وصايا الأنبياء والصالحين
بسم الله الرحمن الرحيمإن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً))[الأحزاب:70-71].
أما بعــد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وجزى الله الإخوة القائمين على هذا المركز خيراً؛ إذ تسببوا في هذا الاجتماع الطيب المبارك، ولقد فعلوا بي معروفاً، ربما لم يدركوه، بل أكثر من معروف.
أما المعروف الأول: فحين كانوا سبباً في مجيئي إلى هذا البلد الطيب، الذي كنت فيه في صغري وطفولتي، ودرست فيه سنيّ الأولى، وعشت فيه أيام الصباء، وتسنى لي بذلك رؤية المشايخ، والإخوان الفضلاء، الذين طال العهد بهم.
أما المعروف الثاني: فذلك أنني حين قلت للإخوة: سوف أتحدث عن وصايا العلماء عند حضور الموت، أزمعت أن أجمع بعض هذه الوصايا، وكنت أذكر في مكتبتي كتاباً ألفه الإمام الربعي، وهو كتاب نفيس، مفيد في بابه، يحمل نفس العنوان وصايا العلماء عند حضور الموت، وجمع فيه وصايا العلماء وغيرهم، منذ آدم عليه الصلاة والسلام إلى العلماء الذين جاءوا في دولة بني أمية، وما بعدها، ولكنني لم أظفر بهذا الكتاب حين احتجته، فرجعت إلى أوراق لي قديمة، كنت جمعتها قبل خمس سنوات، وهي عبارة عن مقتطفات من كتب السنة، فقد تسنى لي في تلك السنين أن أقرأ مجموعة من كتب السنة؛ كـالصحيحين، والسنن، والزهد لـابن المبارك، وغيرها، وكنت أجمع كل ما يتعلق بوصايا العلماء، وأصوره في أوراق عندي، فرجعت إليها بعد أن كنت نسيتها، أو كدت أن أنساها، فكانوا بذلك سبباً في مراجعتي لهذه الأوراق من جديد، واستفادتي منها، ومنها جمعت بعض هذه الوصايا التي سوف أعرضها عليكم.
سبب اختيار الموضوع
أما لماذا وصايا العلماء عند حضور الموت؟
العلماء هم خير البرية
فأولاً: العلماء هم خير البرية، كما قال الله عز وجل: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ))[البينة:7-8]، وقال: ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ))[فاطر:28].
فبين الله عز وجل أن العلماء هم الذين يخشون الله، وأن من خشي ربه فهو من خير البرية؛ إذاً فالعلماء هم خير البرية، وهم أنصح الناس للناس، وأفصحهم، وأقدرهم على التعبير عما في نفوسهم.
أنصح ما يكون العلماء عند الموت
وأنصح ما يكون العالم عند حضور الموت؛ فإن الإنسان إذا حضره الموت، فهي ساعة صدق وإخلاص، يؤمن فيها الكافر، ويصدق فيه الكاذب، ويزول فيها البهرج، ويظهر الإنسان فيها على حقيقته؛ فيقول الحق، ولو كان على نفسه؛ ولذلك فإن نصيحة العالم عندما يحضره الموت هي أعظم النصائح، وأجدرها بالأخذ والقبول.
أهمية الوصية وحكمها
إخواني وأحبتي الكرام، والوصية مما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: ((كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ))[البقرة:180]، فكتب الله تعالى على العبد إذا حضره الموت، وترك خيراً أن يوصي.
وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية منسوخة، وذهب آخرون إلى أنها محكمة، وفي الحديث الذي رواه الجماعة؛ البخاري، ومسلم، وأصحاب السنن، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما حق امرئٍ له شيء يريد أن يوصي به، يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه)، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه ينبغي لكل إنسان له شيء يريد أن يوصي به، له حقوق على الناس، أو للناس عليه حقوق، أو له أشياء يريد أن يكتبها، أو عليه أشياء يريد أن يكتبها، ألا يبيت ليلتين، وفي رواية: ليلة، وفي رواية: ثلاث ليال، فكأن أقصى مهلة أعطيت لك أن تكتب وصيتك ثلاث ليال، وما تمر عليك ثلاث ليال، إلا وتكتب وصيتك، وتجعلها محفوظة عندك.
هذا إذا كان لك شيء تريد أن توصي به، أما إذا كنت تقول: أنا والله لا مال، ولا أهل، ولا ولد، ولا لي شيء، ولا علي شيء، فحينئذٍ لا عليك أن تكتب الوصية، أو لا تكتبها، لكن إن كان لك حقوق، وعليك حقوق، فإنه ينبغي لك أن تكتب الوصية، وقيل: يجب عليك ذلك، والجمهور على أنه يستحب أن تكتب هذه الوصية.
وقد جاء في الحديث الذي حسنه ابن حجر وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له رجل مات ميتة فجأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! كأنها أَخْذة أسف، أو كأنها أَخْذة آسف)، ثم أمر صلى الله عليه وسلم بالوصية.
إذاً الإنسان ما يدري، قد يصبِّحه الموت أو يمسِّيه، وما الأمر إلا نَفَسٌ يدخل فلا يخرج، أو يخرج فلا يدخل، فإذاً الحزم كل الحزم، والعقل كل العقل، أن تكتب وصيتك، ولا تمهل، أو تؤجل، فكم من إنسان كان يريد أن يوصي، لكن عاجلته المنية؛ فأصبح مالُه لغيره:
وأصبح مالي من طريف وتالد لغيري وكان المال بالأمس ماليا
وصية نوح عليه السلام
إخوتي الكرام، أما وصية نوح عليه الصلاة والسلام، فقد جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عند الطبراني، بسندٍ رجالُه ثقاتٌ، كما يقول الهيثمي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن نوحاً حين حضره الموت، قال لولده: "إني آمرك باثنتين، وأنهاك عن اثنتين: آمرك بـ"لا إله إلا الله"؛ فإن السماوات والأرض لو كانتا حلقة لفصمتهن، أو لقصمتهن لا إله إلا الله، وآمرك بـ"سبحان الله وبحمده"؛ فإنها زكاة الخلق، وبها يرزقون، وهي تسبيح كل شيء)، ومصداق ذلك في كتاب الله عز وجل: ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً))[الإسراء:44]، فأمر نوح ابنه عليه السلام بأن يكثر من قول: (لا إله إلا الله)، وأن يكثر من قول: (سبحان الله وبحمده)؛ فإنها زكاة الخلق، وتسبيحهم، وبها يرزقون.
(وأنهاك عن اثنتين: عن الشرك، وعن الكبر)، أما الشرك: فشأنه معروف: ((وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ))[الحج:31].
وأما الكبر: فهو قرين الشرك، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم، وغيره: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قالوا: يا رسول الله، أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة، قال عليه الصلاة والسلام: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس)، جحد الحق ورده، وبخس الناس أشياءهم، وحقوقهم.
فنهى نوح ابنه عن الشرك والكبر.
وصية إبراهيم ويعقوب عليهما السلام
أما الوصية الثانية: فهي وصية إبراهيم ويعقوب عليهما الصلاة والسلام، وهي مثبتة في كتاب الله عز وجل، قال الله تعالى في سورة البقرة: ((وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))[البقرة:132].
ظهور الحقائق عند الموت
وهنا يتعجب بعض الناس، ويقول: هل الموت ونحن مسلمون بأيدينا؟!
فنقول: نعم، ولم يكن الله عز وجل ليكلفنا ذلك، إلا ونحن نطيقه ونستطيعه، فإن العبد يموت على ما عاش عليه، فإذا علم الله من عبده الصدق، والإخلاص، والإيمان، والاستقامة، فإن الله تعالى يقبض روحه على ذلك.
وإذا علم الله تعالى من عبده النفاق، وأنه يظهر ما لا يبطن، ويعلن ما لا يسر، فإن الله تعالى يفضحه عند النـزع، ويبين حقيقته للناس، فإن العبد عند احتضاره تبين حقيقته؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح- قال: (إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة -فيما يبدو للناس-، وهو من أهل النار، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار -فيما يبدو للناس-، وهو من أهل الجنة).
إذاً هذا إنسان يتظاهر بالإيمان والإسلام، ويقول ما لا يعتقد؛ فيفضحه الله تعالى على فراش الموت، وذاك عبد صادق، علم الله من قلبه الصدق، والإقبال، والإخبات، والانقطاع إليه، فثبته الله تعالى، قال الله عز وجل: ((يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ))[إبراهيم:27]؛ ولذلك جاء في حديث البراء الطويل، الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود، وغيرهما، بسند حسن، وأصله في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد المؤمن إذا حُضِر، بشر برحمة من الله تعالى، وحضره الملائكة، فقالوا: أيتها الروح الطيبة، اخرجي إلى رحمة من الله تعالى ورضوان، ورب غير غضبان، فتخرج روحه، وإن العبد الكافر أو المنافق إذا حُضِر، قيل: أيتها الروح الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله تعالى وغضب، فتتفرق روحه في جسده، فلا تخرج إلا بعناء).
إذاً ((فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))[البقرة:132]، إن كان العبد صادقاً، قبض الله روحه على الإيمان والتقوى، وإن كان منافقاً، أو مخلطاً، فربما يفتضح -والعياذ بالله تعالى- عند الموت.
وهذا من أسرار حسن الخاتمة، أو سوئها، وقد تكلم الإمام ابن القيم في هذا الموضوع، وأطال الكلام فيه في مواضع عديدة من كتبه، فقوله: ((فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))[البقرة:132]، معناها: أسلموا لله تعالى إسلاماً حقيقياً حال اختياركم، وحياتكم، يقبض الله تعالى أرواحكم على الإيمان.
((أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ))[البقرة:133]، إذاً يعقوب عليه الصلاة والسلام لما حضرته الوفاة دعا بنيه؛ فاجتمعوا عنده، وكانوا أحد عشر أو اثني عشر، فكان يسألهم: ما تعبدون من بعدي؟
يريد أن يطمئن على تربيته، وعلى غرسه، وعلى ولده، ((قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ))[البقرة:133]، فاطمأن يعقوب عليه الصلاة والسلام، وارتاح لذلك قلبه، وهدأت له نفسه، وعلم أن أولاده سوف يرثون بضاعته من بعده، ويحملون راية التوحيد التي كان يحملها، وحملها من قبله آباؤه إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق.
وصايا محمد صلى الله عليه وسلم
ثم انتهت النوبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو إمام الرسل، وخاتمهم، عليه الصلاة والسلام، وحامل لواء الحمد، والشافع المشفع، وأفضل ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض، هو صلى الله عليه وسلم له من الخصائص، والفضائل، والمزايا، ما يضيق عنه الحصر، حتى صنف فيه العلماء كتباً خاصة، انتهت النوبة إليه صلى الله عليه وسلم، فلننظر ماذا كان يقول عليه الصلاة والسلام قبل أن يموت، والكلام في وصاياه عليه الصلاة والسلام عند موته يطول؛ ولذلك أحببت أن أذكر لكم بعض الوصايا المختصرة، وأعرض عن الوصايا الأخرى؛ لأن لها مناسبات غير هذه.
إخراج المشركين من جزيرة العرب
فمن وصاياه عليه الصلاة والسلام ما ذكره ابن عباس، كما في صحيح مسلم وغيره، ( أنَّ ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه كان يقول: [يوم الخميس، وما يوم الخميس؟ ثم بكى حتى بل دمعه الثرى، رضي الله عنه، فقال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فقال: ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً، فتنازعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، بعضهم يقول: هاتوا، يكتب لكم، وبعضهم يقول: ما شأنه؟ أهجر؟ استفهموه] -يعني: كأنهم ظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، فقال قولاً يحتاج إلى بيان، وربما يكون فيه قول من غلبة المرض عليه-، قال: [فتنازعوا عنده صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قوموا عني، فقاموا من عنده صلى الله عليه وسلم، قال: وأوصاهم بثلاث؛ الأولى: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، الثانية: أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، قال سعيد بن جبير: ونسيت الثالثة ].
قوله عليه الصلاة والسلام: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)، كانت جزيرة العرب فيها يهود؛ يهود في تيماء، يهود في خيبر، يهود في عدد من البقاع، وكان فيها نصارى، في نجران، وفي غيرها، فأمر صلى الله عليه وسلم بألا يبقى في جزيرة العرب إلا مسلم، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (لأخرجن المشركين من جزيرة العرب، أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب؛ حتى لا أدع فيها إلا مسلماً)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا يجتمع في جزيرة العرب دينان).
هذه الجزيرة أيها الأحبة، لها هذه الميزة التي ليست لأي بقعة في الدنيا؛ هي جزيرة الإسلام، أرض الإسلام، منها بدأ، وإليها يعود، عاصمة الإسلام، يقول عليه الصلاة والسلام -فيما رواه مسلم وغيره-: (إن الدين ليأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها)، يعني: يجتمع، وينضم، ويرجع بين المسجدين؛ مسجد مكة، ومسجد المدينة.
إذاً فهذه البلاد -حتى في أيام غربة الإسلام، وضعف شأنه- هي بلاد الإسلام، وحصنه الحصين، وأهلها هم الذين يدفع الله تعالى بهم عن هذا الدين الغوائل، والعوادي، على مر العصور، وكر الدهور؛ فلذلك أعظم، وأكبر، وأخطر فتنة تمر بالمسلمين، بل تمر بالبشرية كلها من آدم عليه السلام إلى قيام الساعة: هي فتنة المسيح الدجال، من هو الذي يكسر هذه الفتنة، ويسقطها، ويكون بداية زوالها على يديه؟
إنه رجل من أهل هذه الجزيرة، بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم شأنه في حديث رواه البخاري وغيره: (أن المسيح الدجال يدخل كل البلاد إلا مكة، والمدينة، فإذا كان قريباً من المدينة، جلس في بعض السباخ، فارتجت المدينة، أو رجفت ثلاث رجفات؛ فخرج إليه كل منافق ومنافقة.والناس يفتنون به، ويغترون بما معه من المظاهر، ومن الألاعيب، ومن الخدع، ومما سخره الله تبارك وتعالى له. فيخرج إليه شاب من المدينة هو خير أهل الأرض يومئذ، أومن خير أهل الأرض يومئذ، فإذا وقف أمام المسيح الدجال، قال: أشهد أنك الدجال الذي أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول المسيح الدجال للناس: أرأيتم إن قتلت هذا الشاب، وقطعته إلى قطعتين، ومشيت بين قطعتيه، أتشهدون أني أنا الله؟ فيقولون: نعم، فيقطعه، ثم يمشي بين قطعتيه، ثم يقول له: قم، فيستوي حياً بإذن الله عز وجل، فيقول لهذا الشاب: أتشهد أني أنا الله؟
فيقول هذا الشاب له: والله ما ازددت فيك إلا بصيرة) ما ازددت فيك إلا علماً، ومعرفةً، ووعياً؛ لأن الرسول عليه السلام أخبرنا بذلك، (فيريد الدجال أن يقتله، فلا يسلط عليه، ويجعل الله عز وجل على رقبته شيئاً من نحاس أو حديد، فلا يستطيع الدجال أن يقتله)، ومن حينئذٍ بدأ -كما يقولون- العد التنازلي للدجال، فيغادر المدينة مخذولاً مهزوماً، ثم يذهب إلى الشام، وهناك يقتله المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام.
إذاً أخطر وأعظم فتنة: فتنة الدجال، بداية زوالها على يد شاب من هذه الجزيرة، فما دونها من الفتن التي تنـزل بالمسلمين، يتصدى لها شباب هذه الجزيرة بالدرجة الأولى، وغيرهم من شباب المسلمين في كل مكان، حتى يكتب الله تبارك وتعالى فضيحتها، وزوالها على أيديهم.
الوصية الثانية
وصية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم عند موته أيضاً، رواها الإمام مسلم، عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على الناس، وكشف الستارة بينه وبينهم، فرآهم صفوفاً خلف أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، إنه لم يبق من النبوة إلا المبشرات) وهي الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم، أو تُرى له، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً، أو ساجداً، أما الركوع فعظموا فيه الرب) يعني: قولوا: سبحان ربى العظيم، (وأما السجود فادعوا؛ فقمِنٌ أن يستجاب لكم).
عقيدة ختم النبوة
وفي هذه النصيحة أو الوصية النبوية أمور؛ أولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلن عقيدة من أخطر العقائد في الإسلام، ألا وهي عقيدة ختم النبوة، وأن هذه الدنيا لن يأتيها نبي بعد النبي صلى الله عليه وسلم، صحيح أن عيسى ينـزل في آخر الزمان، لكنه ينـزل حاكماً بشريعة النبي عليه الصلاة والسلام، وليس آتياً بدين جديد، ولا يتنـزل عليه وحي جديد، فأعلن النبي صلى الله عليه وسلم ختم النبوة، وأنه لا نبي بعده، وأن السماء لن تتفتح لنـزول وحي بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، وهذا كان من الأسباب التي تبكي المسلمين وتحزنهم، عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
في الصحيح: ( أن أبا بكر قال لـعمر -بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم-: اذهب بنا إلى أم أيمن نـزورها، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها) وأم أيمن كانت حاضنة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ( فذهبوا إليها، فلما رأتهم، خنقتها العبرة، وأسبلت دموعها، وبكت، وارتعدت عندهم، فقالا لها: يا أم أيمن، ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قالت: أما إني أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني أبكي انقطاع الوحي من السماء)، لاحظ الفقه عند هذه المرأة، تقول: ما أبكي على الرسول عليه السلام فقط؛ فإن ما عند الله خير له وأبقى، ((وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى))[الضحى:5]، (ولكني أبكي انقطاع الوحي من السماء، قال: فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها) .
الرؤيا الصالحة
ومن الأشياء التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الوصية: الرؤيا الصالحة، يراها الرجل المؤمن، أو تُرى له، وأنها هي الشيء الوحيد الباقي من آثار النبوة؛ وذلك لأن أول ما بُدِئ به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة، الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
عدم قراءة القرآن في الركوع والسجود
الأمر الثالث الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر حكماً يتعلق بالصلاة، وهو ألا يقرأ الإنسان القرآن في ركوعه، ولا في سجوده، أما الركوع فيقول: (سبحان ربي العظيم)، وأما السجود فيقول: (سبحان ربي الأعلى)، ويدعو بما شاء.
فالمقصود ألا يقرأ القرآن على سبيل القراءة، أما لو قرأه على سبيل الدعاء فلا حرج، فلو قال المصلي في ركوعه أو سجوده: ((رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ))[البقرة:201]، ((رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ))[إبراهيم:41]، أو ما أشبه ذلك من الأدعية القرآنية، لا على سبيل القرآن، لكن على سبيل الدعاء، فإن هذا لا يدخل في ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم
الوصية الثالثة: ما رواه الإمام أحمد، والنسائي، عن أنس رضي الله عنه، أنه قال: كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت: (الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم)، كانت هذه وصيته صلى الله عليه وسلم، ويكثر من قولها، وتكرارها، وتردادها: (الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم)، يحرضهم على الصلاة، ويحضهم عليها، ويبين لهم عظيم شأنها، فكانت من آخر ما فاض بها لسانه عليه الصلاة والسلام، حتى إن ابن حبان وغيره زاد -كما في صحيحه- أنه قال: (وكان يغرغر بها، وما يكاد يفيض بها لسانه)، يعني: هذه آخر كلمة قالها صلى الله عليه وسلم، فيما يتعلق بوصاياه، وقد ثقل لسانه، وأصبح نَفَسه لا يكاد يخرج، ولا يكاد يستطيع أن يتكلم بهذه الكلمة، ولسانه لا يكاد أن يقولها، فكان يقول: (الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم)، احرصوا على الصلاة، بكروا إلى الصلاة، التزموا بالصلاة، مروا بالصلاة، تعلموا الصلاة؛ حثاً، وتحضيضاً على الصلاة، وما يتعلق بها.
(وما ملكت أيمانكم)، يعني: اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم، من العبيد والأرقاء، أحسنوا ملكتهم، وأحسنوا إليهم، ولا تظلموهم، ولا تحملوهم ما لا يطيقون، وهذا من عظيم رحمته صلى الله عليه وسلم، وشفقته، وحرصه على حقوق العباد، وأن يقوم الإنسان بحقوق الناس، ولا يقصر في شيء منها، والحديث صحيح، وله شواهد عديدة.
حسن الظن بالله
الوصية الرابعة من وصاياه صلى الله عليه وسلم: ما رواه مسلم، عن جابر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بثلاث يقول: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)، فكان صلى الله عليه وسلم يأمر الناس أن يحسنوا الظن بربهم؛ وذلك لأن الله تعالى يقول: (أنا عند حسن ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني)، وفي حديث: (أنا عند حسن ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء).
فينبغي للعبد أن يحسن الظن بالله جل وعلا، وحسن الظن من حسن العمل؛ فإن العبد إذا أحسن العمل، رزقه الله تعالى حسن الظن، فإذا أساء العمل ساء ظنه:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم
وعادى محبيه لقول عداته وأصبح في ليلٍ من الشك مظلم
في صحيح مسلم، عن عائشة رضي الله عنها، وأبي هريرة، وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله، كره الله لقاءه، قالوا: يا رسول الله، أكراهية الموت؟ فكلنا يكره الموت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن العبد المؤمن إذا حُضِر، بُشِّرَ برحمةٍ من الله عز وجل؛ ففرح، وأحب لقاء الله، فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حُضِر بُشِّرَ بسخط من الله وعذاب؛ فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه).
إذاً من أحسن العمل، أحسن الظن، ومن أساء العمل، أساء الظن، فلا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله.
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم
ربي دعوتُ كما أمرت تضرعاً فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
صلة الأرحام
وروى ابن حبان وغيره، عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته: (أرحامكم أرحامكم)، صلوا أرحامكم، صلوا أرحامكم، فأمر صلى الله عليه وسلم بصلة الرحم، وكان يوصي بذلك في مرض الموت؛ وذلك لما في صلة الرحم من أثر في تقوية الأواصر الاجتماعية، وتوحيد القلوب، وإزالة العداوات، والبغضاء، ونـزول الرحمة، قال الله عز وجل: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا))[محمد:22-24].
ورد في حديث: (أن الرحمة لا تنـزل على قوم فيهم قاطع رحم)، وفي الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة قاطع)، قاطع الرحم لا يدخل الجنة، هكذا يقول صلى الله عليه وسلم، وكم من إنسان قد يصل أصدقاءه، ويحسن إليهم، ويستميت في خدمتهم، وتحقيق مطالبهم، والسهر على راحتهم، فإذا جاء الأمر فيما يتعلق بوالديه، وأرحامه، وأقاربه، فإنه لا يأبه بهم، ولا يتحمل من والديه كلمة خشنة، أو موقفاً صعباً، وكثيرٌ من الشباب يستثقلون والديهم، ويضحكون من أعمالهم، وأقوالهم، وتصرفاتهم، وقد يستهزئون بهم، وقد يقولون لهم كلمات خشنة بذيئة، لا تليق أن تقال لرجل بعيد، فكيف بالقريب؟!
أخي الشاب! إنك مطالب أصلاً إذا رأيت كبير السن، الذي شاب في الإسلام مفرقه، وشابت لحيته، وظهر عليه هذا الوقار- أنت مطالب أصلاً أن تقدره، وتجله، وتخدمه، وتتلطف معه بالقول، وتقدمه في المجالس، وفي كل شيء، فكيف إذا كان قريباً؟! فكيف إذا كان أباً، أو كانت أماً؟!
الأمر في ذلك أعظم وألزم، فلينتبه الشباب، وليعرف أن الصلة والبر من الأشياء التي تعجل ثمراتها في الدنيا، فإن الإنسان إن كان باراً بوالديه، عجلت له ثمرة ذلك في الدنيا، وأقلها أن يوفقه الله تعالى لمن يبره من أولاده، وأحفاده، وإن كان عاقاً، فإن الله تعالى يسلط عليه من أولاده وأولادهم من يعقه.
كان رجلٌ في الجاهلية له ولد، فأساء إليه، وظلمه، وضربه، فكان هذا الرجل يرفع رأسه، ويدعو عليه، ويقول:
جزت رحم بيني وبين منازلٍ جزاءً كما يستنـزل الدَّين طالبه
وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه
تغمط حقي ظالماً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه
أئن رعشت كفا أبيك وأصبحت يداك يدا ليثٍ فإنك ضاربه؟!
إذا أصبحت يدا أبيك ترتعش من الكبر، والهرم، والضعف، والعجز، وأنت شاب قوي، فتيّ، تستأسد عليه وتضربه؟! فكان يدعو عليه؛ فأصابه الله تعالى بالعقوبة العاجلة، والبلاء النازل.
وأخيراً، فإن من وصاياه صلى الله عليه وسلم في مرض موته، ما رواه ابن حبان، والحاكم، وابن المبارك، في كتاب الزهد وغيرهم، : أن سلمان الفارسي رضي الله عنه لما حضرته الوفاة، ظهر منه بعض الجزع والحزن، فعرف ذلك بعض من حضروا، فسألوه عن ذلك، فقالوا له: ما الذي يحزنك ويجزعك؟ هل هذا جزع على الدنيا؟
فقال: كلا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهداً، وقال عند موته، قال لي: (يكفي أحدكم من الدنيا زاد كزاد الراكب)، قال: فجمعنا، إذاً سلمان الخير؛ سلمان الفارسي الآن حزين عند موته، يقول: لأن الرسول عليه السلام كان وهو يودعنا -وهو يفارق الدنيا- أوصانا بوصية، قال لنا: (يكفي أحدكم من الدنيا زاد كزاد الراكب)، واحدٌ مسافر، المسافر -يا إخواني- ما يحمل من الزاد إلا القليل، قال: فجمعنا، ثم مات سلمان الفارسي، مات سلمان رضي الله عنه، فجمعوا تركته، فكم كانت هذه التركة؟! كانت فقط خمسة عشر ديناراً! خمسة عشر ديناراً يموت عنها سلمان، يظهر أثرها في الجزع والحزن على وجهه، وهو يموت رضي الله عنه وأرضاه، والشاهد: وصية النبي صلى الله عليه وسلم عند موته، وأنه قال لأصحابه: (يكفي أحدكم من الدنيا زاد كزاد الراكب).
فما بالكم بنا نحن الآن، ونحن نجمع القصور، والأموال الكثيرة، والسيارات الفخمة، والمراكب الفارهة، ونمد حبالاً طوالاً في هذه الدنيا، وكأننا نفعل فعل الخالدين؟!
سبحان الله! كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه، يوماً من الأيام، صعد على منبر دمشق، فقال: [يا أهل دمشق، فاجتمعوا إليه أبو الدرداء عويمر رضي الله عنه من خيار الصحابة، وزهادهم، وعلمائهم، كانوا يحبونه حباً شديداً؛ فلما سمعوه يصرخ، ويصيح: يا أهل دمشق، اجتمعوا إليه-، لبيك يا أبا الدرداء، قال: ألا تسمعون وصية أخٍ لكم، مشفق، ناصح؟ قالوا: بلى، قل رحمك الله، قال: إن من كان قبلكم، كانوا يجمعون كثيراً، ويؤملون كثيراً، ويبنون كثيراً، فأصبح جمعهم بدداً، وأصبح بنيانهم بوراً، وأصبحت قصورهم قبوراً، هؤلاء عاد الذين ملكوا البلاد، وأكثروا فيها الفساد، تركوا ما تركوا، فمن يشتري مني تركتهم بدرهمين؟ من يشتري مني تركتهم بدرهمين؟]، فكان النبي عليه السلام يكثر أن يوصي أصحابه بالتقلل من الدنيا.
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل)، أما الغريب: فمثل إنسان يقيم في بلد إقامة معينة، وهو غريب غير معروف، لا يعرفه أحد؛ فتجد هذا الغريب يتقلل من الدنيا، لكن أشد من الغريب عابر السبيل؛ إنسان -أصلاً هو- مسافر، لكن لما مر بهذا البلد، قال: أريد أن أغير -مثلاً- حاجيات السيارة، وأشتري ماءً بارداً، وأرتاح قليلاً، ثم أواصل السفر، عابر سبيل، وكان ابن عمر يقول: [إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك].
من وصايا الصديق
أما الصديق رضي الله عنه وأرضاه، خير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وخير هذه الأمة بعد نبيها، فإن خبره عجيب، ولولا أنه حق، لظننا أنه من جملة الأساطير، لكن العلماء رووه لنا بالأسانيد الصحيحة، فانظر ماذا يقول أمير المؤمنين، يملك دنيا عريضة، ويدين له المسلمون في أنحاء الأرض، ويطيعونه في طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الوصية الأولى
لما حضرته الوفاة، بكت عائشة رضي الله عنها، وبدأت تردد أبياتاً من الشعر، فقال: [يا عائشة، دعي هذا، وقولي كما قال الله عز وجل: ((وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ))[ق:19]، ثم قال لها: يا بنية، في كم كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت له: كُفِّنَ في ثلاثة أثواب سحول يمانية، فقال لها: إذا أنا مت، فكفنوني في ثوبي هذين -عليه ثوبان-، واشتروا لي ثوباً ثالثاً، وإياكم والجديد] -لا تكفنوني في ثوب جديد-، [فإن الحي أولى بالجديد من الميت، وإنما هو للمُهْلَة، والصديد]، يقول: الثياب التي تكفنونني فيها هي للمُهْلَة، والصديد الذي يكون في الميت عندما يقبر، بعدما تمر عليه الأيام؛ فلا داعي أن تكفنوني في كفن جديد، بل كفنوني في هذين الثوبين، والحديث ذكره الطحاوي في مشكل الآثار، وغيره، لكن لم يتسنَّ لي أن أخرجه إلا من الطحاوي كما ذكرت.
الوصية الثانية
الحسن بن علي رضي الله عنه يذكر عن عائشة، أن أبا بكر رضي الله عنه لما حضرته الوفاة، قال لها: [يا عائشة ]-انظروا يا أحبتي، والله أمور ينقضي منها العجب! عجب من العجب- [يا عائشة، انظري اللقحة التي كنا نشرب من لبنها، والجفنة التي كنا نصطبح فيها -الإناء الذي كانوا يضعون فيه صبوحهم أو غبوقهم-، والقطيفة التي كنا نلبسها، فادفعيها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أو ادفعيها إلى الخليفة من بعدي، فإنا كنا ننتفع بها حين كنا نلي أمر المسلمين، أما الآن، فليست منا، ولسنا منها في شيء].
يا سلام! يا سلام! على أبي بكر رضي الله عنه، ما عنده شيء! خليفة، أمير المؤمنين، يقول لـعائشة: القطيفة التي نلبسها هذه ادفعيها للخليفة من بعدي، والإناء الذي نشرب فيه ادفعيه، والناقة التي نشرب لبنها ادفعيها إلى الخليفة من بعدي، هذه أمور كنا نستعملها يوم كنا نلي أمور المسلمين، أما الآن، فادفعيها إلى الخليفة، لما مات رضي الله عنه دفعتها إلى عمر، فلما رآها عمر قعد في مكانه يبكي، ويصيح، ويقول: [رحمك الله يا أبا بكر، رحمك الله يا أبا بكر، لقد أتعبت من جاء بعدك، من يصنع مثل صنيعك؟!]، هذا العمل الجليل الجبار، وهذه القصة رواها الطبراني، وقال الهيثمي: رجاله ثقات.
الوصية الثالثة
الوصية الثالثة لـأبي بكر: كان يوصي عمر من بعده رضي الله عنه، قال: [إني موصيك بوصية، إن قبلتها مني، يا عمر، إن لله حقاً بالنهار، لا يقبله بالليل، وإن لله تعالى حقاً بالليل، لا يقبله بالنهار، وإن الله تعالى لا يقبل نافلة، حتى تؤدى فريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة؛ بإيثارهم الحق في الدنيا، ولو ثقل ذلك عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا حق- أن يثقل، وإنما خفت موازين من خفت موازينه بالآخرة؛ باتباعهم الباطل في الدنيا، وحُقّ لميزان لا يوضع فيه إلا باطل- أن يطيش، وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة، فذكرهم بصالح أعمالهم؛ لئلا يقول إنسان: أنا خير منهم، قال رضي الله عنه: فإن اتبعت أو حفظت وصيتي هذه، فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت، ولا بد لك منه، وإن ضيعتها، فلا يكونن غائب أبغض إليك من الموت، ولن تعجزه، ولن تفوته]، أنت ميت بكل حال، رغبت أو ما رغبت، الموت ليس يأخذ إذناً أو موافقة من الإنسان، قد يأتي الموت لإنسان ليس لوالديه غيره، ليس بالضرورة أنه يراعي ظروف البيت، أو ظروف الأهل، أو ظروف الجيران، هذه حكمة الله تعالى، قدره النافذ، وقضاؤه الذي يمضي على الكبير، والصغير، وعلى الغني، والفقير، وعلى المأمور، والأمير، وعلى الناس كلهم سواءً بسواء، هذا سر الله تعالى في خلقه، ((وجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ))[ق:19].
في وصايا أبي بكر رضي الله عنه أمور، منها: توقيت العبادات، لله حق بالليل لا يقبله بالنهار، وحق بالنهار لا يقبله بالليل، أمور كثيرة، منها الصيام، منها الصلاة، منها حقوق الخلق، حقوق الناس، وفي وصيته رضي الله عنه اتباع الحق، وإيثاره، وإن ثقل ذلك على الإنسان، وترك الباطل، وإن كان خفيفاً عليك؛ فإن الله تعالى أمرنا بالحق، ونهانا عن الباطل.
وصايا عمر
الوصية الأولى
أما عمر رضي الله عنه وأرضاه، فقد روى مالك، عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه، وسنده صحيح، أنه قال: [لما طعن عمر رضي الله عنه: أتيت أوقظه لصلاة الفجر، فقلت له: يا أمير المؤمنين، الصلاة الصلاة، قال: فاستيقظ، وهو يقول: نعم، أما إنه لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، قال: فصلى عمر، وجرحه يثعب دماً].
طعن رضي الله عنه وأرضاه، سقط في المحراب، فحمل إلى بيته، ومات بعد وقت يسير، ومع ذلك لما أرادوا يعرفون هل عمر في حالة غيبوبة، أم إنه في حالة صحو، قالوا: لا نجد أمراً يلفت نظر عمر مثل الصلاة، فقالوا له: الصلاة الصلاة، يا أمير المؤمنين، فلما سمع كلمة الصلاة، ارتجف، وارتعد، وقال: نعم، أما إنه لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
كم هو مؤسف أنك تجد من أصحاء المسلمين، وأقويائهم، وشبابهم الذين أنعم الله تعالى عليهم بالمال الوفير، الكثير، والصحة، والعافية، والشباب، والقوة، والأمن، وجيران المسجد، يسمعون المؤذن ينادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح، فلا يجيبونه، ومنهم من لا يجيبه في صلاة الفجر خاصة، وقد قال أنس وغيره: [كنا إذا فقدنا رجلاً في صلاة الفجر أسأنا به الظن].
أما المؤمنون الذين يعرفون حق الله عز وجل، فإن الواحد منهم، وهو طعين، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، يقول: [نعم، لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة]، ثم يصلي وبطنه يسيل دماً، جرحه يثعب، وهو يموت بعد وقت يسير.
الوصية الثانية
قضية أخرى لـعمر رضي الله عنه في صحيح البخاري، وهي قصة طويلة جداً في نحو ثلاث صفحات، لا يملك مؤمن أن يقرأها إلا ويبكي، وتسيل دموعه، لكنني لا أستطيع -لضيق الوقت- أن أسردها عليكم، لكن أذكر لكم موقفاً واحداً فقط منها.
دخل عليه غلام من الأنصار، فسلم عليه، وقال: يا أمير المؤمنين، فعلت، وفعلت، وفعلت، وزكاه، ومدحه، فلما أدبر، نظر عمر، فإذا هذا الشاب ثوبه فيه طول -طويل بعض الشيء-، فقال: ردوا عليَّ الغلام-هاتوه-، فرجعوا إليه قالوا: أمير المؤمنين يريدك، فقال: [يا ابن أخي، ارفع إزارك] -ارفع ثوبك، مسبل-؛ [فإنه أتقى لربك، وأبقى، وأنقى]، أتقى، وأنقى، وأبقى، يلقي الحكمة حتى وهو يموت، كلمات حكمة، تكتب بماء الذهب (يا ابن أخي، ارفع إزارك)، أمر بالمعروف، نهي عن المنكر، ما قال: هذا أمر بسيط، أو هذه قضية شخصية، لا، أمور الدين كلها عظيمة؛ لأن الدين عظيم جاء من عند عظيم [ارفع إزارك].
ثم يوصيه، ويبين له فوائد هذا الأمر من ناحية دينية، ومن ناحية دنيوية، هذا أتقى لله، وأبقى للثوب؛ لأن الثوب إذا طال يمس الأرض، فتصيبه، وسرعان ما يبلى، وأنقى له من أن يصيبه أيضاً وسخ، أو قذر، فهو أتقى وأنقى وأبقى، ولم يلهه ما هو فيه من أمر الموت أنه ينبه هذا الغلام على أن ثوبه طويل.
الوصية الثالثة
من وصاياه أيضاً ما رواه الدارمي، عن مروان بن الحكم، قال: لما طعن عمر رضي الله عنه، استشار الصحابة رضي الله عنهم الذين حوله في الجد. لاحظ عمر -أصلاً- طعن في صلاة الفجر، ثم نقل إلى بيته، والناس يبكون، والقضية كلها ساعات محدودة، ثم لفظ نفسه رضي الله عنه وأرضاه، والموقف صعب، صعب بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لكن مع ذلك، انظروا أمير المؤمنين كيف يتعامل مع الموضوع، يناقش قضايا فقهية، وقضايا علمية، وتفاصيل، كأنهم خلق آخر سبحان العظيم!
عمر رضي الله عنه وهو مطعون الآن، وحاله كما تعملون، ولما جاء الطبيب، قال: نسقيك خمراً؟ قال: لا أشربه، قالوا: نسقيك نوعاً من المخدر، قال: لا أشربه، قال: اسقوه لبناً، فسقوه لبناً، فخرج اللبن مع الجرح، فعلم الطبيب أنه ميت -علم أنه هالك-، قالوا: لا بأس عليك يا أمير المؤمنين، قال: إن كان الموت بأساً، فقد مت، ((وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً))[الأحزاب:38]، هذا ما كان يقوله عمر رضي الله عنه: ((وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً))[الأحزاب:38]، ولما علم أن الذي طعنه أبو لؤلؤة تنفس الصعداء وارتاح، وقال: [الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي على رجل سجد لله تعالى سجدة]، هو كان خائفاً أن الناس ساخطون عليه؛ لسوء عمل لم يشعر به؛ فقتلوه.
لما علم أن المؤمنين راضون به، وأن الجميع يبكون حتى كأنهم ما أصيبوا بمصيبة قبل ذلك، ارتاح وقال: الحمد لله.
الشاهد أنه كان جالساً، يقول للناس كما يقول مروان فيما رواه الدارمي: [إني قد رأيت في الجد رأياً] -يعني مسألة الجد والإخوة، قضية تتعلق بالفرائض-، يقول: [إني رأيت في الجد رأياً، إن بدا لكم أن تتبعوه فاتبعوه، ثم ذكر لهم هذا الرأي الذي رآه]، مسألة فقهية، فرضية، يشرحها لهم أمير المؤمنين، وهو على فراش الموت، فقال له عثمان رضي الله عنه: إن نتبع رأيك، فإنه رأي رشيد، وإن نتبع رأي الشيخ قبلك -يعني أبا بكر رضي الله عنه-، فنعم ذو الرأي كان، رأيك حسن، ورأي أبي بكر حسن، وهو اجتهاد، وذاك اجتهاد، وكل -إن شاء الله- على خير.
ليس قصدي الآن القضية الفقهية، قصدي أن عمر رضي الله عنه لم يلهه ما هو فيه، أن يتكلم عن قضية فقهية، يقول للصحابة: ما رأيكم في موضوع الجد والإخوة، وقسمة المواريث؟ وأشياء من هذا القبيل، وهو يموت.
وهذا دليل على قضية عنايتهم بأمور:
أولها: عنايتهم بعلوم الشرع، حتى الإنسان في مرض الموت، يحرص على أن يعلم الناس مسألة من الفقه؛ لعله يخشى أن يلقى الله تعالى، فيسأله الله تعالى: لمَ لم تقل للناس هذا الحكم؟
فحرص على أن يبلغه قبل أن يموت،
وهكذا يجب على العلماء أن يبلغوا الناس العلم، ولا يكتموه، وأن يحرصوا على إيصال الحق والعلم للناس بكل ما يستطيعون، هذه ناحية.
الناحية الأخرى: قضية حرصهم على حفظ الوقت، هذا ما دام نَفَسه ما خرج ، وروحه ما خرجت، فهو حريص على أن يستفيد من الوقت، يعلم، أو يتعلم، أو يبلغ شيئاً؛ ليكتب له بذلك أجر، أما نحن الآن، فالواحد منا صحيح، شحيح، قوي، والوسائل ممكنة، بكل سهولة يستطيع الشاب أن يحصل العلم اليوم، يقرأ كتاباً، يقرأ مجلة مفيدة، يسمع شريطاً مفيداً، يرفع الهاتف؛ ليتصل بفلان، أو علان، يذهب ليحضر حلقة الشيخ، يحضر حلقة القرآن، يحضر درساً، يحضر محاضرة، ومع ذلك تجد الشاب يضيع وقته، وربما يذهب إلى مباراة رياضية، أو -مثلاً- يسمع أغاني محرمة، أو يقضي وقته في قراءة جرائد، أو قراءة أمور تافهة، أو قيل، أو قال، أو ما أشبه ذلك من الأمور، التي يتفنن فيها بعض الشباب في إضاعة الوقت، ولا يدرون أن هذا الوقت، هو الذي به يجازون، به يدخلون الجنة، أو يدخلون النار، والناس كانوا عند الموت يستغلون دقائق بقيت من أعمارهم، مثل الطالب -لاحظوا الطالب- الآن في صالة الامتحان، طبعاً التشبيه مع الفارق، لكن مثال للتقريب حتى تلاحظوا.
أحياناً بعض الطلاب يكون طالباً جيداً، وحافظاً للمقرر كله، ومجتهداً، فمن يوم يأخذ الورقة، يبدأ يكتب الجواب، يبدأ يكتب الجواب، يبدأ يكتب الجواب، ولكن يكتب جواباً مضبوطاً، دقيقاً، مفصلاً، ولا يترك شاردة، ولا واردة، ولا شاذة، ولا فاذة، إلا يكتبها في ورقة الجواب، فتجده يملأ الورقة -هذا شيء نلاحظه ونحن نراقب على طلابنا-، فينتهي الوقت المحدد للإجابة، ينتهي، والطالب ما بعدُ انتهى، فتجد الأستاذ يأتي -مثلاً- عند هذا الطالب، يقول: باقٍ خمس دقائق، والطالب يسرع، يكتب بسرعة؛ لأن الوقت يمضي، الوقت ليس في صالحه، يحاول أن يستغل، خاصة الدقائق الأخيرة، يحرص على الاستفادة منها أكثر مما يحرص على الاستفادة من أول الوقت، فتجده ينازع الأستاذ في الورقة؛ من أجل أن يكتب ولو إجابة، ربما يحصل منها على درجة؛ لاحظ لأن الطالب حينئذ يشعر بقيمة الوقت، وهكذا كان الصالحون يشعرون بقيمة الوقت، فإذا قربت آجالهم، حرصوا على مضاعفة الأعمال الصالحة بقدر ما يستطيعون، حتى قال بعضهم: والله لو أعلم أني أموت الليلة، ما كان عندي مزيد، يقول: بذلت، ثم بذلت، ثم بذلت، ثم ملأت وقتي بالأعمال الصالحة، حتى لو قيل لي: إنك الليلة سوف تموت، ما عندي شيء جديد أضيفه، كل وقتي صرفته فيما يرضي الله عز وجل، ما عندي مزيد.
وصية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، سعد كما في الصحيحين: (أصابه في مكة، عام الفتح مرضٌ شديدٌ، أشفى منه على الموت، وخشي أن يموت، فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، وهو وجع اشتد به، فقال: يا رسول الله، قد اشتد بي الوجع، ولي مال كثير، ولا يرثني إلا بنت لي، فأريد أن أوصي بكل مالي، قال: لا، قال: بثلثيه، قال: لا، قال: بنصفه، قال: لا، قال: الثلث يا رسول الله، قال: الثلث، والثلث كثير، يعني توصي بثلث مالك، وهو كثير، يعني الأفضل ألا توصي بالثلث، توصي بأقل منه).
ولذلك قال ابن عباس -كما في مسلم-: [وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع ]، (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس).
لاحظ (ورثتك)، هو ما عنده إلا بنت، ومع ذلك يقول الرسول عليه السلام: (ورثتك)، وهذا علم من أعلام النبوة؛ لأن سعداً لم يمت في مرضه ذلك، بل عاش حتى عمِّر، ورزق عشرة من الولد. (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، اللهم أمضِ لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة- يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان مات بـمكة-، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لـسعد بن أبي وقاص: ولعلك أن تخلف؛ فيضر بك أقوام، وينتفع بك آخرون)، وهكذا كان، فإن سعداً لم يمت، بل عاش حتى شهد فتوح العراق، وفارس، وكان من قادة الفتوح في تلك البلاد، وما وقعة القادسية عنا ببعيد.
سعد رضي الله عنه لما جاءه اليقين من ربه، جاءه الحق، قال كما في صحيح مسلم: [الحدوا لي لحداً، وانصبوا علي اللبن نصباً، كما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم]، فأمرهم بأن يعتدلوا في دفنه، وأن يتبعوا السنة، فلا يبالغوا، أو يفعلوا شيئاً من البدع، أو يفعلوا بدفنه، أو وضع قبره، خلاف ما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وصايا عمرو بن العاص
عمرو بن العاص، وما أدراك ما عمرو بن العاص! له عند موته نبأ عجيب! في صحيح مسلم (أن عمراً لما حضرته الوفاة، حول رأسه إلى الجدار، وجعل يبكي، فجاءه عبد الله، ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال: له يا أبت، ما يبكيك؟ يحاول أن يزيل همه، وحزنه، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ ويذكر له بعض البشارات، فما زال به حتى التفت، ثم قال رضي الله عنه وأرضاه: إني لا ألقى الله عز وجل بأعظم من شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم قال: إني كنت على أطباق ثلاث -على أحوال ثلاث-، الحال الأولى: كنت في الجاهلية، ولم يكن أحد أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إني لو استمكنت منه لقتلته، فلو مت على تلك الحال، لكنت من أهل النار، قال: ثم قذف الله تعالى الإسلام في قلبي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، ابسط يدك أبايعك، قال: فبسط يده، فقبضت يدي، فقال: ما لك يا عمرو؟! قلت: يا رسول الله، أريد أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟
قلت: أريد أشترط أن يغفر لي، قال: يا عمرو، بايع؛ فإن الإسلام يجب ما قبله، والحج يجب ما قبله، والهجرة تجب ما قبلها، والتوبة تجب ما قبلها، قال: فبسطت يدي، فبايعته صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أحد أعظم في عيني من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إني لم أكن أطيق أن أنظر في وجهه؛ من شدة هيبتي له عليه الصلاة والسلام، فلو مت على تلك الحال، لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياء لا أدري ما حالي فيها، يعني من أمور الإمارة والحروب وغيرها، قال رضي الله عنه: فإذا دفنتموني، فانتظروا عند قبري قدر ما تذبح جزور، وتنحر، ويقسم لحمها؛ لعلي أن أستأنس بكم، وأنظر بماذا أراجع به رسول ربي)، يقول: انتظروا عند قبري، واستغفروا لي، وادعوا لي؛ لعلي أن أستأنس بكم، وهذا أمر خاص، اجتهاد خاص لـعمرو بن العاص رضي الله عنه، لم يكن يفعله غيره من الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم.
المهم هذه من وصيته.
ومن وصيته، أو من أخباره عند موته، ما رواه الحاكم، وغيره، [أن عبد الله ابنه قال له: يا أبت، أنت وأنت صحيح، كنت تقول لنا: وددت أن بعض المحتضرين يخبروننا عن الموتعلى عنقي]، كان عمرو يقول: بودي إنسانٌ يحضره الموت يحدثنا أيش يحصل عند الميت، بالضبط ماذا يجري، فأنت الآن فحدثنا.
[فقال: يا بني، إن أمر الموت أعظم من أن يوصف، لكنني سوف أقربه لك].-يقول: أرى شيئاً لا أستطيع أن أصفه، لكن أقربه لك-، [أحس كأن جوفي يشاك بالسلاح]. -كأن السكاكين والخناجر والسيوف تختلف في بطني، هذا يدخل وهذا يخرج؛ من شدة الآلام-، [وأحس كأن روحي تخرج من ثقب إبرة، وأحس كأن جبل رضوى على عنقي].
هذا بعض ما يعبر به عمرو بن العاص رضي الله عنه عن الآلام، والصعوبات التي يلقاها المحتضر، ومع ذلك ((يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ))[إبراهيم:27].
وقد روى نعيم بن حماد في زوائده، عن ابن المبارك، عن عمرو بن العاص أيضاً عند موته أنه قال: [اللهم أمرت فعصينا، ونهيت فوقعنا، لا إله إلا أنت، ثم أمسك بإبهامه، فما زال يرددها حتى فاضت روحه رضي الله عنه وأرضاه].
وصية معاذ بن جبل
[معاذ بن جبل قال له جلساؤه وهو في مرض موته: أوصنا، قال: أجلسوني] معاذ من كبار العلماء، علماء الصحابة، ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو حديث صحيح، أنه قال: (معاذ أمام العلماء برتوة)، رتوة: يعني مسافة، معاذ من العلماء الكبار، ومن كبار المفتين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا له: أوصنا، قال: أجلسوني، فلما أجلسوه قال لهم: [إن العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما]، يعني: لا تظنوا أن موتي يعني موت العلم، العلم باق موجود، والإيمان باق موجود، من التمسه وجده، ثم قال لتلاميذه، وأصحابه: (التمسوا العلم عند أربعة -أوصاهم: خذوا العلم بعدي عن أربعة- أولهم: أبو الدرداء عويمر رضي الله عنه، الثاني: سلمان الفارسي، الثالث: ابن مسعود، الرابع: عبد الله بن سلام، الذي كان يهودياً، فأسلم، قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -هذا كلام معاذ-، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه عاشر عشرة في الجنة، خذوا العلم عن هؤلاء)، فأوصاهم بأن يواصلوا طلب العلم، وأن يأخذوا من بعده عن غيره.
وصية أبي الدرداء
أما أبو الدرداء رضي الله عنه، فإن أم الدرداء رضي الله عنها قالت: [إن أبا الدرداء لما حضرته الوفاة، قال: من يعمل لمثل ساعتي هذه؟ من يعمل لمثل مصرعي هذا؟ من يعمل لمثل يومي هذا؟ ثم تلا قول الله عز وجل: ((وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ))[الأنعام:110]]، ثم قضى رضي الله عنه وأرضاه.
وصية عبادة بن الصامت
عبادة بن الصامت، قال الوليد بن عبادة بن الصامت: (لما حضرت أبي الوفاة -كما في سنن الترمذي- قلت له: أوصني، قال: أوصيك بتقوى الله، والإيمان بالقضاء والقدر، خيره وشره، فإنك لو مت، وأنت لا تؤمن بالقدر خيره وشره، أدخلك الله النار، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أول ما خلق الله القلم، قال: اكتب؛ فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة).
أما وصيته الثانية: فهي وصيته للصنابحي -وهي مشهورة-: (دخل عليه الصنابحي -وهو أحد تلاميذه-، فلما رآه الصنابحي وهو في حالة النـزع، حزن وبكى، فقال له عبادة: ما يبكيك؟ أما والله لئن استطعت لأنفعنك، ولئن شفعت لأشفعن لك، قال: وما من حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حدثتكموه، إلا حديثاً واحداً، وسوف أحدثكموه اليوم، وقد أحيط بنفسي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، حرمه الله تعـالى على النار).
وصية أبي هاشم بن عتبة
أبو هاشم بن عتبة -كما في سنن النسائي- (جاءه معاوية بن أبي سفيان يعوده، وهو في مرض الموت، فبكى، فقال له معاوية: يا خالي، ما يبكيك؟ أَوَجَعٌ يُشْئِزُك -يعني ألم تحس به-، أم جزع على الدنيا؟ -تبكي على الدنيا؛ فقد ذهب صفوها، وبقي كدرها.
فقال له: على كل لا -لا أبكي من وجع، ولا أبكي على الدنيا-، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهداً، فوددت أني حفظته، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يكفيكم من الدنيا خادم ومركب، قال: فأدركنا، فجمعنا).
أحبتي، وصايا العلماء أمرها يطول، وقد ذكرت لكم هذه الوصايا، مما التقطته من كتب السنة النبوية -كما ذكرت لكم في مطلع حديثي-، ومن أراد المزيد من وصايا العلماء، من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، فليرجع إلى الكتاب الذي يعتبر مكملاً لهذه المحاضرة، وهو كتاب وصايا العلماء عند حضور الموت، للإمام الحافظ الربعي، وقد حققه الأرنؤوط تحقيقاً جيداً، وخرج في حلة قشيبة.
الأسئـلة
مقدمة الوصية
السؤال: نرجو إيضاح مقدمة الوصية التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكون كثير من الناس يجهل ذلك.؟
الجواب: في الواقع، لا أعلم وصية أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ معين، لكن ورد عن بعض الصحابة أنهم كانوا يوصون: أن الإنسان يكتب في وصيته أن: "هذا ما أوصى به فلان، وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله، ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور"، يوصي أهله وولده بتقوى الله عز وجل، والمحافظة على الصلوات الخمس، وإقامة الفرائض، وتجنب المناهي، والبعد عن قرناء السوء، ويكتب ما في باله من الوصايا، من الأمر بتقوى الله، ثم يوصي بما يتعلق بأمواله، يوصي بثلث ماله، أو ربعه، أو خمسه، ويوصي بما عليه من الديون، ونحوها.
التسجيل في المراكز
السؤال: كثير من الشباب يأبى التسجيل في المراكز، بحجة حفظ الوقت، مع أنه يستفيد منها، ويفيد فيها، فما رأيك في ذلك؟
الجواب: في الواقع أن من كان يستفيد ويفيد، ينبغي أن يبذل، ويزكي بعض ما آتاه الله عز وجل، فإن مثل هذه المراكز يجتمع فيها -كما تعرفون وتلاحظون- جمع غفير من الشباب، فمن كان يستفيد، فينبغي أن يأتي ليستفيد، ومن قال: لا أستفيد، فنقول: معنى ذلك أنك لديك علم، ولديك معرفة، ولديك خير كثير، فينبغي أن تأتي؛ لتفيد، ولا تترك هؤلاء الشباب بدون أن يوجد من بينهم من يوجههم، ويرشدهم.
حديث: (لا هجرة بعد الفتح)
السؤال: ما صحة الحديث الذي في مسند أحمد (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية)؟
الجواب: الحديث ليس فقط في مسند أحمد، بل رواه الشيخان: البخاري ومسلم، عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا).
ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (لا هجرة بعد الفتح) يعني لا هجرة من مكة إلى المدينة؛ لأن مكة أصبحت بالفتح دار الإسلام، فلا يهاجر منها، بل يهاجر إليها: (ولكن جهاد ونية)، فالجهاد باق إلى قيام الساعة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة)، جهاد ونية، والنية أيضاً باقية إلى قيام الساعة: (فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).
حقوق العباد
السؤال: أنا شاب عندي مشكلة، وهي: أنني يراودني الشيطان الرجيم بأن للعباد حقوقاً يجب أن أؤديها لهم، رغم أنني اجتهدت في ذلك، حيث يذكرني بالأعمال السابقة؛ كالسرقة، ونحوها، وجهوني وجزاكم الله خيراً.
الجواب: إن كان بقي عليك حقوق للعباد، فينبغي أن تعمل على التخلص منها، مثلما إذا كنت تذكر أنك سرقت من أحد، فينبغي أن ترد إليه السرقة، إن كنت تذكر أنك اغتبت أحداً، فينبغي أن تتحلل منه، إن كنت لا تستطيع ذلك، أو لا تعرفه، أو تخشى أن يحقد عليك، فينبغي أن تكثر من الاستغفار له، وذكره في المجالس التي اغتبته فيها، فإذا أديت ما عليك، فأكثر من الاستغفار لله عز وجل؛ فإن العبد لا يمكن أن يقوم بجميع الحقوق، لكن الله عز وجل يقبل منك اليسير، ويعفو عنك الذنب الكبير.
لكن لا تظن أنك تقبل على الله تعالى بأعمالك، إنما: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته).
فأنت اعلم أنك لن تقبل على الله تعالى، وتدخل جنته بعملك، لكن برحمته جل وعلا، وأعمالك الصالحة التي تعملها تجعلك -إن شاء الله- أهلاً لرحمته: ((إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ))[الأعراف:56].
التوكيل في كتابة الوصية
السؤال: ذكرت أن الوصية تكتب قبل الموت، فهل يجوز توكيل شخص آخر في كتابة الوصية بعد الموت؟
الجواب: لا، لا يصلح أن توكل أحداً يكتب عنك وصيتك بعد موتك؛ فإنه بعد الموت أصبح المال لفلان، وفلان، وليس لك، فهذا الذي وكلته لا يصلح أن يكون نائباً عنك؛ بأن يقول -مثلاً-: أوصي بالثلث، أو الربع؛ لأن المال أصبح للورثة، فحينئذ هذه الوصية التي فعلها الوكيل باطلة، لكن يجوز أن توكله في حياتك، نعم، أما بعد الموت فلا.
علامات الموت
السؤال: هل هناك أمور تحدث للشخص توجب له كتابة الوصية قبل الموت، أو علامات تظهر على الشخص؟
الجواب: قد يكون هناك علامات، هناك من يرى رؤيا تدل على قرب أجله، وهناك من يمرض، والمرض بريد الموت، الحمى بريد الموت -مثلاً-، وإن كان المرض ليس بالضرورة:
وكم من فتىً أمسى وأصبح سالماً وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
وكم من صحيح مات من غير علة وكم من مريض عاش حيناً من الدهر
لكن هذه قرائن يستدل بها، كبر السن من الأدلة، ثم مع ذلك موت الفجأة! موت الفجأة اليوم أصبح كثيراً، عن طريق السيارات، الصدم، والانقلاب، وغيرها، عن طريق أحداث كثيرة، موت الفجأة مباشرة: ارتفاع الضغط، انخفاض الضغط، السكتة القلبية، أحداث كثيرة جداً، وأمراض كثيرة جداً جدّت اليوم، توجب للإنسان إن كان له شيء، أو عليه شيء، أن يكتبه، هذا هو الحزم كل الحزم.
أمارات الرؤيا الصالحة
السؤال: أسمع كثيراً عن الرؤيا الصالحة، فما هي أماراتها؟ وكيف نفرق بينها وبين توهيم الشيطان؟
الجواب: الكلام في هذا يطول، لكن الرؤيا الصالحة: هي أن تكون مبشرة، فيها خير، فيها بشارة، فيها سرور للعبد، في دينه ودنياه، ولي محاضرة في شريطين عن "الرؤى والأحلام"، يمكنك أن تراجعها.
لزوم الطهارة
السؤال: هل ورد الترغيب في بقاء الإنسان على طهارة كل وقته؟
الجواب: نعم، ورد الترغيب في بقاء الإنسان على طهارة كل وقته؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرص أن يكون طاهراً، كان يتوضأ صلى الله عليه وسلم -إذا أحدث- كثيراً، وفي البخاري، وغيره، قال لـبلال: (حدثني بأرجى عمل عملته)، فذكر أنه يتوضأ، ويصلي ركعتين، وكان يعجبه صلى الله عليه وسلم أن يكون على طهارة، حتى إنه عليه الصلاة والسلام إذا كان جنباً، يغتسل قبل أن ينام، فإذا لم يغتسل، فإنه كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ قبل أن ينام؛ لأن الوضوء يخفف من الجنابة، وقلما كان ينام عليه الصلاة والسلام وهو جنب دون غسل، ولا وضوء.
أعمال تعين على الثبات
السؤال: هل هناك أعمال وردت في الشرع لتعين الإنسان على الثبات عند الممات؟
الجواب: كل الأعمال التي وردت في الشرع تعين الإنسان على الثبات عند الممات؛ فإن العبد إذا كان مع الله تعالى في حال الرخاء، كان الله تعالى معه في حال الشدة، كما في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس -عند الترمذي، وأحمد، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح-: (يا غلام، إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة).
إذاً من الرخاء: حال الرخاء، الصحة، العافية، السلامة، ومن الشدة: حال الموت، مَنْ حفظ الله حفظه الله، ومن ضيع الله ضيعه الله، جزاءً وفاقاً، والجزاء من جنس العمل، ((وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ))[فصلت:46].
حكم مقاطعة قاطع الصلاة
السؤال: يوجد بعض من الأقارب على معصية ظاهرة: عدم الاهتمام بالصلاة، فهل مقاطعة هؤلاء تعتبر من قطيعة الرحم؟
الجواب: ينبغي أولاً: أن تبذل النصح لهؤلاء، بقدر ما تستطيع، وتوسل إليهم بكل وسيلة مباحة؛ لإيصال النصيحة إلى قلوبهم، وأشفق عليهم، أوصل إليهم بعض الكتب، بعض الرسائل، بعض الأشرطة، انصحهم، ذكرهم بأيام الله، أكثر عليهم، أحسن إليهم، فإذا يئست منهم، فحينئذ فإن هجرانهم مشروع مطلوب، خاصة إن كان الهجر سبباً في استقامتهم، فحينئذ يجب عليك أن تهجرهم.
طبع كتاب شرح بلوغ المرام
السؤال: هذا يسأل عن كتاب شرح بلوغ المرام، وهل شرحي لهذا الكتاب سوف يطبع؟
الجواب: فأقول له: نعم، إن شاء الله تعالى، أنا الآن بصدد تبييض الجزء الأول، وهو يتعلق بكتاب الطهارة، وإن شاء الله خلال أشهر سوف يطبع هذا الجزء.
أداء الأذكار
السؤال: أحياناً أذكر أذكار المساء قبل المغرب، وأحياناً بعد المغرب، فهل هذا جائز؟
الجواب: نعم، جائز، أذكار المساء إن قالها بعد صلاة العصر، أو قبل المغرب، أو بعد المغرب، كل ذلك جائز.
الخشوع في الصلاة
السؤال: هذا يسأل في موضوع الخشوع في الصلاة:
الجواب: الخشوع في الصلاة له أسباب:
السبب الأول: إزالة الشواغل القلبية، أن تقبل على الصلاة بقلب خال، أما إذا أقبلت على الصلاة بقلب متفرق في أودية الدنيا؛ جزء منه في المزرعة، وجزء منه في البنك، وجزء منه في المتجر، وجزء منه في البيت، وجزء منه يميناً، وجزء منه شمالاً، وجزء منه هنا، وجزء منه هناك، فلا مكان للصلاة، فلا بد من تفريغ القلب من الشواغل الدنيوية.
السبب الثاني: إزالة الشواغل المادية، مثل: أن يصلي الإنسان، يكون مقبلاً على صلاته، يبكر، يتوضأ، يصلي ركعتين، يقبل، ينظر في موضع سجوده، لا ينظر إلى ما أمامه، لا يصلي وهو حاقن، أو حاقب، لا يصلي وهو يسمع الأصوات المزعجة -مثلاً-، لا يكون في قبلته أمور تصرف بصره؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اذهبوا بأنبجانيتي هذه إلى أبي جهم، وأتوني بأنبجانية أبي جهم؛ فإن أعلامها لم تزلْ تعرض لي في صلاتي)؛ ولذلك كره أهل العلم -مثلاً- الصلاة في أماكن المعصية، كره أهل العلم الصلاة في الأماكن الملهية؛ لأن الإنسان ينشغل بها.
إخراج الكفار من جزيرة العرب
السؤال: قلت: إن الرسول عليه السلام أوصى أن يخرج الكفار من جزيرة العرب، فلماذا يوجد الكثير من الكفار هنا؟
الجواب: لماذا يوجد الكثير من الكفار هنا؟
هذا سؤال وجيه، نعم، الكفار الموجودون هنا أنواع، أكثرهم وجودهم لغير سبب، بمعنى: أنه يمكن أن يغني عنهم غيرهم من المسلمين، ونقول لمن استخدم كافراً -أياً كان هذا المستخدم، كبيراً، أو صغيراً- نقول له: ألا اتخذت حنيفاً:
لقد زل صاحبكم زلة أقر بها أعين الكافرين
تخيّر كاتبه كافراً ولو شاء كان من المؤمنين
الحمد لله، المؤمنون والمسلمون اليوم فيهم إمكانيات، ومواهب، وعندهم قدرات كبيرة، هناك أطباء، ومتخصصون، وعلماء على مستوى رفيع في أنحاء العالم، مع الأسف يشتغلون في بلاد كافرة؛ لأنهم لم يجدوا المكان المناسب في البلاد الإسلامية، وقد رأينا من هؤلاء كثيراً، وسمعنا عنهم، تجد في ألمانيا -مثلاً- ألوفاً مؤلفة من الأطباء المسلمين، يشتغلون هناك، متدينون، وعلى مستوى رفيع من الكفاءة والجودة، ولكنهم وجدوا هناك الخدمات المتوفرة، والرواتب المغرية، والاهتمام، ولم يجدوا مثل هذا في كثير من البلاد الإسلامية.
فكثير من الكفار يمكن الاستغناء عنهم، الإنسان الذي عنده مزرعة، فيأتي بعامل كافر، يعني ما في الدنيا عامل مسلم يستطيع أن يقوم بالمزرعة؟! عنده مؤسسة فيها أربعون عاملاً، ما بين خياطين، وما بين نجارين، وما بين سباكين، وما بين دهانين، يعني الدنيا ما فيها مسلم يعرف السباكة، ولا الدهان، ولا مثل الأعمال هذه؟! تأتيني من الفلبين بنصراني، أو مشرك، أو وثني، أو بوذي، أو من كوريا، أو غيرها؟! هذا دليل على ضعف الولاء والبراء، ضعف مشاعر الأخوة تجاه هؤلاء المسلمين.
الصنف الثاني: وهو قليل، بل لعله أقل من القليل، صنف قد يكون هناك ضرورة لوجوده (حاجة)؛ بمعنى ألا يوجد من يقوم مقامه، فهذا لا حرج، لو فرض أنه وجد مثل هذا، لا حرج أن يوجد بقدر الحاجة، ثم إذا وجد من يقوم مقامه، أو استغني عنه، يسرح.
بداية طالب العلم
السؤال: شاب يريد أن يبتدئ في طلب العلم في هذه الساعة، فبأي شيء ترشده أن يبدأ، ويثني، ويثلث؟
جزاك الله خيراً.
الجواب: أرشده أن يبدأ -أولاً- بكتاب الله تعالى، قال الله عز وجل عن القرآن: ((بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ))[العنكبوت:49].
فيبدأ بحفظ القرآن الكريم، هذا أولاً، فإن كان عنده فراغ، وزيادة من الوقت، فيمكن أن ينتقل إلى دراسة السنة النبوية، وليحفظ متناً مختصراً، يبدأ بـالأربعين النووية -مثلاً-، أضاف إليها ابن رجب ثمانية، هي اثنان وأربعون، أضاف إليها ثمانية، أصبحت خمسين حديثاً، يبدأ بحفظها، يمكن تحفظها في الإجازة، تستفيد، وتفيد، وهذا يتطلب منك وقتاً، وإذا انتهيت منه إن شاء الله، أرشدك أو يرشدك غيري إلى أمور أخرى.
المقصود بالجزيرة العربية
السؤال: يسأل عن المقصود بـجزيرة العرب في الأحاديث الواردة في الإخراج؟
الجواب: اختلف العلماء، بعضهم قال: جزيرة العرب: الحجاز، وبعضهم قال: الحجاز واليمامة، وبعضهم قال: جزيرة العرب هي جزيرة العرب المعروفة بحدودها المعروفة.
بقاء اليهود في اليمن
السؤال: لماذا بقي اليهود في اليمن إلى وقتنا هذا، فلم يخرجهم الخلفاء الراشدون ولا من بعدهم؟
الجواب: نعم، هذه من أدلة من قالوا: إن جزيرة العرب المقصود بها الحجاز واليمامة، هذه من أدلتهم، بل من أقوى أدلتهم، وإن كان عدم إخراج اليهود ليس دليلاً؛ لأنه قد يكون هناك صعوبات في إخراجهم، فبقوا.
تفسير المسيح الدجال تفسيراً باطلاً
السؤال: نسمع أن المسيح الدجال يئول أنه الحضارة الغربية، وكونه أعور؛ هذا لأن الحضارة ذات جانب مادي فقط؟
الجواب: هذا تأويل باطل أشبه بتأويلات الباطنية، وإنما المسيح الدجال رجل، إنسان، يعني: بشر من البشر، شخص معين، ذكر النبي عليه الصلاة والسلام له خصائص، في شكله، وهيئته، وسنه، وعمره، وما يأتي به، وأخباره، وأحاديثه متواترة، صنف فيها أحد العلماء كتاباً: التصريح بما تواتر في نـزول المسيح، حتى إن من اطلع على هذه الأحاديث، وأنكرها، فإنه يخشى عليه أن يكون كافراً، وهذا التأويل الذي ذكره الأخ -مع الأسف- تورط فيه بعض المفكرين المسلمين، أظن محمد أسد المستشرق النمساوي، الذي كان يهودياً، فأسلم، تورط في هذا التأويل، ووافقه عليه بعض المعاصرين، وهذه غلطة كبيرة ترتض منها العظام.
صراع مع النفس
السؤال: أنا شاب هداني الله إلى الطريق المستقيم، وظاهري الصلاح -إن شاء الله-، لكن القلب يحدثني باللهو والشهوات، ولله الحمد لا أستجيب للشيطان، فهل هذا يدل على أن الإيمان لم يلج في القلب؟
الجواب: لا بالعكس، هذا -إن شاء الله- يدل على أن الإيمان دخل القلب، والآن الشيطان يصارع في قلبك، ولعله -إن شاء الله- في الرمق الأخير، ويخرج، ومسألة مجرد وجود الهوى في القلب هذا طبيعي، يقول الله عز وجل: ((وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى))[النازعات:40]، لكن المهم هو أن تنهى نفسك عن الهوى، وأن تحرص على صحبة الأخيار، والطيبين، وأن تملأ وقتك بالأعمال المفيدة؛ لأن الإنسان إذا كان في وقته فراغ، فإن الشيطان يجره إلى أن يملأ هذا الفراغ بالمعصية؛ ولذلك قال الله عز وجل في آخر سورة الفرقان: ((إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً))[الفرقان:70-71]، وقال صلى الله عليه وسلم -أصله في البخاري- قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أسلم العبد، فحسن إسلامه -انظر الشرط-، كفر الله تعالى عنه كل سيئة كان أزلفها، وكتب له كل حسنة كان أزلفها)، حسنات العبد -حتى قبل الإسلام- تكتب له إذا حسن إسلامه، وسيئاته تكفر عنه، بل تقلب له حسنات، ((فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ))[الفرقان:70]، لكن بشرط، ما كل تائب تبدل سيئاته حسنات، الذي تبدل سيئاته حسنات هو التائب الذي حسنت توبته، وعمل صالحاً: ((تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً))، إذاً املأ وقتك؛ لأن النفس إذا ما ملأت وقتك بالأعمال الصالحة، يصبح -بعد فترة- عندها حنين للمعاصي السابقة، فحذار حذار.
سوء الخاتمة
السؤال: هل يعني سوء الخاتمة دخول صاحبه النار؟
الجواب: يختلف هذا الأمر، إن كان سوء الخاتمة بنطق كلمة الكفر -والعياذ بالله-، فإنه يعني أن صاحبه من أهل النار، مثلما ذكر لي أحد الشباب الثقات، قال: كان لي صديق، له أخ مسرف على نفسه، ومرض مرضاً شديداً، وحضرته الوفاة، قال: فحضر عنده أخوه، وكان حريصاً على هدايته، ويكلمه بالكلام الطيب، ويأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، قال: فلما دنت وفاته، قال له: هات لي المصحف، قال: فقام أخوه مسروراً، فرحاً، مستبشراً، قال: لعله أن يختم له بخير، قال: فلما أعطيته المصحف، قال له أخوه -والعياذ بالله-: أنا كافر بهذا الكتاب وما فيه! ثم مات على ذلك.
يقول: فلاحظت على قسمات أخيه زماناً طويلاً أنه كان يعيش حزناً مريراً، فقلت له: ما حزنك؟ هل لموت أخيك؟ كل الناس يموتون.
قال: لا، ليس حزني لموته، لكن الأمر كذا وكذا. فهذا -والعياذ بالله- نسأل الله السلامة.
أما إن كان سوء الخاتمة بكلام لا يدل على الكفر، فلا يلزم أن يكون صاحبه من أهل النار، الذين هم أهلها المخلدون فيها، مثلاً: ذكر مثل الإمام ابن القيم، يذكر بعض الوعاظ أحياناً إنساناً إذا حضرته الوفاة -مثلا- يتكلم باسم امرأة كان يعشقها، أو كان من أهل الدنيا، يتكلم باسم المال، والتجارة، والبيع، والشراء، فهذا لا يعني أن صاحبه من أهل النار الذين هم أهلها، لكن لا شك أن من علامات توفيق الله للعبد، وختمه له بخاتمة خير، أن يكون آخر كلامه من الدنيا: "لا إله إلا الله"، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح عن أبي سعيد وغيره: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله، دخل الجنة).
البكاء من خشية الله
السؤال: نسمع ونقرأ في سيرة السلف رضي الله عنهم أنهم كثيراً ما يبكون عند سماع القرآن وأخبار الصحابة، لماذا نحن لا نبكي عند سماع القرآن ابتداءً، وعند المواعظ والخطب؟! وكيف السبيل إلى البكاء من خشية الله تعالى؟
الجواب: نعم، ((إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً))[الإسراء:107-109]، فالخشية والخشوع هو العلم يا أخي الكريم، العالم الحق هو الذي يخشى الله تعالى: ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ))[فاطر:28]، قال الله عز وجل عن الذين آمنوا من أهل الكتاب: ((وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنـزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ))[المائدة:83]، رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـابن مسعود: (اقرأ علي القرآن، قال: أقرأ عليك، وعليك أنـزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى أتيت قوله تعالى: ((فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً))[النساء:41-42]، قال: حسبك الآن، قال: فالتفت فإذا عيناه تذرفان، صلى الله عليه وسلم).
قام ليلة حتى أصبح بآية: ((إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))[المائدة:11]، يرددها ويبكي.
أبو بكر رضي الله عنه كان رجلاً أسيفاً، إذا قرأ القرآن بكى، حتى لا يسمع صوته، ولا يدرى ما يقول، يختلط كلامه رضي الله عنه وأرضاه؛ ولذلك لما قال عليه السلام: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، قالت عائشة: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف، يبكي، إذا بكى لم يسمعه الناس).
عمر رضي الله عنه قرأ قول الله عز وجل في سورة يوسف: ((قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ))[يوسف:86]، فبكى، قال عبد الله بن شداد: وسمعت نشيجه وأنا في آخر الصفوف. هذا عمر الرجل القوي، الجلد، (...) كان يبكي، بل رضي الله عنه كان يقرأ الآية من كتاب الله تعالى، فيمرض، فيجلس أياماً يعاد في بيته.
القرآن الكريم هو دواء القلوب -يا أخي الحبيب-، أقبل على القرآن، تغن بالقرآن، اقرأ القرآن في خلواتك، تدبر الآيات، قف عندها، رددها، تأملها، عالج قلبك بالقرآن، والقلب الذي لا يشفى بالقرآن هذا لا حيلة فيه ((فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ))[الأعراف:185]، ((فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ))[الجاثية:6]، الذي لا يشفيه القرآن لا شفاء له، والذي لا يتعظ بالقرآن لن يتعظ ((فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ))[الأعراف:185].
هناك وسائل أخرى لترقيق القلوب، منها: الإحسان إلى اليتامى والفقراء والمساكين، منها صلة الرحم، منها قيام الليل، منها طلب العلم، منها كثرة الدعاء، منها الجلوس في مجالس الذكر، منها صحبة الأخيار، إلى غير ذلك.
صلة الأرحام
السؤال: لقد بينتم عظم حق الأرحام، ووجوب صلتهم، فمن مِن الأرحام تجب صلته، ومن منهم لا تجب صلته، ويسقط هذا الحق عنه، ألا يسقط عندما يكون الأرحام لا يأبهون بصلتي؟
الجواب: صلهم، وإن كانوا لا يأبهون بصلتك، أما الأرحام، فالأقرب، فالأقرب، الوالدان، الأخوال، الأعمام، الإخوة، الأخوات، لا شك، هؤلاء لهم حقوق، ثم الذين بعدهم، حقهم يصل، وهكذا، والصلة تكون لكل أحد بحسبه، من الناس من يحتاج إلى زيارة في الشهر مرة، أو في الشهرين، أو في الأعياد، ومنهم من يحتاج إلى أكثر من ذلك، ومنهم من يحتاج إلى دون ذلك، ومنهم من يكفيه أحياناً تتصل به ولو بالهاتف، وهكذا، كل إنسان بحسبه.
هذا ما تيسر، وأسأل الله جل وعلا أن يكتب هذا المجلس وأجره وبره وذخره لي ولكم في موازيننا يوم نلقاه.
اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا، وفي الآخرة، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، اللهم اجعلنا ممن تتنـزل عليهم الملائكة عند الموت: ((أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ))[فصلت:30]، اللهم وفقنا لصالح القول والعمل، اللهم اجعل خير أعمالنا أواخرها، وآخر كلامنا من الدنيا شهادة "أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله"، اللهم توفنا وأنت راض عنا غير غضبان، اللهم احشرنا في زمرة النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك، ونتوب إليك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق