية مؤسسة تأخذ في مسعاها الكثير ممن أوهمهم النظام العالمي بنمطه الاستهلاكي المتوحش، نحو المزيد من "التبضيع الزائف" الذي لا طائل منه
مأزق الاعتراف
قدمت فلسفة الاعتراف الحلول الممكنة والجذرية للقضاء على الإشكالات التي تحول دون الوصول إلى حلول للأزمات البشرية، وارتكزت في ذلك بعد جهد كبير لعلمائها وفلاسفتها خاصة أولئك الذين عكفوا على تطوير مدرسة فرانكفورت، إلى الخلوص نحو فضاء ثالث يسمح بإيجاد آليات تواصل بين الانتماءات الذاتية والآخر غير القابل للتنافس ولا الصراع، ومع أنّ مفهوم الاعتراف يعود بجذوره الضاربة "فكرة الخلاص" لدى المسيحيين، إلا أنّه طوّر بشكل يسمح بالتماهي مع الموروث الثقافي والمعرفي للآخر المختلف كليا.
حين جادل هيغل عن ثنائية العبد والسيد كان في جانبه التأصيلي يلغي بصيغة مضمرة كينونة المشرق وحضارته، سعيا منه لتقسيمات تاريخية وفق أطروحة لاهوتية اختزالية لم تستطع التواصل ولا فهم الحضارات الشرقية، ومع أنّ المسارات المختلفة التي رسمها فلسفة "موت الإله إلى موت العالم مع الآخر" التي توجت بصراع الحضارات الذي لاحق الآخر في جبال تورابورا وصحراء العراق للاعتراف بالتفوق الغربي تحت وقع القنابل الفوسفورية، دون الحاجة إلى رفع البندقية والأقلام لنقد أسطورة موروث صهيوني سرق "المعرفة العربية".
إن الاعتراف بالآخر لم يكن مرتبطا بقيم العدالة والمساواة والحق في الحياة، ولم يكن يوما يرسم فضاء ثالثا لأولئك الذين هجّروا من أوطانهم بدعم سخي من الإمبراطورية، بل كان استلابا ناعما وعنصرية مؤسسة تأخذ في مسعاها الكثير ممن أوهمهم النظام العالمي بنمطه الاستهلاكي المتوحش، نحو المزيد من "التبضيع الزائف" الذي لا طائل منه، في وقت يفتقد فيه "المغيبون" أسس المعرفة الحقيقية، ولكي يندمج الهندي والصيني والعربي كان عليهم أن يقتاتوا من موروث الأسطورة الصهيونية دون مراجعة أو نقد لطبيعته، وبدل توجيه السهام إلى دسائس التلفيق الكولونيالية والمتخيّلة عن الإسلام، انبرى مثقفون ومؤسسات فكرية ومراكز بحث دولية خصصت لها ميزانيات ضخمة، لتسفيه ميراث الأمة وأساسها المتين تحت عناوين وشعارات التنوير والحداثة والتطور، وما إن لاحت في المنطقة رايات التغيير الجذري نحو دمقرطة السياسة والثقافة، حتى تكالبت أقلام أزعجتها صراخات الحرية والكرامة بعواصمنا العربية، لتنال ممن حملته صناديق الشعوب إلى الحكم.
وعلى الرغم من أهمية البحث عن الاعتراف من طرف الآخر، إلا أنه يبقى مأزقـا دالا على الهيمنة المتواصلة للفعل الإمبراطوري، وما تبرره سرديات القمع والقتل الصهيونية في الأراضي الفلسطينية ليس بمعزل عن طبيعة الداعمين الرئيسيين لثقافة الاحتلال، حيث تكون المقاومة عند منظري مدرسة فرانكفورت جماعة إرهابية متخلفة وبربرية، مهددة للحضارة وقيمها الإنسانية، إذ الاعتراف بها كمجموعة بشرية من حقها مقاومة المحتل، كان سيفرض على فلاسفة الكليشيهات أن يناهضوا الاحتلال بجميع أشكاله العنصرية، وأن يتوقفوا عن الخوض في جدالات حول نوعية القنابل الملقاة على المدنيين، وإمكانية تخفيف الأسلحة الفتاكة لتقليل الخسائر الجانبية، فالأرقام البشرية تتغير وفق سياق الجغرافيا المشتعلة، حتى الأوكرانيون لا تعتبرهم المدرسة الأوروبية من نفس الطبقة التي يمتاز بها البريطانيون والفرنسيون، فالحرب ليست خيارا سهلا ما لم تسق لها أعناق البشر، ووحدهم من يملكون الحق في المقاومة، لا يتكلّفون عناء البحث عن اعتراف ترسمه لوائح الاستعمارية الجديدة، ومن ورث ثقافة صهيونية تتقلب في براثن الحقد والكراهية والتلفيق والشهوانية والعنف، كان لزاما أن يرى الآخر عدوا وإن بيده غصن الزيتون.
جمهرة المثقفين الجزائريين ليسوا سواء على قدم أخلاقية واحدة، ولا على توجه معرفي تصالحي تجاه المسائل الإنسانية، إنّهم أشياع المصلحة والمخابر النيوكولنيالية، وهم ليسوا بحاجة إلى إعلان دعمهم الكامل للاحتلال لما يترتب عنه من ملاحقة قانونية وجماهيرية لهم، إذ يكتفون بالنقد الضمني للمقاومة الفلسطينية
لباس عربي ولسان صهيوني
في المنطقة العربية ومع تفاقم أوضاع الفلسطينيين إزاء الهجمة البربرية للاحتلال الإسرائيلي، مازالت النخبة تقبع في سراديب الهيمنة الثقافية والمعرفية للإرث الصهيوني، ويرجع ذلك الاعتكاف السلبي إلى أسباب تبدو في الواقع مربكة ومقلقة، إذ إنّ مصلحة النخبة الجامعية مرهونة بزيادة العلاوات وضخ رواتبها الشهرية وشهوة اللقاءات والجوائز، لا تسمح لها باتخاذ موقف ليس نقدي تجاه تشوّهات الإرث الصهيوني فحسب، بل إنّها تفتقد "لموقف أخلاقي" تجاه الاستهداف الإرهابي للمستشفيات والبنى التحتية والمدنيين العزل.
أما من الجانب الآخر والذي يبدو أكثر أهمية وخطورة، بعد الطوفان الذي جرف المثقفين الصهاينة ممن يلبسون ثيابا عربية ويتكلمون بسردية الناطق باسم الاحتلال الإسرائيلي، هو فشل مشاريع التطبيع التي مهّدت لتصفية المسألة الفلسطينية على نطاق واسع، كونها مركز الصراع الإسلامي الحضاري، ضد البربرية الاستعمارية الغربية، فالكثير من المؤسسات الثقافية والمراكز البحثية العربية وجامعاتها، كانوا على أهبة التنظير لتبرير أهمية التطبيع الكامل مع الاحتلال، إذ إنّ قابليتهم للاعتراف بإسرائيل كدولة حضارية وديمقراطية، كانت تتصدر بالاستعداء لإيران تارة، وتارة أخرى على أنّها دولة متطورة في شتى المجالات.
وبالعودة إلى الخطاب السائد في الدول العربية وخاصة الجزائر وموقف الدولة "الثابت" من التطبيع مع الاحتلال، فإن جمهرة المثقفين الجزائريين ليسوا سواء على قدم أخلاقية واحدة، ولا على توجه معرفي تصالحي تجاه المسائل الإنسانية، إنّهم أشياع المصلحة والمخابر النيوكولنيالية، وهم ليسوا بحاجة إلى إعلان دعمهم الكامل للاحتلال لما يترتب عنه من ملاحقة قانونية وجماهيرية لهم، إذ يكتفون بالنقد الضمني للمقاومة الفلسطينية كونها السبب الرئيسي في أعداد الضحايا المدنيين، أو صورة للإسلام السياسي الذي يريد للحضارة الزوال كما يزعمون، تلكم النخب التي جرفها الحراك الجزائري، لم تكفها صفعات الحضارة الغربية من عدم الاعتراف بموروثهم الثقافي المدجن، ولا بمواقفهم المخزية والحقيرة تجاه مقاومة الاحتلال، بل ألفت ذواتها المسجونة داخل أقبية الكولونيالية الغربية وصفقات التهجير والإبادة، التبعية والخنوع والإذلال، إلا البقية الباقية ممن تذود عن المقاومة، فإنها على خطوط المواجهة برصاصها وأقلامها وصرخات جماهيرها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق