نتنياهو والعماليق وشمشون الذي انتحر في غزة
استدعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التوراة في تبرير العدوان على غزة، وكشف عن الدوافع الدينية خلف الرغبة الإجرامية في تدمير كل شيء في القطاع وقتل سكانه وتهجير من تبقى منهم على قيد الحياة، فقد شبَّه الفلسطينيين بالعماليق الذين حاربهم بنو إسرائيل عندما دخلوا فلسطين وأبادوهم وقتلوا كل كائن يتحرك حتى البهائم، أي إن التطرف اليهودي يرى أن الحرب الجارية “صفرية” هدفها إنهاء كل مظاهر الحياة.
يحذو نتنياهو حذو جورج بوش عندما أعلن الحرب الصليبية على العراق وأفغانستان، انتقامًا لتدمير برجي مركز التجارة العالمي في سبتمبر/أيلول 2001، لحشد الأمريكيين والأوروبيين المسيحيين خلفه، وتشكيل التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لضرب دولتين مسلمتين، وفي حرب غزة يريد نتنياهو حشد المسيحيين مع اليهود الصهاينة خلفه، بتذكيرهم بما ورد في العهد القديم الذي يقرؤونه مع الأناجيل في كتابهم المقدس.
يبدو المحرك الديني واضحًا في حرب الإبادة في غزة، فالموقف الإسرائيلي الإجرامي لا يعبّر عن القيادة الإسرائيلية ومعظم الشعب الصهيوني في فلسطين المحتلة وحدهم، وإنما تتقدم عليهم وتقودهم إدارة بايدن لتحقيق أهداف صليبية أكبر وأوسع، وتساندهم معظم قيادات الدول الأوروبية للأسباب ذاتها، فكلهم يتخذون الموقف نفسه المؤيد لسفك دماء الفلسطينيين وحرق القطاع بما فيه، ولا يبالون بمشاهد قتل الأطفال والنساء والأبرياء وصور الأشلاء.
ورغم ما بينهم من خلافات وتباينات فإن هذا الحلف الصهيوني الأمريكي الغربي يرفض وقف المذبحة، ويتصدى لكل المبادرات في الأمم المتحدة ومجلس الأمن للوقف الفوري للحرب، ويحارب كل زعيم غربي في بلده ضد الاحتجاجات، ويعملون على تكميم الأفواه والتضييق على الرافضين، ويوفرون الحماية للجيش الإسرائيلي لمواصلة القتل، وجاؤوا بجيوشهم وأسلحتهم لتهديد الدول التي تفكر في مساعدة الفلسطينيين.
إبادة العماليق وقتل النساء والأطفال والرضع
قصة العماليق التي ذكرها نتنياهو لتشجيع الإسرائيليين لمواصلة العدوان وإزالة الوجود الفلسطيني هي تأكيد لحالة الجنون وفقدان العقل التي نراها، وهي لإضفاء القداسة على هذه العدوانية والرغبة المحمومة في سفك الدماء وإفناء شعب مسلم، وفي الحقيقة هي دليل إدانة للقتلة المعاصرين الذين يوظفون الدين لارتكاب الجرائم والفظائع وممارسة الإرهاب الدولي، ويستخدمون التقدم التقني والذكاء الاصطناعي في التدمير، وتمرير مثل هذه التصريحات إشارة إلى نهاية النظام الدولي الذي أُسّس بعد الحرب العالمية الثانية، ويعجز عن التصدي للخارجين عن القانون الدولي.
التوراة الموجودة اليوم معظم أسفارها كُتبت بعد موت سيدنا موسى بـ500 عام، وهي تتحدث عن قصص وأحداث تاريخية بعد وفاته، أي إنها لم تكن من الوحي الذي أوحاه الله لنبيه، وهي تتحدث عن أحداث ووقائع تاريخية برؤية من كتبها بعد موسى بقرون طويلة، وهي مليئة بالادعاءات والاتهامات لأنبياء بني إسرئيل ووصفهم بأسوأ الاتهامات، وبل والحديث عن الله سبحانه وتعالى بما لا يليق.
من المزاعم التي وردت في سفر “صموئيل 1” أن الله أمر شاول (طالوت الذي تحدث عنه القرآن) بقتال عماليق فقال له: “فاذهب الآن وحارب عماليق، وأهلك كل مالهم، ولا تعفُ عنهم، بل اقتل الرجال والنساء، والأطفال والرضع، والبقر والغنم، والجمال والحمير”، أي إن الله -تعالى عما يقولون علوًّا كبيرًا- أمره بالإبادة الكاملة وقتل كل ذي روح، وألا يرحم كبيرًا أو صغيرًا ولا امرأة ولا طفلًا ولا رضيعًا، ولا حتى الحيوانات التي لا تعقل!
حسب التوراة فإن شاول أول ملك لبني إسرائيل حكمهم 20 عامًا “هجم على العمالقة، وأسر ملك عماليق أجاج وأخذه حيًّا، وأهلك شعبه بالسيف”، لكن الله غضب على شاول لأنه انحرف ولم ينفذ كل ما أمره به، حيث أسر شاول ملك عماليق ولم يقتله كما لم يقتل كل الحيوانات، فقد “عفا عن أجاج وكذلك عن أفضل الغنم والبقر وكل سمين والحملان وكل ما كان جيدًا، ورفضوا أن يهلكوها، أما ما كان حقيرا وهزيلا فأهلكوه”. وكما هو واضح فإن استدلال نتنياهو بهذه القصة الرمزية لإضفاء القداسة على جرائم الصهاينة المعاصرين، وأن من حقهم إهلاك الحرث والنسل للشعوب الأخرى بمزاعم حق الدفاع عن النفس.
انتحار قاهر العماليق بعد هزيمته أمام الفلسطينيين
للمفارقة فإن قصة الملك شاول التي ذكرها نتنياهو لتأييد عدوانه على غزة وإبادة أهلها انتهت بهزيمة الإسرائيليين على أسوار غزة، وقرر الملك الإسرائيلي الانتحار بعد إصابته في المعركة أمام الفلسطينيين، ففي نهاية هذا السفر فإن الفلسطينيين حاربوا بني إسرائيل “فانهزم رجال إسرائيل أمامهم، وسقط كثيرون منهم قتلى في جبل جلبوع، وطارد الفلسطينيون شاول وأولاده، وقتلوا يوناثان وأبيناب وملكيشوع أولاد شاول”.
وكما ورد في سفر (صموئيل 1) فقد “اشتدت الحرب على شاول، وأصابه رماة السهام وجرحوه، فقال شاول لحامل سلاحه: استل سيفك واطعنّي به، لئلا يأتي هؤلاء ويطعنوني ويهزؤون بي، فرفض حامل سلاحه، فأخذ شاول سيفه ووقع عليه”. وجاء قرار شاول بالانتحار لأنه خاف أن يمسك به الفلسطينيون حيًّا، فقرر أن يتخلص من حياته “فمات شاول وأولاده الثلاثة وحامل سلاحه وكل رجاله معًا في ذلك اليوم نفسه”، وجاء الفلسطينيون بعد المعركة وفرار الإسرائيليين فقطعوا رأس شاول ونزعوا سلاحه، وأرسلوا في كل بلادهم ليعلنوا الخبر، وعلقوا جثته على سور أحد معابدهم، حتى جاء الإسرائيليون في الليل وأخذوا جثث شاول وأبنائه الثلاثة ودفنوهم.
وفي أسفار التوراة الكثير من القصص عن هزائم الإسرائيليين أمام القبائل العربية طوال الفترة التي قضوها في أرض كنعان، بسبب كفرهم بالله وعبادة البعل وعشتروت والعجول الذهبية وتقديم القرابين للنصب في المعابد الشركية، كما تشير الأسفار إلى أن الفلسطينيين بقوا في كل فلسطين وفي مدنهم الخمس على ساحل البحر المتوسط (غزة، أشدود، عسقلان، جت، عقرون) حتى في الفترة القصيرة التي حكم فيها داود وسليمان، وتركهم الله لأيدي أعدائهم بسبب فسادهم وانحرافهم، وعاشوا في حروب مع الفلسطينيين والشعوب العربية الأخرى حتى زوالهم النهائي من فلسطين.
انتحار شمشون في غزة
ربما يكون المثال الأقرب لحالة القيادة الإسرائيلية الحالية هو أسطورة شمشون، هذا القائد التاريخي صاحب القوة الخارقة، الذي ورد في سفر القضاة أنه فتك بشبل أسد بيديه، و”قتل ألف فلسطيني بفك حمار” كانت نهايته على أيدي الفلسطينيين في غزة، حيث تم أسره بعد أن تحايلوا عليه وعلموا سر قوته فأفسدوها، وأمسكوا به وأذلوه، فقرر الانتحار، وانتشرت المقولة المنسوبة إليه “عليَّ وعلى أعدائي”.
كان شمشون من الذين يقضون للإسرائيليين ويحكمونهم في زمن القضاة، وهي الفترة التي تلت موت يوشع بن نون فتى موسى وحتى مجيء طالوت، حيث حكم شمشون 20 عامًا، وكان سر قوته في شعره الذي لم يحلقه طوال حياته، حتى عرف الفلسطينيون سر قوته عن طريق دليلة العاهرة التي كان يتردد عليها وخدعته وأفشت سره، فجاء الفلسطينيون وحلقوا له شعره وهو نائم، وتمكنوا منه وقلعوا عينيه، وقيدوه في سلاسل الحديد، وسجنوه حتى قتل نفسه.
جاء في التوراة أن الله أرسل شمشون لإنقاذ بني إسرائيل من يد الفلسطينيين الذين كانوا يذلونهم منذ 40 سنة، فكان بمنزلة المنقذ، لكن سيرته ليس فيها شيء من هذا، حتى انتحاره في غزة، فقد كان فاسدًا يتردد على البغايا، وعندما أحرق حقول الفلسطينيين هرب واختبأ، فسلمه اليهود إلى الفلسطينيين خوفًا من انتقامهم، ولكنه تخلص من قيوده وقتل الفلسطينيين وهرب، وفشلت أكثر من محاولة للإمساك به والسيطرة عليه حتى عرفوا سر قوته وأسروه.
كانت نهاية شمشون عندما اجتمع قادة الفلسطينيين للاحتفال، وقالوا “هاتوا شمشون يسلينا” فأحضروا شمشون من السجن وكان قد نبت شعره، فلعب أمامهم ثم أوقفوه بين الأعمدة، فقال شمشون للشاب الذي يقوده بيده “دعني ألمس الأعمدة التي يرتكز عليها هذا المعبد لأستند إليه، ثم قبض شمشون على العمودين اللذين في الوسط وكان المعبد يرتكز عليهما، واستند عليهما الواحد بيمينه والآخر بشماله وصرخ “أموت ويموت الفلسطينيون معي، ودفع العمودين بكل قوته فانهار المعبد على القادة والشعب الموجودين”، ومات شمشون ونزل إخوته وعائلته بالليل وأخذوا جثته وصعدوا بها إلى الجبل ودفنوه.
استعانة نتنياهو بالدين لحشد الداخل الإسرائيلي المنقسم والمتصارع بسبب الصمود الفلسطيني لن يحقق له النصر المستحيل الذي يبحث عنه، وسيفشل نتنياهو كما فشل بوش من قبله ولم ينفعه إحياء الصليبية القديمة، ومصير الحرب في غزة الهزيمة، كما هُزم الأمريكيون من قبل في العراق وأفغانستان، ولن تحتاج الهزيمة إلى وقت طويل مثل الأمريكيين، فالمعركة مختلفة، ولأن الكيان الصهيوني أكثر هشاشة وجنوده جبناء غير قادرين على القتال.
سيخسر الإسرائيليون الحرب، ولن تفيدهم القوة المفرطة التي لم تعد هي العامل الحاسم الوحيد في الحروب مع المسلمين اليوم، لأن هناك عوامل أخرى فرضت نفسها، وفي مقدمتها الجندي المقاتل، فالذي يبحث عن الشهادة غير الذي يحب الحياة ويعشق الدنيا، وليست الحرب في غزة بمقاومتها وأسلحتها كحروب أمريكا التي لا ينزل جنودها على الأرض إلا بعد تجريد الدول من أسلحتها بالحصار والعقوبات.
العدوان على غزة لن يحقق للإسرائيليين ما يريدونه، فالفلسطينيون المسلمون ليسوا مثل العماليق الوثنيين يمكن إبادتهم، كما أن قادة العدوان الصهيوني الذين يملكون الأسلحة النووية ومعهم آلاف القنابل التي تزن آلاف الأطنان مصيرهم مثل شمشون، وستكون هزيمتهم في غزة على أيدي شعبها الصامد.
الشعب الفلسطيني لن يترك أرضه حتى لو أسقطوا عليه القنابل النووية، كما أن المقاومة الفلسطينية بأسلحتها البسيطة تذيق الاحتلال الويلات في غزة وفي المدن الإسرائيلية، وقد أفشلت حماس ومن معها كل الخطط التي وضعها الإسرائيليون والأمريكيون، وإن شاء الله سيفرض الفلسطينيون كلمتهم في النهاية، وسيكسرون الغطرسة الصهيونية ويلقنون المعتدين الدروس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق